احتضنت البطولة والتّضحية

معركة الجرف (22 - 29 سبتمبر 1955)

إعداد: الأخضر رحموني

 تحتفل ولاية تبسة بالذكرى 66 لمعركة الجرف التي تعتبر من المعارك الكبرى التي شهدتها الولاية الأولى - أوراس النمامشة - ودامت ثمانية أيام من 22 إلى 29 سبتمبر 1955 بين جنود جيش التحرير الوطني وعساكر الاستعمار الفرنسي. هذه المعركة خلّدها الشّاعر الجزائري محمد الشبوكي في نشيده - جزائرنا يا بلاد الجدود - حيث يقول فيه:

سلوا جبل الجرف عن جيشنا
فيخبركم عن مدى بطشنا.

وخلّدها أيضا الشّعراء بالملحون الذين ذكروا المعارك التي وقعت بالجبل الأبيض في قولهم:
لجبل الأبيض مسكين
واش بيه غضبان ومضبب
في الحين
راهو على اشريط والزين
والأزهر طارت له عين .

دائرة العقلة من ولاية تبسة التي يقع بها جبل الجرف هي مسقط رأس الشيخ الشهيد العربي التبسي (1895 - 1957) أحد أبرز رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين، والشهيد البطل الأزهر شريط (1914 - 1957) الذي أصاب ببندقيته القائد الفرنسي بيجار، والمربّي الشاعر الأستاذ سعدي الطاهر حراث (1926 - 1981) المشرف على شؤون اللاجئين الجزائريين بتونس.
وبهذه المناسبة الخالدة على الشّعب الجزائري، عادت بنا الذاكرة الى التحقيق الصحفي الذي قام به الدكتور حسان الجيلالي - يوم كان متعاونا مع جريدة «النصر» - تحت عنوان «صانعو التّاريخ يتحدّثون..معركة الجرف: حطّمت كبرياء الاستعمار وبعثت الاطمئنان في نفوس المواطنين» حتى نستفيد منه في نقل وقائع ومجريات المعركة من خلال المعطيات والمعلومات التي سجّلت من أفواه صانعيها من المجاهدين.

موقع المعركة

 تقع بلدية السطح دائرة العقلة في مدخل الصحراء الجزائرية الشرقية، وتمر بها جبال الأطلس الصحراوي،
ويتربّع بجنوبها الشرقي جبل الجرف الأشم والجبل الأبيض، اللذين يلتقيان جغرافيا بوادي هلال الذي يوجد به منبع للمياه العذبة. وهو يمتد جنوبا إلى بلدية نقرين،
وغربا الى أولاد رشاش، وشرقا بلدية الشريعة التي يبعد عنها بحوالي 70 كلم. وتبعد منطقة الجرف سوى بنحو 50 كلم عن الحدود التونسية.
جبل الجرف صعب المسالك بالغ في ارتفاعه، وهو جبل صخري يمتد على مسافة 03 كلم مكسوة بغابة العرعار،
ويقع بجانبه وادي الجرف. وبه وقعت معركة الجرف الخالدة التي تعتبر من أعنف المعارك وأكثرها ضراوة باعتراف الفرنسيّين أنفسهم، حسب ما جاء في جريدة «لاديباش» الفرنسية الصادرة بقسنطينة في عددها ليوم 29 سبتمبر 1955.

التّحضير للمعركة

 عن السؤال المطروح على المجاهدين الذين شاركوا في معركة الجرف حول كيفية التحضير للمعركة وأسبابها الرئيسية، أجاب المجاهد عباد الحبيب «هذه المعركة لم تأت صدفة، بل سبقتها عدة تحضيرات، كما سبقتها عدة معارك في جبال النمامشة. فعندما تمّ إلقاء القبض على القائد الشهيد مصطفى بن بولعيد - الذي كان يشرف على قيادة الولاية الأولى - في بداية سنة 1955، خلفه القائد بشير شيحاني. شارك شيحاني في معركة آم الكماكم التي وقعت في جويلية 1955، ولما تبين له أن للمجاهدين قدرة كبيرة على القتال، قام بتنظيم مؤتمر شعبي في رأس الطرفة، الذي يقع على بعد 08 كلم شرق الجرف في مساء أحد أيام العشرية الثانية من شهر سبتمبر 1955، وقد حضره المجاهدون وبعض المواطنين. خطب شيحاني في هذا المؤتمر خطابا شهيرا، واستطاع أن يبث الروح الثورية ويرفع من معنويات المجاهدين والمواطنين. وقد حضر هذا المؤتمر العديد من الشخصيات مثل: عباس لغرور وفرحي ساعي والزين عباد ومحمد بن عجرود والأزهر دعاس وغيرهم...بعد هذا الاجتماع كنّا نتوقّع أنّ الاستعمار الفرنسي ستصله لا محالة أخبار كل ما جرى في هذا اللقاء التاريخي، لذلك اتّفق الجميع على المكان الحصين الذي يحمي المجاهدين من الهجوم وهو جبل الجرف. وبعد أيام تمركزنا في الجبل بعد القيام بتحضير المؤونة اللازمة، وتوزّعت أفواج المجاهدين في كل الأنحاء من الجبل. وبعد يومين من تمركزنا، حلقت طائرة استطلاع فرنسية، فأمرتنا القيادة بأن لا نطلق النار عليها، وفي نفس اليوم خرج المجاهد فارس محمد بن عجرود في مهمة خاصة من طرف القيادة الوطنية، ولما وصل الى مكان اسمه – فرطوطة – عرف أن القوات الفرنسية كثيرة العدد والعدّة، وأن أغلب المجاهدين الذين كانوا معه لا يملكون أسلحة يدافعون بها عن أنفسهم، ممّا اضطرّه إلى إخفائهم في غار بالجبل، وسدّ عليهم باب الغار ببعض الصخور، وقال لهم: إذا عشنا وكتب الله لنا الحياة فسنخرجكم من الغار، وإذا متنا فسنكون عند الله من الفائزين بالجنة، ثم التحم فوج المجاهدين الذي كان يقوده فارس محمد بن عجرود مع القوات الفرنسية الهائلة، لكن هذه الأخيرة استطاعت أن تقضي على جماعة فارس، وكان عددهم يقدر بحوالي 40 مجاهدا وهكذا بدأت المعركة الحقيقية».
أمّا المجاهد مسعي لسود فهو يقول: «من بين الأسباب الحقيقية لمعركة الجرف أنّ قيادة الولاية استفادت من المعارك السابقة التي وقعت بالجهة، والتي أثبتت قوة المجاهدين، وأشعرت فرنسا بضعفها أمام إيمان وصمود الثوار، ومن بين هذه المعارك معركة حليق الذيب ومعركة آم الكماكم التي دامت يوما كاملا، وكلها برهنت على القدرة الكبيرة التي يتمتع بها المجاهدون في القتال والحروب».

مراحل سير المعركة

يقول المجاهد عباد الحبيب «بعد المؤتمر الشعبي، قامت القيادة بتنظيم اجتماع مُضيّق، وتمّ اختيار المكان الذي ستدور فيه المعركة، وتبرّع المواطنون بالمؤونة اللازمة والأسلحة وحتى علف البغال، التي ينتقل فوقها المجاهدون، كانت متوفرة.
بعد التمركز بالجرف، نظّمت دوريات عسكرية لسد كل الطرق التي تؤدي الى مكان التمركز. كما قامت دورية أخرى بمراقبة القوات الفرنسية التي حطت رحالها وتمركزت في مواقع عديدة، وطوقت جبل الجرف من جميع الجهات، كما حفروا الخنادق و تموهوا في الحفر واستعدوا للمعركة».
ويضيف المجاهد عاشور لزهر: «بدأت القوات الفرنسية بتقدّم المشاة والدبابات، ووجّهت أسلحتها الى ضرب المسجد الموجود في أعلى سفح الجبل، كما قامت بضرب الإبل والغنم بسلاح مدافعها، كما وجهت أسلحتها الى المجاهدين المتخندقين وسط المغارات، والذين كانوا في مقابلة القوات الفرنسية، وفي منتصف النهار من ذلك اليوم، بدأ الجيش الفرنسي في التقدم راكبا الجياد والبغال. ولما اقتربوا من المجاهدين قالوا لهم بالحرف الواحد (باتوا حتى نذهب غدا الى تبسة لشرب القهوة).
وفي اليوم الثالث وصلت الدبابات الفرنسية إلى وادي الجرف.
لم تتقدّم القوات الفرنسية في اليوم الأول، لكنها في اليوم الثالث اقتحمت وادي الجرف، وفي تلك الليلة كنا مختفين في مغارة، وقد فرغت لنا الذخيرة، فاجتمع بنا القائد عباس لغرور وقال لنا: إن الذخيرة فرغت منا، والجيش يقترب من خنادقنا، وإذا بقينا هكذا فلا شك أنه سيقضي علينا، وطلب منا أن نبدي رأينا. فاتفقنا جميعا على الخروج من المغارات، وفي تلك الليلة نهض الشهيد فرحي ساعي وخاطب قوات العدو بقوله: إنّنا سنخرج والذي يريد أن ينضم إلينا فأهلا به وسهلا، والذي يريد أن يعترضنا فسنسحقه»، وبعد الإنتهاء من كلامه نزلت علينا القنابل من كل اتجاه، وبعد ذلك خرجنا من المغارات، واكتشفنا الجيش الفرنسي فدخلنا معه في التحام بالسلاح الأبيض وسط الوادي.
أما المجاهد بوعكاز علي فيروي حادثة خروجه من الجرف بقوله: «كان خروج المجاهدين من الخنادق والمغارات يتم تدريجيا، فكل فوج يخرج لوحده ثم يتبعه الفوج الموالي وهكذا، وكان فوجنا آخر من خرج، فوجدنا السلاح والجثث مرمية على الأرض، فغنمنا كل أسلحة الفرنسيين، وعثرنا على بعض الجرحى من المجاهدين فأخذناهم معنا، وبقيت قوات العدو تطاردنا أكثر من أسبوعين، ولكن الله نجانا من ظلمهم وكيدهم».
هنا تدخّل المجاهد عباد الحبيب ليضيف: ظلّت قوات الاستعمار تطاردنا من مكان الى آخر، فقد طاردونا في مسحالة وفي الدحي، وأخيرا استطاعت كل الأفواج أن تلتقي في – الجديدة – وبها قمنا بإحصاء المفقودين والغنائم التي تحصلنا عليها، حيث غنمنا أكثر من 85 بندقية من مختلف العيارات، بالإضافة الى كثير من الملابس والمأكولات، غير أن جيش الاستعمار حاصرنا في - الجديدة - فلجأنا الى خنق الأكحل. أما في جبل الجرف فقد أقام الاستعمار مركزا للمراقبة، وبقي يراقب الجبل لسنوات عديدة.
أما القائد شيحاني بشير وبعض الجنود الذين كانوا معه، فقد سد عليهم باب الغار الموجود في مقر القيادة بفعل نسف الاستعمار له، ولبثوا في الغار أكثر من 15 يوما حتى لمحوا بصيصا من النور يتسرب في الغار، فاتبعوا ذلك البصيص حتى تمكنوا من الخروج من شق في الغار، ولم تستطع فرنسا إلقاء القبض عليهم، والذين كانوا معه هم: محمد الشامي ومحمد الأصنامي والبزويش التونسي وبوبكر سالمي وأحمد ازديرة.

عدد الجيش وعدّته

- أولا - جيش التّحرير:

شارك في معركة الجرف أكثر من 400 مجاهد، واستعملت فيها أسلحة مختلفة منها بنادق ايطالية تعود الى الحرب العالمية الثانية، احتفظ بها الشعب وقدمها الى المجاهدين مع بعض البنادق الألمانية من نوع الخماسي والثموني وبعض بنادق الصيد.
أما عدد شهداء هذه المعركة فيقدر بحوالي 100 شهيد من بينهم: فارس محمد بن عجرود و دعاس لزهر وبخوش محمد و محمد الأصنامي.
أما الذين قادوا المعركة فعلى رأسهم بشير شيحاني ونائبه عباس لغرور وبشير سيدي حني وعجال عجول والوردي قتال والزين عباد.

- ثانيا -  جيش الاستعمار الفرنسي:

تقدّر القوات الفرنسية المشاركة في معركة الجرف بعدة آلاف من الجنود. واستعملت فرنسا أكثر من 40 طائرة قاذفة قنابل، و20 هيليوكبتر لنقل جنودها، كما استعملت الدبابات والكومندوس ومختلف أنواع الجيوش كالمشاة. وفقد العدو في المعركة أكثر من 500 جندي، ودمّرت له خمس طائرات.

صدى المعركة في الصّحافة

 الانتصار الذي حقّقه المجاهدون في هذه المعركة الكبيرة أعاد الثقة الى الأهالي ورفع من معنوياتهم، كما أن المجاهدين أصبحوا يقومون بمعارك أخرى أكثر تخطيطا استراتيجية. أما الاستعمار الفرنسي فقد تلقى هزيمة نكراء، حيث كان يعتقد أن هؤلاء (المتمردين حسب تعبيره) يمكن القضاء عليهم بسهولة، غير أنه اكتشف بسالة المجاهدين وتضحياتهم من أجل الانتصار ونيل الحرية، كما أنّ مجموعة من عملاء الاستعمار وأذنابه انضموا الى صفوف جيش التحرير الوطني، وأصبحوا بعد ذلك من ثواره البواسل.
وكتبت جريدة «المجاهد» في عددها الأول وفي الصفحة رقم 11 عن هذه المعركة التاريخية تحت عنوان (معركة الجرف يأس الاستعمار) تقول: «إنّ الاستعمار ليس له حظ مع الجرف، ففي شهر سبتمبر من السنة الماضية (1955)، تكبّد العدو ومرتزقته في هذه المنطقة هزيمة ثقيلة، خسر فيها أكثر من 400 قتيل وثماني طائرات وإصابة ثلاث دبابات. كما غنمت قواتنا كميات كبيرة من الذخيرة من بينها 02 بازوكا – سلاح مضاد للدروع – وجهاز اتصال
و40 بندقية».
وجاء في جريدة «لاديباش» الفرنسية في عددها رقم 16396 الصادر يوم الخميس 29 سبتمبر 1955، اعتراف  فرنسا بصعوبة المنطقة ومسالكها الوعرة فتقول «نظرا لصعوبة المنطقة لكونها منطقة جبلية صعبة المسالك لكثرة وهادها و لارتفاعها الشاهق، فإنّ هذه العملية تعد صعبة وكثيرة المخاطر، ولذا فإنّ مهمة القوات المرابطة في الجزائر هو مراقبة منطقتي واد عرب وواد بني بربر. أما القوات الآتية من تونس فتقوم بمهاجمة منطقة واد هامل من الشمال والجنوب الواقعة في - واد المشري - وكذلك المنطقة الصعبة لكل من جبل جرار وجبل عبيو، وإذا كانت القوات الموجودة في الجزائر لم تجد أية صعوبات أثناء زحفها، إلا أن القوات الآتية من تونس قد اصطدمت مع الطلائع الأولى في أول يوم من بداية العملية، وبدأت المعارك الطاحنة في شمال المزرعة».

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024