يــتــفــاعــل مع المـــشــهــد الحــضـــري ويـــتــحـــدى المــفــاهــيــم الـــتــقــليــديــة

فـــــــــنّ الــــــــشــــــارع.. إبــــــــداع “خــــــــارج الـــــــصــــــنــــــــــــدوق”

 

فنّ الشارع، حركة فنية معاصرة، وفنّ بصري محض تم تطويره في الأماكن العامة، ويتعلق الأمر بجميع أشكال الفنّ التي يتم إنتاجها في الشارع. ويتحدى هذا الفنّ المفاهيم التقليدية، ويتفاعل مع المشهد الحضري، كما أنّ طبيعته العابرة، وقدرته على تحويل الأماكن العامة، ونقل رسائل قوية، وتعزيز النقاش، تجعله مميزا. ومع ذلك، فإنّ وضعه القانوني المثير للجدل يؤكد الحاجة إلى الموازنة بين الحرية الفنية والمسؤولية الاجتماعية.
أسامة إفراح

يمكن تعريف فنّ الشارع (ستريت آرت)، أو الفنّ الحضري، بأنّه “عمل فني في الفضاء العام، تم إنشاؤه للاستهلاك خارج نطاق معرض فني نموذجي”، وهو مرادف بشكل أساسي لـ«الفنّ العام” لأنّه يشمل مجموعة متنوّعة من الوسائط مثل الرسم أو النحت أو الزجاج الملون. ويعدّ هذا التعريف، الواسع عن قصد، أمرًا أساسيًا لفهم نطاق ما يغطيه فنّ الشارع، لكنّ الجداريات العامة هي الشكل الأكثر شيوعًا لفنّ الشارع. يتم إنشاء هذه الأعمال الفنية الموسّعة، والتي غالبًا ما تكون واسعة النطاق، والتي يتم رسمها عادةً على الجدران المفتوحة أو جوانب المباني، في أغلب الأحيان بالشراكة مع الشركات أو العلامات التجارية أو المنظمات المحلية، ولكن يتم تكليفها أيضًا في بعض الأحيان من قبل مسؤولي المدينة لتثبيط ومنع الكتابة على الجدران التي تعتبر غير قانونية.

الخصائص والمزايا
يعدّ فنّ الشارع شكلا قويا من أشكال التعبير الفني الذي اكتسب شهرة في العقود الأخيرة. ويتطور هذا الفنّ تدريجيا من عمل تمرد إلى شكل فني مشهور، فهو يتحدى المفاهيم التقليدية للفنّ ويشرك المشاهدين بطرق جديدة. ويشمل فن الشارع في جوهره مجموعة واسعة من الممارسات الفنية، ومن خلال دمج الإبداع الفني مع المشهد الحضري، يكسر فنّ الشارع رتابة الحياة في المدينة، ويثير الحوار، ويعمل كمنصة للتعليق الاجتماعي.
وتكمن إحدى السمات المميزة لفنّ الشارع في طبيعته العابرة. وعلى عكس الأشكال الفنية التقليدية المعروضة داخل حدود المتاحف أو صالات العرض، فإنّ فنّ الشارع سريع الزوال ويخضع لأهواء الزمن والانحلال الحضري. ويضيف عدم ثباته جوًا من الإلحاح وعدم الكمال، مما يتطلب من المشاهدين التفاعل معه في اللحظة الحالية. على هذا النحو، يعد فنّ الشارع بمثابة تذكير دائم بأن الفنّ موجود خارج حدود المؤسسات التقليدية، حيث يجلب الخبرات الفنية مباشرة إلى الجمهور ويضفي طابعًا ديمقراطيًا على الوصول إلى التعبير الثقافي.
كما يمتلك فنّ الشارع قدرة فريدة على تحويل المساحات الحضرية المهملة إلى منشآت نابضة بالحياة ومثيرة للتفكير. وبإدخال الألوان والصور والمواد غير التقليدية في كثير من الأحيان على الجدران القاحلة أو المباني المتهالكة، يبث فنانو الشارع الحياة في المساحات المنسية، ويحولونها إلى لوحات فنية. ولا تعمل عملية الاستصلاح هذه على تنشيط المناظر الطبيعية الحضرية فحسب، بل تشهد أيضًا على القوة التحويلية للفنّ في حياة الإنسان. ويخلق فنّ الشارع حوارا مرئيا بين البيئة والمراقب، ما يعزّز تجربتنا الحية من خلال إقامة علاقة عميقة بين الفنّ والمجتمع والنسيج الحضري.
علاوة على ذلك، يلعب فنّ الشارع دورًا حاسمًا في إيصال رسائل اجتماعية وسياسية قوية. ويستخدم العديد من فناني الشارع فنهم كوسيلة للاحتجاج، والتعبير عن معارضة انعدام العدالة الاجتماعية، أو الفساد السياسي، أو الأزمات البيئية. ومن خلال استخدام الصور والرمزية الحية، فإنهم قادرون على إيصال الأفكار المعقدة بطريقة ملفتة للنظر، ويكون سهلا الوصول إليها. ويمكن لفنّ الشارع أن يتحدى الروايات الراسخة، ويثير التفكير النقدي، ويلهم العمل الجماعي، ويصبح مظهرا من مظاهر عدم الرضى، وتشجيع الحوار وتعزيز الوعي الاجتماعي.

خارجون عن القانون
من جهة أخرى، فإنّ لفنّ الشارع نصيبه من الخلافات والمناقشات القانونية. وبما أنّ أعمال هذا الفنّ غالباً ما تنطوي على التعدي على الممتلكات الخاصة، ويمكن أن يُنظر إليها على أنّها تخريب، فإنّ فناني الشوارع يواجهون بانتظام تداعيات قانونية بسبب أعمالهم. ويقول المنتقدون إنّ فنّ الشارع يقوض سلطة المدينة ويشجع على تجاهل الأماكن العامة.
وهناك من يفرق بين “فنّ الشارع” وهو الذي تعتبر ممارسته قانونية، و«الغرافيتيا” أو الكتابة على الجدران، وهي “غير قانونية”. وليست “الغرافيتيا” ظاهرة حديثة، ويشير البعض إلى ظهورها على عربات مترو الأنفاق في المدن الأمريكية الكبرى مثل نيويورك وفيلادلفيا في وقت مبكر من عشرينيات القرن الماضي.
نقرأ في موسوعة “بريتانيكا” أنّ “الغرافيتيا شكل من أشكال الاتصال المرئي، عادة ما يكون غير قانوني، ويتضمن وضع علامات غير مصرح بها على الأماكن العامة من قبل فرد أو مجموعة”. وحسب ذات الموسوعة، على الرغم من أنّ الصورة الشائعة للغرافيتيا هي رمز أسلوبي أو عبارة مرسومة على الحائط بواسطة أحد أفراد عصابات الأحياء، فإنّ بعض الغرافيتيا ليست ذات صلة بالعصابات. ويمكن فهم الغرافيتيا على أنّها سلوك غير اجتماعي يتم إجراؤه من أجل جذب الانتباه أو كشكل من أشكال البحث عن الإثارة، ولكن يمكن أيضًا فهمها على أنّها شكل من أشكال الفنّ التعبيري.
وتضيف “بريتانيكا” أنّ معظم السلطات القضائية لديها قوانين تحظر الغرافيتيا باعتبارها أعمالا تخريبية، وفي بعض البلدان تكون العقوبة شديدة. وخلال الثمانينيات والتسعينيات، تمت محاولة إيجاد طرق للقضاء على الغرافيتيا وإزالتها، وتم تخصيص موارد كبيرة للتنظيف، فيما قدمت بعض المدن برامج جدارية أو “جدران حرة” لتوفير الفرص القانونية لشباب المناطق الحضرية للتعبير عن إبداعاتهم الفنية.
ومع ذلك، يرى العديد من فناني الشارع أنّ فنهم هو بمثابة استعادة الأماكن العامة وانتقاد الاستغلال التجاري السائد للفنّ. وتسلط هذه النقاشات الضوء على التوتر بين التعبير الفني والفضاء العام والأعراف المجتمعية، ممّا يؤكد الحاجة إلى الحوار والنقاش الدقيق المحيط بشرعية فنّ الشارع كشكل من أشكال التعبير الثقافي.

عين على “الغرافيتيا” في الجزائر
للجزائر أيضا فنانوها في مجال “الستريت آرت”، ونجد منهم المحترفين، الذين صنعوا لأنفسهم أسماءً وسمعة فنية، وآخرين هواة، أو حتى مجهولي الهوية. كما تنتشر أيضا الكتابات على الجدران، أو “الغرافيتيا”، التي يفرق البعض، كما قلنا، بينها وبين فنّ الشارع.
ومن الأبحاث التي اهتمت بظاهرة الغرافيتيا بالجزائر، مشروع بحث بمركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية “كراسك”، أنجزه عدد من الباحثين تحت إشراف الدكتور كريم وراس، وحملت عنوان “الغرافيتيا والفضاء العام في الجزائر: الممارسات اللغوية والاستراتيجيات الخطابية”. وشمل هذا العمل البحثي عددا من المدن الجزائرية. ونذكر من بين الدراسات المشاركة في المشروع دراسة مريم بجاوي بعنوان “الغرافيتيا والهويات الحضرية في الأحياء الشعبية في الجزائر العاصمة”، وهي خلاصة عمل ميداني توصل إلى أنّ الغرافيتيا، سواء كانت لغوية أو ‏أيقونية، تساهم في وضع كلمات على الهوية الحضرية الجماعية المشحونة بالأحاسيس والمطالب.
تقول بجاوي إنّ هذه المساهمة، التي كان الهدف منها تقديم نتائج مسح ميداني تم إجراؤه لمدة ثلاث سنوات على ثلاثة أحياء تعتبر “شعبية” في الجزائر العاصمة، ليست سوى بداية لأبحاث أخرى في هذا المجال الناشئ. ومكنت هذه الدراسة من فهم المواضيع التي أثارها فنانو الغرافيتيا مثل الانتماء الرياضي، والهوياتي، وظاهرة “الحرقة”، ومسألة السكن. و«قمنا أيضًا بتحليل الكتابة على الجدران المتعلقة بالأخلاق ووعي المواطن”، تشير الباحثة.
وتضيف بجاوي أنّ المزيج اللغوي في الغرافيتيا ينعكس من خلال الانتقال من لغة أو مجموعة متنوّعة من اللغات إلى أخرى، ممّا يعطي حالات جلية من التداول الرمزي والاستعارات اللغوية. اللغات الموجودة في الجزائر ممثلة في الغرافيتيا المصورة، وتمثل خطابا يتميز بملامح الهوية الحضرية للشباب الجزائري. ويشكل الإبقاء على الهوية مجهولة في الغرافيتيا إحدى الخصائص الواضحة لهذا الخطاب الجداري الذي يسمح بانخراط مشاعر الشباب ومواقفهم السياسية في الفضاء العام العاصمي.
ويعدّ امتلاك الفضاء جانبًا أساسيًا في الكتابة على الجدران. ويستخدم فنانو الغرافيتيا هذه العملية الخطابية لتسليط الضوء على أنفسهم وخطاباتهم من خلال إضفاء الطابع الخارجي والتعبير عن الروح الحضرية في إعادة البناء المستمر.
وعلى الرغم من أنّ الكتابة على الجدران ما تزال تعتبر شكلاً من أشكال التخريب واللاتمدّن، إلا أنّها تشارك في عملية التنشئة الاجتماعية التي تقدم مجموعة مبنية من طرق القول والفعل والتفكير. إنّ الغرافيتيا ظاهرة اجتماعية تتطور في سياق التوترات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وغالبا ما تهدف إلى التعبير عن الخطابات الاحتجاجية. وهذا يعني أنّ الكتابة على الجدران مفيدة لشرح الروابط السببية في العلاقات بين المجتمع واللغات والهيئات السياسية والفضاء، تؤكد مريم بجاوي.

فلسطين.. الحاضرة دائما
وتجدر الإشارة إلى واحدة من الحالات التي ذكرتها الباحثة في دراستها، حيث تم أيضا إدراج كتابات ذات محتوى سياسي كجزء من البحث، وهي الكتابة على الجدران التي تم التقاطها بالكاميرا في أحد أحياء العاصمة، والتي تهدف إلى تكريم القضية الفلسطينية من خلال رسم العلم الفلسطيني على الحائط. ويرمز إلى هذه القضية أيضًا باستخدام الوشاح الفلسطيني (الكوفية) المدمج في هذا العلم. وتشير هذه الغرافيتيا إلى دعم الشعب الجزائري الدائم للشعب الفلسطيني المضطهد. ولاحظت الباحثة أنه، في الوقت الذي شوهدت فيه الغرافيتيا المتعلقة بالقضية الفلسطينية، لم تكن الساحة الدولية حينها تسجل أيّ اضطرابات معينة في منطقة الشرق الأوسط، “ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ العلم الفلسطيني يرمز في نظر الشباب الجزائري إلى المقاومة، والتطلع إلى الحرية”.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024