وجهة نظر

فلسطيني في أندونيسيا

بقلم د - مصطفى يوسف اللداوي كاتب وباحث فلسطيني

صحيحٌ أنّها تقع في أقصى جنوب شرق آسيا، وأنّها تبعد عن فلسطين آلاف الأميال، وتفصلها عنها بحارٌ ومحيطاتٌ، وجبالٌ ووهادٌ وقفارٌ وأنهارٌ، وأنها تختلف في طبيعتها عن بلادنا العربية جميعها، ولا تماثل فلسطين بسكانها شكلاً أو لوناً أو لساناً، ولا تنطق بضادنا العربية إلاّ تلاوةً للقرآن الكريم أو خلال أداء الصلاة، والصلاة والسّلام على رسول اللّـه ــ محمد صلّى اللّـه عليه وسلّم ــ رغم حبّهم للغة العربية وحرصهم الشديد على تعلّمها، وتفاخرهم بمعرفتها وإتقان بعض كلماتها، خاصةً أنّ الكثير منهم عمل أو درس في بلادنا العربية، فتعلّموا فيها ما استطاعوا من كلماتٍ بقيت في ذاكرتهم، يستعيدونها مع كل ضيف، ويردّدونها في كل حديثٍ، وكلّهم فخرٌ أنّهم يعرفون اللغة العربية ويتحدّثون بها.

لكن شعبها المسلم الذي يزيد في تعداده عن مائتي مليون نسمة، يتوزّعون على أكثر من سبعة عشر ألف جزيرة، تشكّل في مجموعها الأرخبيلي العجيب الدولة الأندونيسية، يميّزون فلسطين عن غيرها من البلاد العربية، ويحبّونها وأهلها دون سواهم، ويرونها جزءاً من عقيدتهم، وبعضاً من دينهم، إذ فيها القدس الشريف، ومسرى رسول اللّـه ــ محمد صلّى اللّـه عليه وسلّم ــ ومعراجه إلى السماوات العلى، ويذكرون أن فيها تميم الداري ونسله، وما اقتطعه رسول اللّـه ــ محمد صلّى اللّـه عليه وسلّم ــ له في الخليل ولذريّته من بعده، ويعتصرهم الألم أنّها والقدس وفلسطين كلها محتلة، وأن العدو الإسرائيلي يغتصب أرضها ويضطهد أهلها ويقتل رجالها، ويدمر بنيانها ويخلع أشجارها ويعيث فيها فساداً.
الأندونيسيون شعبٌ مسلمٌ عريقٌ في أصله، وعظيمٌ في دينه، وصادقٌ في وعده، وثابتٌ على عهده، لهفتهم على فلسطين كبيرة، وصدقهم لافتٌ، وإخلاصهم بادي، واستعدادهم صادق، وتضحياتهم حقيقية، وهمّتهم جاهزة، وعزيمتهم حاضرة، يؤمنون يقيناً أنّ فلسطين أرضٌ مباركةٌ، وأن القدس أرضٌ قد باركها اللّـه عز وجل وطهّرها بالأقصى وما حوله، الذي هو آيةٌ في كتابه الكريم يحفظونها ويردّدونها، وقدسه سورةٌ في قرآنه العظيم يتلونها آناء الليل وأطراف النهار إلى يوم القيامة، وستبقى فلسطين في أعناقهم أمانة، وفي قلوبهم وصيةً إلى قيام الساعة، ولن يألوا جهداً أو يتأخروا عن واجبٍ إذا دعتهم فلسطين لنصرتها، واستصرختهم لنجدتها.
كثيرون هم المصطافون العرب والسّائحون إلى أندونيسيا من الدول العربية، ولكنهم لا يثيرون انتباه الأندونيسيين ولا يحرّكون مشاعرهم، ولا يستوقفهم أحدٌ من رعاياها كما يستوقفهم الفلسطيني إذا عرفوه، فيلتفون حوله ويتحلّقون، ويتصوّرون معه ويتحدّثون، ويبتسمون له ويبشون، وكلّهم يريد استضافته في بيته أو محله، أو دعوته إلى مدرسته ومؤسّسته، أو إلى مسجده وجمعيته، يريدون الاستماع إليه والتبرك به، ظانين أنّ الفلسطينيين خلقٌ آخر، ينتسبون إلى الدوحة الشريفة بانتمائهم إلى فلسطين وإقامتهم فيها. وفي هذا صغار الأندونيسيين كما كبارهم، ونساؤهم كما رجالهم، وخاصتهم كما عامتهم، كلهم سواء، يحبون فلسطين وأهلها، ويبدون عواطفهم لأبنائها، ويسعدون باستقبالهم، ويفرحون باللقاء بهم والحديث معهم، ولا يملّون من الترحيب بهم والسّلام عليهم.
إنّهم لا يعرفون اللغة العربية، ولكن ألسنتهم إذا التقوا مع فلسطيني تنطلق من عقالها، وتفلت من إسارها، ويباشرونه مع التحية الكريمة بالابتسامة البشوشة، والسؤال عن القدس وأهلها، وعن المسجد الأقصى وعماره، وعن المرابطين فيه وأسراره، وعن الصخرة المشرفة ومسرى رسول اللّـه إليها، وعن معراجه وبراقه، وعن غزة وأهلها يسألون، وعلى أحوالهم يقلقون، فيحزنهم ما آلت إليه أوضاعهم من حصار الشقيق والعدو لهم، ولكنهم يزهون بغزة وانتصاراتها، ويحفظون مقاومتها وأهلها، ويرون أن النصر التام على العدو الإسرائيلي سيتحقق اليوم غداً، وأنه سيندحر يوماً عن فلسطين كلها، التي ستغدو حرةً أبيةً، عزيزةً كريمةً في كنف الإسلام العظيم الذي إليه تنتسب وتنتمي.
الأندونيسيون فقراء وليسوا أغنياء، وبسطاءٌ وكرماءٌ، أسمالهم بسيطة بوزرتهم الموروثة، وقبعتهم السوداء المصونة، حياتهم عادية، وشوارعهم هادئة، وبيوتهم متواضعة، ورواتبهم قليلة، ومداخيلهم محدودة، وديونهم كثيرة، وهمومهم عديدة، ومشاكلهم مختلفة، لكنهم يصرّون على أن يكون لهم في فلسطين دورٌ، وفي مقاومتها شريك، وفي جهادها سهم، ويحرصون على أن يكون لهم في فلسطين أثرٌ وعلى أرضها علامةٌ، وبين شعبها ذكرى ومكانة، فيجمعون من بيوتهم ما يستطيعون، ويقتطعون من قوتهم ما يقدرون، ويوفرون من رواتبهم أقصى ما يستطيعون، ويقدمونها لفلسطين وأهلها، مشاركةً لهم ومساعدةً، وعوناً لهم وغوثاً، وكلهم أمل أن يكون لهم دورٌ في صمودهم وثباتهم، ومساهمة في جهادهم وقتالهم.
يسأل الأندونيسيون بحرقةٍ وأسى، وحزنٍ وألمٍ، لماذا يختلف الفلسطينيون ويقتتلون؟ ولماذا يتشاجرون ويتسابون؟ ولماذا تدب بينهم المشاكل وتنشب بينهم المعارك، وهم جميعاً أبناء شعبٍ واحدٍ وأهل وطنٍ كريمٍ، وكلهم يخضع للاحتلال ويعاني منه ويقاسون من سياسته، وأبناؤهم جميعاً يقتلون ويسجنون، ويعذبون ويضطهدون، والعدو لا يفرق بينهم ولا يميز؟ فلماذا يقتتلون وعلام يختلفون؟ ومتى سيتفّقون؟ فقد أوجعهم ما رأوا من خلافٍ بينهم، فرفعوا الصوت يطالبونهم بالوحدة، ويدعونهم إلى اللقاء، ويرون أن فرقتهم جريمةً، واختلافهم معصية، ولقاؤهم فرضٌ وواجبٌ، والسعي بينهم بالصلح والاتفاق ضرورة.
الشعب الأندونيسي يعرف قسوة الاحتلال، ويدرك معاناة السكان، ويستشعر حجم الألم الذي يتركه الاستعمار في نفوس وقلوب الشعوب التي يحتل أرضها، ويغتصب حقوقها، ويدوس مقدساتها، ويهين كرامتها، فأندونيسيا خضعت للاستعمار الهولندي مدة ثلاثمائة عامٍ مريرةٍ قاسيةٍ، عانوا فيها من الظلم والاضطهاد، ومن الجور والجوع والحرمان، وقاسوا من الجهل والفقر والتهميش، وقدموا في سنوات الاستعمار السوداء عشرات الآلاف من أبنائهم شهداءً، الذين ضحوا من أجل الوطن، وفي سبيل حريته، لكنهم تمكنوا من طرد الاستعمار الهولندي ومن بعده اليابان التي حاولت احتلال أوطانهم مدة ثلاثة سنوات، إلا أنها أمام صمود وإصرار الشعب الأندونيسي رحلت ولم تستطع البقاء، كما غارت هولندا وجيشها، وقد ظنت أنها باقية فيها إلى الأبد، وأنها لن ترحل عن أرضهم مدى العمر.
الأندونيسيون شعبٌ مكافحٌ جلدٌ صبورٌ، واثقٌ مؤمنٌ وغيور، يصدقون فلسطين النصح، ويتوجّهون إليها بالدعاء، ويغدقون عليها بالعطاء، ويؤمنون أنها ستتحرر وستعود إلى أصحابها وسيعود إليها أهلها، تماماً كما تحرّرت أوطانهم ورحل الاستعمار عن بلادهم، وتجربتهم في هذا المسار كبيرة، وخبرتهم واسعة، وعقيدتهم راسخة، وها هي بلادهم عالية البنيان، منيعة الأسوار، واثقة الخطى، متقدمة العلوم، حديثة التطور، وقد نهضت وكبرت، وعظمت وقويت، وأصبح لها بين الأمم مكانةٌ وشأنٌ عظيمين، نفتخر بها ونعتز، وندعو الله لها ولشعبها بالرفعة والتمكين.
باليمبانغ / أندونيسيا 

الكاتب في سطور

❊ من مواليد مخيم جباليا بقطاع غزة في العام 1964.
❊ متزوّج وله ثلاث بنات، مقيم في دمشق وبيروت.
❊ شقيق الشهيد فؤاد يوسف اللداوي، الذي استهدفت الطائرات الإسرائيلية سيارته في غزة مساء يوم 13 يونيو / حزيران 2003.
❊ حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، وليسانس شريعة إسلامية.
❊ معتقل سابق في السّجون والمعتقلات الإسرائيلية لتسعة مرات.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024