الحـج في الإسلام

جعله اللّه وسيلة لتكفير السيئات وطريقاً لرفعة الدرجات

العبادات جميعها وإن اختلفت صورها، وتنوعت أشكالها، إلا أنها تلتقي عند غاية واحدة، وهي تحقيق العبودية لله تعالى، بأداء ما افترض، وبالإخلاص له في جميع الطاعات، والتوجه إليه في جميع الأحوال.

وحينما نتحدّث عن الحج كواحد من هذه القرب والطاعات، نجد أن هذه العبادة من أعظم الشعائر، وأقواها في تحقيق العبودية للّه تعالى، وذلك لاشتمالها على جملة من العبادات، التي تحمل من الحِكَم والمعاني ما يدرك بمقدمات العقول قبل أواخرها. فالحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، فرضه الله تعالى على القادر المستطيع من المسلمين المكلفين، قال تعالى: ﴾وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً«، وقد شرع الحج لمقاصد سامية، وغايات نبيلة، وأهداف عظيمة، من ذلك:
@ أولاً: تحقيق العبودية للّه تعالى: ففي الحج يتجلى معنى العبودية للّه تعالى بشكل واضح؛ فتجد الحاج متذللا، خاضعا منكسرا بين يدي مولاه، رافعا عقيرته بالتلبية المشتملة على إفراد اللّه تعالى بالعبادة، متبرئاً من حوله وقوته إلا باللّه تعالى، خارجاً من ملاذ الدنيا، تاركاً ماله وأهله ووطنه، مقبلاً على ربه، استجابة له، وتظهر العبودية في طوافه بالبيت الذي أمر الله تعالى بالطواف به، ﴾وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴿ استجابة لأمر اللّه تعالى، فهو لا يطوف ولا يسعى حول شيء من الأبنية إلا حول الكعبة، وبين الصفا والمروة تحقيقاً للتوحيد، وتظهر العبودية في كشفه رأسه، ولبسه ثياب الإحرام، وتركه المحببات إلى النفس، كالطيب والنساء وسائر ما يترف به العباد مثل قص الشعر وتقليم الأظفار، كل هذا بخشوع وتذلل امتثالاً لأمر اللّه تعالى وطلباً لعفوه ومرضاته، ثم إن شعاره منذ أن يدخل في الإحرام إلى حين رمي جمرة العقبة والحلق هو رفع عقيرته بالتلبية المشتملة على التوحيد: لبّيك اللّهم لبّيك لا شريك لك لبّيك، ثم رمي الجمرات، والحلق أو التقصير، كل هذا هو مقصود العبودية الأعظم، ومآله ــ بإذن اللّه تعالى ــ محو الذنوب، وتكفير السيئات، فيعود الإنسان بعد حجه بحياة جديدة، بيضاء نظيفة، طاهرة نقية.
ثانياً: إقامة ذكر اللّه عز وجل، قال تعالى: ﴾لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ«، وقال عز وجل: ﴾لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ، أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ، فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً﴿.
وقد بيّن النبي ــ صلى اللّه عليه وسلم ــ أن الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار إنما شرع لإقامة ذكر اللّه تعالى، وذكر اللّه تعالى هو المقصود الأعظم من العبادات، وأعظم الذكر الذي يلهج به الحاج هو ''لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له''، وهو ذكر جميع الأنبياء والمرسلين، ولا يخفى قيمة الذكر، وفوائده الكثيرة، وعوائده الأثيرة.
ومن مقاصد الحج أنّ اللّه تعالى جعله وسيلة لتكفير السيئات، وسبباً في محو الذنوب، وطريقاً لرفعة الدرجات، وأعظم ما يصور هذا الأمر ما رواه عمرو بن العاص ــ رضي اللّه عنه ــ أنه لما اشترط على النبي ــ صلى اللّه عليه وسلم ــ ساعة بيعته له، أن يغفر اللّه له ما سلف، قال له النبي ــ صلى اللّه عليه وسلم ــ ''أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنّ الحج يهدم ما كان قبل''، وصح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنّه قال: ''من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه''.
من مقاصد الحج تذكّر حال الأنبياء والمؤمنين، وما كانوا عليه من قوة الإيمان واليقين، فيذكر توحيد إبراهيم ــ عليه السلام ــ وهجرته إلى ربه، واستسلامه للخطب الجسيم، في ذبح ابنه وبكره وفلذة كبده إسماعيل، امتثالاً لأمر اللّه، وكيف أنه صبر للبلاء المبين، ففداه اللّه تعالى بذبح عظيم، حينما علم صدق تسليمه، وامتثاله لرب العالمين، فقدم محاب ومراد ربه على محاب ومراد نفسه.
ويتذكّر الحاج ما كان من أمر أمّنا هاجر ــ عليها السلام ــ حينما سعت بين الصفا والمروة بحثا عن ماء تشربه؛ لتدر باللبن على وليدها إسماعيل، وقد أصبح ذلك السعي طريقة باقية إلى يوم الدين، وركناً من أركان الحج.
فاستشعار هذه المعاني ــ وغيرها كثير ــ في مرتبة الضرورة للمسلمين، وينبغي على المعنيين بالأمر الإكثار من الحديث عنها، عبر الوسائل المتنوعة والمتاحة، وذلك لكون حج غالبية المسلمين يفتقر إلى معرفة هذه المقاصد. وفي تقديري أن هذه المعاني بالنسبة للحاج كالروح للجسد، وإلا فما قيمة حج يرجع الإنسان منه كما جاء إليه، لم يغير في نفسه ولا سلوكه شيئاً، بل الأدهى من ذلك حينما تشاهد الممارسات الخاطئة أثناء تأدية المناسك، ما يوحي إليك بأن من هذه حاله لم يفقه بعد معاني الحج ومقاصده.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024