فرقّت بينهمـا مناهــج الفكر ووحدّتهمـا ثورة التحرير المباركـة

آرون وسارتر..كلمـة واحدة في ظـلال العبقريــة الجزائريــة..

كتب: توفيق العارف

مـن التضـاد الفلسفي إلى وحدة المـوقـف.. الجزائـر معادلــة الوجـود والسياسـة

تختلـف المناهـج الفكريــة والـرؤى الفلسفيـة.. لكـن الأنـوار لا تخطــئ الحـــق

ثـورة التحريـر الجزائريــة أثـرت عميقا في رسم ملامـح الفكـر الأوروبي المعاصـر

في صفحات التاريخ الفكري الفرنسي، قلّما وُجد قطبان فكريان متنافران بحدّة مثل جان بول سارتر وريمون آرون.. سارتر، الفيلسوف الوجودي الثوري والوجه الأبرز لليسار الفرنسي،  وآرون، عالم الاجتماع والمفكر السياسي الواقعي الذي يمثل اليمين الليبرالي المعتدل.. ومع ذلك، في خضم سنوات ثورة التحرير الجزائرية التي وضعت فرنسا في مأزقين، فكري وواقعي، حدث ما يُمكن وصفه بـ»المصالحة» بين هذين العملاقين حول قضية دعم استقلال الجزائر، فالتناقض المثير للجدل، بين عملاقي الفكر الفرنسيين، هو محور الدراسة التحليلية التي أجرتها ماري-كريستين غرانجون، ووسمتها بعنوان: «ريمون آرون، جان بول سارتر والصراع الجزائري» لتنشرها في «دفاتر معهد التاريخ المعاصر».

تستهل غرانجون دراستها بملاحظة جوهرية تشكل مفتاح فهم العلاقة بين سارتر وآرون: «ثورة الجزائر... تُصالح جان بول سارتر وريمون آرون، وكلاهما مؤيد للاستقلال الجزائري».. وتعمق الكاتبة بالقول إن هذين «الوحشين المقدسين للأنتلجنسيا الفرنسية في الخمسينيات إلى الثمانينيات، كانا متموقعان على أطراف متقابلة تماماً من الفضاء السياسي الذي كان آنذاك منظماً بقوة من خلال المعارضة بين اليمين واليسار».. هذا التباين الشديد في أطروحاتهما حول الماركسية، بين «الملتزم» و»المراقب»، وبين الثوري والعقلاني، أضفى بعداً درامياً على التقارب غير المتوقع في موقفهما من الجزائر.

تاريخ من التنافر.. من مقاعد الدراسة إلى ساحات الجدل الفكري

قبل حرب الجزائر، كانت العلاقة بين سارتر وآرون تتسم بالتنافس الفكري الحادّ والقطيعة السياسية، على الرغم من بداياتهما المشتركة، فقد كانا رفيقي دراسة في مدرسة الأساتذة العليا، وأظهر كل واحد منهما تفوقاً فكرياً. غير أن مساريهما في حقول الفكر سرعان ما تباعدت بشكل جذري، فقد انغمس سارتر في الفلسفة الوجودية، ثم تبنى أشكالاً من الماركسية، ودعا إلى الالتزام الجذري للمثقف (Engagement) في الصراعات السياسية والاجتماعية.. كان سارتر صوتاً قوياً للطبقات المقهورة والمستضعفين، وخصوصاً الشعوب المستعمَرة، ففلسفته الوجودية لا تقبل «الحياد»، وتعتبره خيانة للحرية والعدالة، ولقد شكّل كتابه الأول «الوجود والعدم»، والكتاب الثاني «نقد العقل الجدلي»، ركيزتان مهمّتان لمواقفه الملتزمة التي ترى في الفعل المتمرد ضد الظلم تجسيداً للحرية.
جان بول سارتر، لم يكتف بالتنظير لمواقفه، بل انخرط في العمل السياسي لدعم الثورة الجزائرية، وكان من أبرز الموقعين على بيان 121 الشهير، عام 1960، وهو بيان وقعه مثقفون فرنسيون أعلنوا فيه حق المجندين الفرنسيين في رفض الخدمة العسكرية بالجزائر، واعترفوا بشرعية نضال الشعب الجزائري.. هذا الموقف الشجاع، عرّض سارتر لهجوم شرس من اليمين المتطرف الفرنسي ووسائل الإعلام الحكومية، حتى صار يتلقى تهديدات بالقتل، وتعرض منزله إلى محاولات تفجير، ومع ذلك لم يبدّل مواقفه الراسخة، وشارك في العديد من اللجان والمنظمات التي تدعم جبهة التحرير الوطني. فقد كان مؤمنا بضرورة تدويل القضية الجزائرية، وكشف الانتهاكات الفرنسية أمام الساحة الدولية، واستخدم مكانته الفكرية والأدبية للضغط على الحكومة الفرنسية من أجل وقف الانتهاكات الصارخة لحقوق الجزائريين، والاعتراف بالاستقلال الجزائري.
في المقابل، كان آرون ناقداً لاذعاً للأيديولوجيات الشمولية، ومدافعاً عن الليبرالية والديمقراطية، ورأى في الماركسية «أفيوناً» يُعمي المثقفين عن الواقع. فكما يذكر آرون في كتابه الشهير «أفيون المثقفين» (L’Opium des intellectuels)، كانت مهمته تفكيك الأوهام الأيديولوجية والتحرر من «أخطار التفاؤل الخادع» الذي تجلبه بعض الأفكار الطوباوية، ولقد اشتهر آرون بـ»المراقب»، في مقابل «الملتزم» سارتر.. كان آرون يؤمن بتحليل الحقائق بعيداً عن التحيزات الأيديولوجية، مفضلاً الشك المنهجي على اليقين المطلق.. هذا التباين الجذري هو ما جعل موقف آرون يتوحد مع موقف سارتر من الجزائر، وهو ما يبدو لغزا يستدعي التحليل العميق.

سارتر.. الثورة الجزائرية مُتَمم للتحرر الإنساني والكوني

لم تكن ثورة التحرير الجزائرية بالنسبة لجان بول سارتر، مجرد صراع سياسي أو عسكري، بل كانت تجسيداً حياً لأعمق مبادئ فلسفته الوجودية: الحرية، والمسؤولية، والتحرر من كافة أشكال القهر.
وكان سارتر من أبرز دعاة «الالتزام» الفكري، مؤكداً أن المثقف لا يمكن أن يكون محايداً أمام الظلم، بل يجب عليه أن يختار بوضوح صف المضطهدين. ولقد وجد في الثورة الجزائرية التعبير المطلق عن إرادة شعب يرفض أن يُسلب إنسانيته وحريته، وأن هذه الثورة ليست مجرد حدث محلي، بل هي جزء من حركة تحرر عالمية ضد الإمبريالية.
موقف سارتر من الاستعمار كان شاملاً وجذرياً، فقد اعتبره نظاماً مفسداً يجرّد المستعمِر والمُستعمَر على حد سواء من الآدمية. ومن خلال أعماله المؤثرة، مثل مقدمته الشهيرة لكتاب فرانز فانون «معذبو الأرض» التي أصبحت إنجيلاً للمناضلين ضد الاستعمار، لم يقدم سارتر مسوّغا فلسفياً للمقاومة العنيفة ضد الاستعمار فحسب، وإنما ندّد بشدة بممارسات التعذيب التي مارستها القوّات الفرنسية في الجزائر، معتبراً العنف الثوري رد فعل طبيعي وحتمي على العنف الاستعماري الأصيل.. كان سارتر يؤمن بأن «الوجود يسبق الماهية»، وأن الجزائريين كانوا يختارون وجودهم الحر عبر الثورة، متحررين من الماهية التي فرضها عليهم المستعمر.
دعم سارتر للثورة الجزائرية إذن، لم يكن مجرد موقف سياسي، بل كان التزاماً أخلاقياً وجودياً ينسجم مع جوهر فلسفته.

آرون: الواقعية البراغماتية ومأزق الإمبراطورية في عالم متغيّر

على النقيض من سارتر، جاء موقف ريمون آرون من دعم استقلال الجزائر من منظور يختلف جذرياً في أسسه ودوافعه عما أسس له جان بول سارتر، فآرون الذي يُعرف بعقلانيته وواقعيته السياسية، كان يؤمن بأن القرار السياسي يجب أن يستند إلى تحليل موضوعي للمصالح والوقائع، لا إلى أيديولوجيات أو عواطف. وكان آرون ناقداً لاذعاً لما أسماه «أفيون المثقفين»، في إشارة إلى الأيديولوجيات (خاصة الماركسية) التي قد تحجب رؤية المثقف للواقع وتدفع به نحو مواقف غير عملية.
تُظهر دراسة غرانجون أن موقف آرون من الجزائر تطور من إدراك تدريجي لحتمية التخلي عن المستعمرات، ليس لأسباب أخلاقية بالدرجة الأولى، بل لأسباب عملية واستراتيجية. فهو لم يكن ثورياً بطبعه، بل كان براغماتياً يرى أن الاستمرار في الحرب الجزائرية كان يضر بمصالح فرنسا العليا.
ويشير آرون في مذكراته (Mémoires)، إلى أن «التخلي عن الجزائر لم يكن خياراً أيديولوجياً بقدر ما كان ضرورة استراتيجية وواقعية لفرنسا» (ص 591).. لقد أدرك آرون مبكراً أن «انتهاء عهد الإمبراطوريات» أصبح حقيقة لا مفر منها بعد الحرب العالمية الثانية، وأن فرنسا تستنزف مواردها البشرية والاقتصادية والدبلوماسية في حرب لا يمكن الفوز بها، وأن الحفاظ على الجزائر بالقوة هو حلم غير واقعي وغير مجدٍ في نظام عالمي جديد.
ولعل أهم ما يميز مقاربة آرون هو قدرته على فصل العاطفة عن التحليل. فبينما كان العديد من المثقفين الفرنسيين عالقين في جدل أيديولوجي حول «الجزائر فرنسية»، كان آرون ينظر إلى المشكلة بعين «المحلل البارد»، كما وصفه جان-جاك بروشييه في «الماغازين ليتيرير» (سبتمبر 1983)، حيث نقل عنه آرون مقولة: «إنّ المثقف يجب أن يتحرر من الأوهام الأيديولوجية ليرى الواقع كما هو».
هذا بالضبط ما دفع ريمون آرون إلى الاستنتاج بأن مستقبل فرنسا يكمن في التخلي عن أعباء الاستعمار، والتركيز على مكانتها كقوة أوروبية، مؤكداً أن «هذا الانعطاف لم يكن نتيجة تحول أيديولوجي عميق، بل إدراكاً لحقيقة العصر وزوال الإمبراطوريات» (ص 580- 590).

لقاء فريد في منعطف تاريخي حاسم..

كان لقاء سارتر وآرون، واجتماعهما حول القضية الجزائرية، أمراً نادراً وغير متوقع، لأنهما وصلا إلى نفس النتيجة – دعم استقلال الجزائر – عبر مسارين فكريين وسياسيين مختلفين تماماً، وبدوافع متناقضة. سارتر، مدفوعاً بحتمية أخلاقية وفلسفية للحرية والتحرر من القهر، وجد في القضية الجزائرية تجسيداً لهذه المبادئ. بينما آرون، مدفوعاً بعقلانية سياسية وواقعية استراتيجية، رأى في استقلال الجزائر المخرج الوحيد لفرنسا من مأزق تاريخي يهدد مكانتها ووجودها.
لقد دفعت هذه الأزمة الكبرى ريمون آرون وجان بول سارتر إلى إعادة تقييم مواقفهما، وإن اختلفت أسباب الوصول إلى النتيجة ذاتها.. هذا التلاقي الفريد لا يعكس فقط تعقيد المشهد الفكري الفرنسي خلال إحدى أحلك فتراته، بل يؤكد على التأثير العميق للثورة الجزائرية في رسم ملامح الفكر الأوروبي المعاصر. ففي لحظة تاريخية فارقة، تجاوز المفكران خلافاتهما الأيديولوجية الجذرية، ليجدا أرضية مشتركة في دعم حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، كلٌ من منطلق رؤيته الخاصة للعالم.
إن دراسة ماري-كريستين غرانجون سلطت الضوء على هذا الجانب البارز في تاريخ الفكر، لتؤكد أن الواقعية الأخلاقية والواقعية السياسية، وإن اختلفتا في المنطلق، فإنهما تلتقيان في النهايات التاريخية الحاسمة التي تفرضها حقائق الأزمات الكبرى، ومحطات التاريخ الفارقة..

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19787

العدد 19787

الأحد 01 جوان 2025
العدد 19786

العدد 19786

السبت 31 ماي 2025
العدد 19785

العدد 19785

الخميس 29 ماي 2025
العدد 19784

العدد 19784

الأربعاء 28 ماي 2025