انتعاش قطاع الاستثمارات والصناعات المحلية
رفعت الجزائر بجدارة رهان تحقيق الأمن الطاقوي القومي لمجابهة تحديات الأسواق العالمية وتهديداتها المُعقدة على الاقتصاد الوطني، واحتواء تزايد استهلاك الطاقة المحلي المرتبط ضمناً بنمو الوضعية الاجتماعية والتنموية، وتوجه الدولة نحو إنشاء قاعدة صناعية استثمارية كبرى في شتى القطاعات.
نجحت الجزائر في مقاربتها الطاقوية الجديدة، وحققت اكتفاءها الذاتي من المواد الحيوية المشتقة من المحروقات، في إطار تأمين الطّاقة في الحاضر والمستقبل للجزائريين، وضمان عدم الخضوع لأي اضطرابات بالأسواق الدولية، وتفادي أثارها السلبية المُقوِّضة لصيرورة تطور وازدهار الاقتصاد الوطني.
في هذا الخصوص، قال أستاذ العلوم الاقتصادية بجامعة سطيف، البروفيسور هباش فارس لـ«الشعب”، إنّ من بين أهم الإنجازات التي حققتها الجزائر الجديدة، وشكلت بها قفزة نوعية كبيرة، هو تحقيق الاكتفاء الذاتي من كل أنواع الوقود، على غرار البنزين والمازوت وكذا أغلب المشتقات النفطية الأخرى كالزيوت، الزفت، سوائل التشحيم وغيرها من المواد الأساسية التي تدخل في الصناعات والاستخدمات اليومية.
وأوضح هباش في تحليله لمضمون مخرجات اجتماع مجلس الوزراء الأخير، في شقِّها الطاقوي، أن الفضل في بلوغ الأهداف الطاقوية يرجع إلى سياسة البحث والتطوير التي انتهجتها شركة سوناطراك، وعملها الدؤوب على عصرنة وتطوير مصافي البترول السّت في البلاد، مما دفع بالقدرات الإنتاجية الوطنية إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي بالنسبة للوقود.
وتابع الأستاذ، بأن الاستهلاك الوطني من البنزين يبلغ حوالي 3.7 ملايين طن سنويًا، إلى جانب 10 ملايين طن من مادة المازوت بالتقريب، وهذا بعد أن كانت الجزائر تُنفق قرابة (2) ملياري دولار على استيراد الوقود من الخارج سنويا، حيث أدّى ذلك إلى استنزاف العملة الصعبة للخزينة العمومية وصرفها سابقا في مواد تعتبر الجزائر أحد أكبر منتجيها عالميا بشكلها الخام.
ومما عزّز أكثر هذا التوجه بصفة جلية، بحسب محدثنا، هو عمل السلطات العمومية على إنشاء محطة تكرير جديدة للبترول في حاسي مسعود، من شأنها الزيادة في قدرة الجزائر السنوية في ما يتعلق بإنتاج مادة المازوت إلى حوالي 13 مليون طن.
وأضاف هباش مستطردا: “بالعودة إلى الإحصائيات والأرقام، فقد زاد الاستهلاك المحلي من الوقود خلال سنة 2022م إلى 17.7 مليون طن، مع توقعات بأن يُواصل الاستهلاك النمو بوتيرة سنوية متصاعدة مقدارها 3 ملايين طن، أي ما يعادل 22 مليون برميل، وقد يزيد عن 40 مليون طن في حدود سنة 2050م”.
ووفقا للبروفيسور، انبثقت عن التوقعات الخطط الاستراتيجية لشركة سوناطراك لتطوير الإنتاج في ما يخص المشتقات النفطية، سواءً باستهداف بناء مصافي جديدة أو رفع قدرات المصافي السّت الحالية، وهو ما نجحت فيه الشركة العمومية لحد الآن، بدليل عدم القيام باستيراد الوقود للسنة الثالثة تواليًا.
كما تعد هذه المُنجزات الطاقوية خطوة جد مهمة في طريق ضمان الأمن الطاقوي للبلاد، الذي يُمثل أحد أكبر التحديات والرهانات العالمية في ظل حالة التوترات والاستقطابات الجيوسياسية الحاصلة في العالم، وانعكاسات ذلك على سوق النفط واضطراب حركة الملاحة البحرية، لاسيما في المضائق الدولية، بحسب قوله.
حالة اللاّإستقرار العالمي، مثلما شرح هباش، سترفع من الضغوط أكثر على الدول للبحث في مسائل ضمان تحقيق الاكتفاء الذاتي بمختلف أنواع المشتقات البترولية، منوهًا أن الجزائر بإنجازاتها الطاقوية الهامة جدًا ستكون أمام تحديات أخرى، في ضوء تنويع الاقتصاد الوطني وتطوير باقي روافد التنمية الاقتصادية، خاصة الصناعة والفلاحة، وبالتالي سترفع من تنافسيتها في مجال صناعة المواد النفطية المشتقة، وكذا التوجه الاستراتيجي نحو تثمين المُستخرجات الخام، كما أكد عليه في عديد المناسبات رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون.
إلى ذلك، حافظت السياسات الطاقوية في الجزائر بالأعوام الأخيرة، على توازنها، ونسقها التوزيعي الثابت للوقود بكافة أنواعه، وبأسعار مستقرة تعتبر الأقل في العالم، من أجل تلبية الطلب الداخلي المتصاعد، نظير تحسن الوضعية الاجتماعية والتنموية والاقتصادية، وانتعاش قطاع الاستثمارات والصناعات المحلية.
وقد حال تنفيذ تلك المقاربة على أرض الواقع، رغم الأزمات الدولية الحادّة وعدم رفع أسعار الوقود والمواد النفطية محليًا، حال دون حصول حالات تضخم كبيرة في الجزائر، على غرار ما حدث في كل الدول، خاصة المتقدمة منها؛ ذلك أن مشكلة التضخم لها عدة أسباب، أبرزها صعود قيمة المشتقات البترولية والغازية التي تندرج ضمن تكاليف الإنتاج الأساسية لمختلف البضائع.
