الأثـر السياســي والصـدى الإعلامي..

دبلوماسية الثورة الجزائرية المباركة..

د. حسان مغدوري

نشطت الدبلوماسية الجزائرية ضمن خط استراتيجي مفتوح على كافة المقاربات، فهي لم تكن مقيدة باعتقاد ديني أو مبدأ إيديولوجي أو التزام قطبي، لذلك كانت المرونة تطبع علاقاتها بمختلف مراكز القرار الحكومي والمواقف الشعبية في العالم، ففي 26 ديسمبر 1955، شارك محمد يزيد برفقة مجموعة من الوطنيين في مؤتمر جبهة التحرير بكوبنهاغن، ثم انتقل إلى القاهرة في اليوم الموالي.

كان مؤتمر بلغراد بيوغوسلافيا في سبتمبر 1961 يمثل أكبر محفل أوروبي احتضن دورة عدم الانحياز، وكان الحضور مناسبة هامة لكسب مواقف مختلف دول قارات العالم إلى صف القضية الجزائرية، حيث اغتنم بن يوسف بن خدة الحضور الهائل للصحافة الدولية، وركز في تصريحاته على المكاسب التي حققتها الثورة في نيل الاعتراف، وشدد على أن الجزائر مستعدة للعودة للمفاوضات إذا كان في نية فرنسا إعطاء مدلول إيجابي يقضي بتصفية الاستعمار، وبأن الشعب الجزائري لا يمكنه أن يقبل إلا بسيادة كاملة.
استفادت الثورة إعلاميا عقب مؤتمر بلغراد، واتسع نشاطها، حيث هيأت جبهة التحرير سفر مصطفى وزاني إلى ألمانيا الشرقية الذي التقى هناك أحد الصحفيين ببرلين الشرقية، وأعرب له اعتزام الثورة استقدام الجرحي الجزائريين إلى براغ، وصرح بأنه قد أقنع تشيكوسلوفاكيا باحتضان العملية، وقد خلقت هذه المهمة عملية استعراضية أمام الصحافة في ألمانيا الشرقية، وفتحت الباب أمام زيارة بعثة عسكرية لجيش التحرير الوطني بقيادة العقيد محمد بختي القائد المسؤول على التموين والتنظيم بأمانة الشرق لجيش التحرير الوطني إلى برلين الشرقية وبراغ من نصف شهر جانفي 1962، وقد تناولت المباحثات التموين بالعتاد.
حملت جريدة ألمانية تصريحات مصطفى وزاني في 10 فيفري 1962 عن زيارة قادته إلى “ايز نمو نشتاد”Eisenhüttenstadt)) برفقة محمد بختي في نهاية جانفي، أين صرح في حوار نشرته “برلين زيتونغ” (Berliner Zeitung) بأن الثورة الجزائرية على استعداد للتعامل مع كل القوات العسكرية في العالم بما في ذلك قوات الناتو، وبأن التوازن في جيش التحرير يسير باتجاه الثورة، وبأن منظمة الجيش السري OAS، تستلهم نظرياتها من الفاشية العالمية، وهي مدعومة من طرف فرنسا والمجموعات القوية في ألمانيا الغربية وبلجيكا. وفيما ذكر أن الحرب توشك على السنة الثامنة وبأن الشعب الجزائري قد فقد مليون ونصف مليون من الجزائريين، وبأن هذه الطريقة الممنهجة في الإبادة تذكرنا بالطرق التي استعملها الأمريكيون ضد الهنود.
لقد خلفت دعاية الثورة في أوروبا الشرقية استقطاب الصحفيين والمثقفين، فقد حملت وثيقة مؤرخة بـ7 أوت 1961، صدور كتاب ألماني عن جبهة التحرير الوطني، بعنوان “حديث البنادق في الجزائر - كفاح شعب من أجل حريته وهو عمل الصحافية الألمانية إيفا بريستر Eva Priester.
كانت أول بعثة رسمية لجبهة التحرير الوطني لطلب دعم الكتلة الشرقية في بلد شيوعي بأوروبا، قد بدأت من شيكوسلوفاكيا على إثر انعقاد ملتقى براغ من 21-22 مارس 1958 برعاية الأممية العمالية الشيوعية، وقد مثل جبهة التحرير سبعة عناصر بقيادة حمام بوشانة، الذي شخص في كلمته الوضع المأساوي في الجزائر، وفضح الجرائم الفرنسية في حق الشعب الجزائري، وشدد على ضرورة التشهير بالممارسات الإستعمارية لنصف مليون عسكري في فرنسا، عبر كافة الهياكل الجمعوية والإعلام، كما حرص على عدم انتظار كشف الحقائق وقد لقيت كلمته استحسانا من كافة الوفود، وانتهت بفتح مكتب للإعلام في براغ، كلف خصيصا بكفاح الجزائر، كما انخرط عدد من الأجهزة في عمل جبهة التحرير للمساهمة في جمع الوثائق عن شمال إفريقيا. وتعهدت الأممية بالرد الفوري.
لقد تكللت المساعي الدبلوماسية للثورة الجزائرية تلقي مساعدة من طرف شيكوسلاوفاكيا، في إطار بورتوكول للتعاون الاقتصادي، أمضي في 25 مارس 1961 بين تشيكوسلوفاكيا وأحمد فرنسيس ممثلا عن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، تضمن تقديم التموين بالسلاح الخفيف والمواد الصيدلانية، وفي وثيقة مكملة اعتزمت الحكومة المؤقتة في جوان 1961 توقيع اتفاق مع براغ يقدم الرعاية التقنية لإنتاج الأفلام والإعلام بشكل عام.
لقد حققت زيارات وفد الحكومة الجزائرية المؤقتة لروسيا استقدام الدعم الرسمي للوفود الدبلوماسية لكل من روسيا والصين الشعبية التي حلت لدراسة الموضوع في تونس، حيث حل السفير الروسي بطرابلس.
حققت المساعي الدبلوماسية في أوروبا الشرقية اهتمام رجال السياسة والإعلام على حد سواء، فقد أعلنت “الوكالة التلغرافية الألبانية ( Agence Telegraphique Albanaise) إعلان اعتراف حكومة الجمهورية الألبانية الشعبية، بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، واستعدادها لإقامة علاقات منتظمة معها، وعبر عنها محمد شهو، في رسالة تهنئة بعث بها إلى بن يوسف بن خدة بمناسبة إمضاء إتفاقيات إيفيان.
وظلت أمريكا اللاتينية بعيدة عن الدبلوماسية الجزائرية لوقت طويل، غير أن زيارة رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في ديسمبر 1960 لعشرين دولة من أمريكا اللاتينية، خلصت - حسب شهادة بن يوسف بن خدة - إلى اقتحام مجال جغرافي وسياسي بقي إلى وقت بعيد حكرا على فرنسا، وصرح بأن العراقيل التي كانت تضعها السفارات الفرنسية لم تثن حكومات أمريكا اللاتينية عن الوقوف إلى جانبنا.
لقد تفاعلت صحافة البرازيل بزيارة الوفد الجزائري وشجبت إجراء وزارة الخارجية الفرنسية التي وقفت ضد الزيارة، حيث منحت مدينة ريو ديجانيرو، حق المواطنة الشرفية لرئيس الحكومة المؤقتة.
رحبت كوبا، من جهتها، بزيارة وفد الحكومة المؤقتة ونقلت الصحافة والتلفزة صدى الزيارة للجمهور العريض، وكان للبعثة اتصالات مع المنظمين للتظاهرات والفيدراليات الطلابية والنقابية والجمعيات النسوية والشبانية والنواب والصليب الأحمر، ونال الوفد الجزائري لقاء ثلاثة رؤساء جمهوريات، وهي فنزويلا والأورغواي وكوبا، وستة وزراء خارجية..أورغواي والإكوادور وكولومبيا وباناما وجمهورية الدومنيكان وهايتي. وختم بن خدة تعليقه “اقتحمنا مجالا كان لفرنسا حصريا، وكشفنا القناع عن الأمة الحرة صديقة الديمقراطية والحرية”.
استغلت الدبلوماسية الجزائرية مساعي الولايات المتحدة الأمريكية في إقامة علاقات مع الجزائر عقب التردد المحسوس للطائرات الأمريكية على مطار الدار البيضاء، وتمكنت من استقدام صحفيين أمريكين لزيارة الجزائر، واغتنم الجزائريون حالة الفراغ القانوني في غياب نص يحظر دخول الجرحى الجزائريين إلى الولايات المتحدة، وتبعا للاعتبار الأخلاقي قامت جريدة “ ميامي هيرالد” ( The Miami Herald) بكتابة مقال في 20 أكتوبر 1961، تحدثت فيه عن عودة الدكتور دوغلاس توفيلمي، وبرفقته 12 جريحا جزائريا من جبهة التحرير الوطني للعلاج، وكانت أعمارهم تتراوح بين 20 إلى 35 سنة، وهم ليسوا سوى أعداد من بين آلاف الجرحى، وختمت بأنه أول فريق جزائري قدم للعلاج في الولايات المتحدة الأمريكية، واستقبل الجرحى الجزائريون من طرف جمعية قدماء المحاربين الأمريكيين وضحايا الحرب.
قام عبد القادر شندرلي بالتوجه إلى الشخصيات الأمريكية وإلى الأمم المتحدة لتقديم كتاب بعنوان “شروط الاستقلال” وهو الكتاب الذي ظهر في الملتقى الدولي عن الجزائر المنعقد بـ«روما” أيام 2-3-4 فيفري 1962، وصدرت له أول طبعة في بروكسل.
خلفت المفاوضات الجزائرية الفرنسية في إيفيان ردود أفعال في الولايات المتحدة، حيث حملت أو فرسيس براس كلوب (Overseas Press Club) خطاباً لأمين الدولة ونائب الشؤون الإفريقية يتعلق بأمل الولايات المتحدة في التوصل إلى بعث المفاوضات للمرة الثالثة، والتوصل إلى تقرير المصير، وأعرب عن أمله في التوصل إلى نتيجة ترضي الجزائريين وتستجيب لآمال الأقلية الأوروبية.
وجاء هذا الخطاب بين اللقاءات التي جمعت أعضاء الحكومة المؤقتة الجزائرية والسلطات الحكومية الأمريكية في الخارج، حيث كان الاتصال الدبلوماسي كما ذكرت الوثيقة بين مستشار دبلوماسي أمريكي مع ممثل الثورة محمد يزيد في 22 و23 مارس 1962، كما استقبلت البعثة الجزائرية في الجامعة العربية من طرف ملك المملكة العربية السعودية، حسبما حملته وكالة الأنباء السعودية يوم 3 أفريل 1962.
مكن النشاط الحثيث للطلبة الجزائريين في المهجر بفرنسا وانجلترا وألمانيا من التأثير على “الجبهة الوطنية” في إيران، حيث تمكن هؤلاء من ربط اتصالات مع كافة الأفكار الحرة، وانعكس هذا النشاط في قيام عدد من المظاهرات العفوية المساندة للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ففي 5 نوفمبر 1961، تحولت المظاهرات التي كانت مخصصة من حيث المبدأ إلى مناهضة عودة التجارب النووية السوفييتية، إلى التعبير عن دعم القضية الجزائرية بعد تطمين الحكومة السوفياتية لطهران، ورغم التشدد الذي كانت تبديه الحكومة الإيرانية حيال تشكيل الجمعيات ذات الطابع السياسي، إلا أن ذلك لم يقف حائلا أمام تشكيل لجنة مساندة للجزائريين بإيران في 28 مارس 1962، ومارست نشاطها عبر المساجد لفائدة الثورة الجزائرية، وفي 30 مارس 1962 تقدمت برسالة تهنئة لبن خدة على جهوده في الميدان، بل وطلبت منه بالمناسبة تحديد الدعم المادي والمعنوي المطلوب.
لقد تكللت هذه المساعي بقرار إيران في نوفمبر 1961 بتسجيل مهمة دبلوماسية رسمية بينها وبين العالم الإسلامي، وفي مقدمتها الجزائر، وزار على إثرها سيد مهدي روحاني كشاني ممثلا عن الأوساط الدينية بإيران في نهاية نوفمبر 1961، كل من كوبنهاغن وستكهولهم وأوسلو وبروكسل وباريس والجزائر، حاملا تعليمة من طرف الوزير الأول الإيراني، تضمنت ضرورة الاتصال بالسلطات الرسمية المؤيدة للقضية الجزائرية في باريس لحثها على أهمية الخروج بحل عادل للقضية الجزائرية، وتذكيرها بما سيترتب عن ذلك من ارتياح في الأوساط الإسلامية، كما أعرب المسؤول الإيراني بصفته الشخصية عن اعتزامه لقاء رجال الثورة الجزائرية بهدف التعبير عن دعم إيران لمسعاهم.
مكن نشاط الدبلوماسية الجزائرية عبر مؤتمري باندونغ في 1955 ومؤتمر بلغراد في 1961، من التأثير على موقف الهند، إذ تباحث شريف قلال ممثل جبهة التحرير في الهند مع نهرو في 24 أوت 1961، وطلب منه أن يكون مدعوا بصفة رسمية من طرف حزب المؤتمر، وهذا لنيل الاعتراف للحكومة الجزائرية، لكن “نهرو” رفض الموافقة الرسمية على الإطار الدبلوماسي في غياب رسائل التأسيس للحكومة المؤقتة، بالموازاة مع وعده بأن الوفد الجزائري سيتلقى تسهيلات بمثل التي يتلقاها أي دبلوماسي معتمد، غير أن اجتماع مجلس الوزراء الهندي في 13 سبتمبر 1961 خلص إلى تبنى الاعتراف سرا بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وقد أدى اعتراف حكومة دلهي، إلى اعتراف باكستان بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في 3 أوت 1961، وكانت إستراتيجيتها تستهدف ضمان ود البلدان العربية في قضية كشمير.
واستغلالاً لموقف باكستان، نزل محمد قلو ضيف شرف على الاجتماع الذي نظم في 21 أفريل 1962 بدعوة من “نادي الرابطة العالمية وهي شبه جمعية لرجال الأعمال المحليين على نمط “Lion Club” وبحضور ممثلين عن السفارة الجمهورية العربية المتحدة والعراق، وقد ألقى محاضرة حيا من خلالها الدعم المادي الذي تقدم به الشعب الباكستاني للثورة الجزائرية وشجب بعنف أعمال منظمة الجيش السري OAS كما شكك في نوايا فرنسا في تطبيق اتفاقيات إيفيان، وعين كعضو شرفي ضمن نادي الرابطة العالمية، وقد قامت الصحافة بنقل محاضرة محمد قلو في باكستان.
وأعرب سفير الفيتنام الجنوبية في تونس عن نية بلاده في الاعتراف بالحكومة الجزائرية في 24 جانفي 1962، بعدما كانت المحادثات الجزائرية الفرنسية توشك على التوصل إلى مخرج، وقد برأ موقف بلاده أمام فرنسا، بكونه يسعى إلى كبح طموحات الفيتكونغ في الجزائر، وقبيل التوصل إلى وقف إطلاق النار بين الجزائر وفرنسا في 19 مارس 1962، أعرب الفيتنام في 19 فيفري 1962 بأن الوقت قد حان من أجل الاعتراف بالحكومة الجزائرية المؤقتة.
كان العمل الدؤوب للدبلوماسية الجزائرية والصدى الإعلامي الذي انتشر في العالم وراء موقف الحكومة اليابانية التي لم تعترض على عرض المسألة الجزائرية في دورة الجمعية العامة سنة 1961، واعتبر اليابان بأنه يجب البحث عن المناخ المناسب الذي يسمح بإيجاد حل للمسألة، ودعا إلى عرض القضية مباشرة على الجمعية العامة دونما تقديم مذكرة؛ لأن ذلك سوف لن يؤدي إلا إلى بلورة فكرة منعزلة، وقبل مغادرة الوزير الأول الماليزي تنغو عبد الرحمن Tengku Abdul Rahman العاصمة كوالا لمبور في 16 نوفمبر 1961، صرح لمقربيه بأنه ينوي في القريب العاجل الاعتراف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وتمكن بن خدة من إحراز دعوة رسمية إلى ماليزيا مع بداية 1962.
ومثل التقارب بين جبهة التحرير الوطني والصين اهتمام الصحف الكبرى في العالم، وتعود العلاقة بين الثورة والصين إلى سنة 1957، حيث قام النظام الشعبي الصيني في 15 نوفمبر 1957 بالإشراف على أول يوم للتضامن مع الشعب الجزائري، وكتبت صحيفة بكين “إن المعمرين الفرنسيين اعتدوا على جيش التحرير الجزائري، وأرهبوا شعبا مسالما وألغوا النقابات..إنه من المفيد للسلم في إفريقيا، والسلم في العالم توقيف الحرب الاستعمارية، وإحلال السلم بالجزائر، واحترام حق الجزائر بأن تقرر مصيرها بنفسها.

ختامــا

استمدت الجزائر العمل الدبلوماسي من مختلف التجارب التي خزنتها الحركة الوطنية على امتداد تعاملها مع الاستعمار، ولم تكن الدبلوماسية الجزائرية أثناء الثورة سوى أداة استغلال لنجاحات العمل الثوري الذي كان في الميدان واستخدامه كمادة إعلامية مثيرة للتعريف بالقضية الجزائرية وعدالتها أمام الرأي العام العالمي، ومنطلقا للضغط على معنويات الفرنسيين وإحراج ممثليهم عبر مختلف منابر العالم الحر، ولم يكن دورها يقل أهمية عن الوسائل الإعلامية الصريحة، بل أن صداها تجاوز كافة الأطر التقليدية ووازن بين ترسانة الإعلام الفرنسي وإعلام الثورة، وقدم تجربة رائدة في ميدان المناورة.
الحلقة الثانية

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19789

العدد 19789

الثلاثاء 03 جوان 2025
العدد 19788

العدد 19788

الإثنين 02 جوان 2025
العدد 19787

العدد 19787

الأحد 01 جوان 2025
العدد 19786

العدد 19786

السبت 31 ماي 2025