الرحالة الألماني نقل وقائعها من مصادر موثوقة

معركة المقطع..الحقّ الجزائـري يطفئ الباطـل الفرنسـي

سليمان.ج

لم يُعرف الأمير عبد القادر الجزائري في الغرب الأوروبي والعالم أول ما عرفوه كسياسي أو مثقف أو رجل دين، بل كان الحديث عنه مشوبًا بالتعجب والهالة والإجلال بصفته قائدًا عسكريًا ومخططًا استراتيجيًا وعلمًا مؤثرًا في ساحات الأحداث الدولية. ففي ظرف ثلاث سنوات فقط، منذ بداية مقاومته عام 1248ه/1832م، استطاع الأمير عبد القادر أن يهزم الجيوش الفرنسية ويذل قادتها ويرغمهم على التراجع إلى المدن الساحلية وحصونها.

هذا ما جعل اسم الأمير عبد القادر يتصدر تقارير السفارات والبعثات الدبلوماسية ومصالح الاستخبارات السرية والصحف الأوروبية والعالمية. ولقد كانت المواجهات التي خاضها كثيرة وعنيفة، كسرت ظهر جيوش فرنسا، وجعلت قادتها يبحثون عن حل لمأزق بدأ يكبر ويتعاظم.
ولعل من بين تلك المعارك الخالدات معركة “واد المقطع” التي تعد من أكبر المعارك في مقاومة الأمير عبد القادر. وهي معركة اهتم بها الباحث الأستاذ محمد بن عربة، من جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، وسلط الضوء على أصدائها في كتابات الرحالة الألماني هاينريش فون مالتسان الذي لم يحضر أحداثها، غير أنه سمع عنها من مصادر موثوقة، وتمكن من لقاء الأمير عبد القادر في مناسبتين.

مالتســان في رحـــاب الجزائــــر

يُقدم الأستاذ بن عربة - في بداية عمله البحثي - تعريفًا شاملاً لهاينريش فون مالتسان، مبرزًا خلفيته الأرستقراطية وتعليمه المتنوع ورحلاته الواسعة، وقال إن مالتسان ولد في مدينة دريسدن الألمانية في 6 سبتمبر 1826م لعائلة أرستقراطية ذات أصول ألمانية بريطانية، واهتم والداه بتنشئته منذ صغره، وتلقى تعليمه الأوليّ في مدارس هايدلبيرغ وفيسبادين ومانهايم، ثم أكمل دراسته العليا في تخصص الحقوق بالعديد من الجامعات، وألحقها بدراسة اللغات الشرقية. وبعد تخرجه عام 1850م، عمل في السلك الحكومي بمملكة ساكسونيا، لكنه قرر الرحيل بعد وفاة والده الذي ترك له ثروة طائلة.
بدأت رحلات مالتسان نحو أوروبا الشرقية، إلا أن وجهته الأساسية كانت نحو الشرق، حيث زار سوريا وفلسطين، ثم ارتحل نحو الجزائر التي حظيت بمكانة هامة في حياته، حيث أقام بها مدة وتعلم اللهجة الدارجة عن العربية، ثم انتقل إلى الحبشة، لكن زياراته إلى الجزائر تعددت، وكان آخرها عام 1860م.
كان هاينريش فون مالتسان مهتمًا بالآثار والكنوز في بلاد الإسلام، وحين استقر ببيزا في إيطاليا، شرع في كتابة مذكراته ومشاهداته. توفي في 23 فيفري 1874م، وخلف تراثًا ضخمًا شمل مؤلفات مثل “ثلاث سنوات في شمال غربي إفريقيا”، “رحلة حجي إلى مكة”، و«في رحاب طرابلس وتونس”، بالإضافة إلى مقالات في مجلات أوروبية واستشراقية.
يُعد مالتسان مصدرًا موثوقًا لأحداث معركة المقطع، على الرغم من أنه لم يحضرها بنفسه. فقد بدأت رحلته لعالم الشرق والجزائر مع خمسينيات القرن التاسع عشر، أي عقب انتهاء مقاومة الأمير عبد القادر سنة 1847م. غير أن ذكرى الأمير وصدى ثورته ودولته كان لا يزال “حارًا وحاضرًا بين الجزائريين”. ومثلما كانت النفوس تواقة لرؤيته، فقد تمنى مالتسان لقاءه، وحظي بهذا الشرف في مناسبتين: الأولى في بروسة عام 1854م، والثانية بدمشق عام 1860م.
كانت مواضيع اللقاءين عديدة، وقد أصر مالتسان من خلالها على “الغوص في ماضي الأمير العسكري، وموقفه من فرنسا”. وكان موضوع معركة واد المقطع في قلب هذا الحديث.
يذكر مالتسان أنه مباشرة بعد ذكره لاسم المقطع: “ارتسم المرح على وجهه (يقصد الأمير عبد القادر) والتمعت عيناه السوداوان في حماس”. وبالتالي، فإن جانبًا من أخبار هذه المعركة نقله مالتسان على لسان الأمير عبد القادر. إضافة إلى ذلك، فإن مالتسان قد “وقف على ميدان هذه المعركة” بعد زيارته للغرب الجزائري، ووثق جغرافية المنطقة بتفاصيلها. وقد وصف أرضية المقطع بـ«الحزينة والمغمورة بالمياه، والتي كانت شاهدة على أهم انتصار على الفرنسيين أحرزه الأمير عبد القادر”. كما كانت هناك مصادر أخرى لمالتسان عن المعركة سماها “المصادر الموثوق بها”، وإن لم يذكر صراحة هويتها. ويرجح محمد بن عربة أنها قد تكون من “معارفه من الجزائريين الذين خالطهم واحتك بهم، وكانوا إما جنودًا في جيش الأمير عبد القادر، أو من رعايا دولته”. أو “من الجنود الألمان والأسرى الذين كانوا مع الأمير وخدموا في جيشه”.

العنجهيـة تلقـي بفرنسـا إلى “المقطــع”

يسلط عمل الأستاذ محمد بن عربة البحثي الضوء على الأسباب المباشرة لمعركة واد المقطع، مشيرا إلى أنها تتفق مع العديد من الشهادات الغربية، كشهادة المؤرخ البريطاني هنري تشرشل، والشهادات المحلية، وكلها تجمع على أن السبب المباشر للمعركة هو نقض فرنسا، ممثلة بالجنرال تريزيل حاكم وهران، لمعاهدتها القائمة مع الأمير عبد القادر، وهي معاهدة “ديمشال” التي اعترفت بموجبها الإدارة الاستعمارية بدولة الأمير عبد القادر.
جاء التحول في العلاقات الفرنسية الجزائرية إثر خطوة قبائل الدوائر والزمالة تحت قيادة مصطفى بن إسماعيل نحو فرنسا طالبين الحماية، وقوبل طلبهم بالقبول من تريزيل، وتم توقيع معاهدة الدوائر والزمالة بتاريخ 16 جوان 1835م. في حين أن معاهدة ديمشال ألزمت فرنسا بعدم إعطاء حق اللجوء للقبائل. لم تثنِ المراسلات حاكم وهران عن تدبيره وإخلاله بالاتفاق، بل “زاد في تعنته وخرج على رأس حملة هدفها سلب ونهب أموال وخيرات قبائل واد سيق”. بعد هذه الحملة، التقى جيشه بطلائع قوات الأمير التي التحمت به على أرض “واد المقطع”.
تُفصل ورقة الأستاذ بن عربة الزمان والمكان، مشيرة إلى أن المجال الجغرافي للمعركة هو الجنوب الوهراني، ومدة النزال كانت يومان. اليوم الأول كان اللقاء “بغابة الزبوج”، في موضع يقال له “المقيتلة”.
في هذا الموضع، التقى جيش الجنرال تريزيل مع طلائع استطلاع جيش الأمير عبد القادر، تحت قيادة “محمد المزاري”، ولاحقًا التحقت كتائب جيش الأمير بالقتال، وكان هذا الالتحام يوم 27 جوان 1835م. أما اليوم الثاني، فقد شهد المعركة الحاسمة في “أرض حميان” بتاريخ 28 جوان 1835م. حدث هذا بعد أن خالف تريزيل مشورة جنرالاته وحاول الانسحاب نحو “جبال حميان”، سالكًا مضيق وادي الهبرة على مقربة من خليج البحر، حيث يخرج هذا الوادي من الأوحال ويتخذ اسم “وادي المقطع”.
ولقد قدم هاينريش فون مالتسان معلومات “في غاية الأهمية عن ميدان الالتحام والذي سماه مستنقع المقطع”، وكانت “أرضيته - على حسب وصفه - رخوة بليلة وطريقها غير معبدة”. وقد كان هذا العامل “حاسمًا في المعركة بحيث استغله الأمير في مهاجمة الجيش الفرنسي المنسحب”.

الرجــــال في ساحــــات النّــــزال

لم يتحدث مالتسان عن مقدمات المعركة، بل أورد تفاصيلها عندما “حمى وطيسها ضمن أحداث اليوم الثاني”. فقد قام الأمير عبد القادر “بهجوم كاسح وخاطف، مستهدفًا جيش تريزيل عندما علم بمحاولة انسحابه عبر مستنقع المقطع”..كان الأمير، المخطط العسكري والخبير بالمنطقة وتضاريسها، قد علم بمناورة الفرنسيين، فتجهز لها..أحاط بالجيش الفرنسي، وأرسل جزءًا من فرسانه ومعهم مشاة يمتطون صهوات الخيل لاحتلال المضيق.
ومع تقدم الجيش الفرنسي، بدأت خطواته تتباطأ “لأنه كان يسعى لسحب ونقل المدفعية وعربات النقل والقطعان المنهوبة من القبائل العربية عبر الأرضية الوحلة”..لم يضيع الأمير الفرصة، واشترك في المعركة..التحمت قواته بمؤخرة الجيش الفرنسي، التي “دوى فيها الصراخ والرعب”..حاولت القطعات الفرنسية الهرب، غير أنها ارتطمت بجنود المقدمة وتجهيزات بقية الجيش من عربات ومدافع. “وأعمل الأمير وفرسانه السيف في الجنود والقادة، وتقدم الأمير إلى قلب هذا الجيش والذي كان أفراده يحاولون الهرب دون جدوى”.
كانت النتيجة بعد هذه الحركة السريعة والمحكمة، كما وصفها مالتسان، “مفخرة عسكرية”. “بحيث أنه لم يقع في الأسر إلا القليل بمعنى أن غالبية القوات الفرنسية قد تمّ تحييدها”. وفرّ الجنرال تريزيل مع من فروا نحو أرزيو “يجرون أذيال الخيبة والهزيمة”.

انتصــــار عسكــــري مبهــــــر

إن هذه المعركة من كبريات المعارك التي انتصر فيها الأمير عبد القادر. وقد وصفها مالتسان بأنها “أهم انتصار على الفرنسيين أحرزه الأمير عبد القادر”. انتقم فيها الأمير لرعيته ودولته ولشخصه من الجرائم الفرنسية السابقة عمومًا، وللقبائل العربية بالجنوب الوهراني التي هاجمها الجنرال تريزيل وسلب مواشيها. كما كانت رسالة واضحة للقبائل التي دخلت تحت حكم فرنسا، أو تلك المترددة بين الطرفين.
أما بالنسبة لنتائجها العسكرية، فقد تضاربت الأنباء حول عدد القتلى الفرنسيين في هذه المعركة. هذا أمر طبيعي لأن الفرنسيين كانوا “يريدون تغطية خسائرهم، كي لا تزيد معنويات جنودهم في الانهيار”. ومع هذا، فإن خسائرهم كانت “أعظم من أن يتم التستر عليها”، وهذا ما جعل حكومة باريس تستدعي الجنرال تريزيل للمساءلة والمحاسبة.
حاول تريزيل التملص من المسؤولية بإلقاء التهم على العديد من ضباطه بأنهم عصوا أوامره أثناء المعركة. وقد أكد مالتسان أن حصيلة قتلى الفرنسيين كانت “بالآلاف، وهذا الخبر جاء - على حسب تعبير مالتسان - من مصادر موثوقة”. وفي هذا يقول: “وقد ادعى الفرنسيون نفاقًا أن خسائرهم في هذه المعركة كانت ضئيلة، غير أني تأكدت عن طريق مصادر موثوق بها، أنها بلغت عدة آلاف”.
كما كانت للمعركة تداعيات كبرى على دولة الأمير عبد القادر وعلاقاته مع فرنسا. فبعد هذه المعركة، “اكتسب نصرًا سياسيًا ومعنويًا، في المقابل، تخوفت الإدارة الاستعمارية، وأيقنت أن وجودها في الجزائر على المحك مع تعاظم وتزايد واحترافية جيش وقوة الأمير عبد القادر”. هذا ما دفعها إلى “استقدام تعزيزات كبيرة، وتغيير جهاز حكمها في الجزائر وإسناد القيادة لجنرال أكثر دموية هو: كلوزيل”. وقد ظلت هذه المعركة وأحداثها لا تغادر ذهن الأمير رغم نفيه وتقدمه في السن. فعندما بادر مالتسان بسؤاله عنها إن كان لا يزال يذكر المقطع، “قال الأمير عبد القادر: أعتقد أن تريزيل سيذكره أحسن مني”.

تاريــخ إنسـاني مشـرّف

يظل التاريخ السياسي والعسكري لبطل المقاومة الشعبية ومؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر “بحاجة إلى البحث والتنقيب”، خاصة مع ظهور وثائق وتوافر الكثير من النصوص في الكتابات الأجنبية غير الفرنسية التي “تؤكد على عظمة هذه الشخصية وتميزها”. تُعد رحلة الألماني هاينريش فون مالتسان من بين أهم الرحلات نحو الجزائر إبان مرحلة الاستعمار، وشهادته “موثوق فيها”، حيث وصف أحوال البلاد والعباد، ووثق جانبًا مهمًا من العادات والتقاليد وعمران ذلك الزمان. من الطبيعي أن يتأثر مالتسان بشخص الأمير ويسعى للقائه بالرغم من انتهاء مقاومته وتعرضه للنفي، وقد حصل له هذا الشرف في لقاءين: أحدهما ببروسة، والثاني بدمشق. حظيت معركة “واد المقطع” في شهادة مالتسان بحيز وإن لم يكن كبيرًا، غير أنه جد مهم في سياقه ودلالاته، وتركيزه عليها يعود لكونها “من بين أحد أهم المعارك الخالدات، والتي أذلت فرنسا، وأثخنت في جنودها، وكسرت كبرياء جنرالاتها”.

 ختامـــا

لقد جاءت شهادة مالتسان عن ملحمة “واد المقطع” من طريقين: أحدهما مصادره التي أكد أنها موثوقة، وقد تكون من الجزائريين الذين صاحبهم وكانوا في جيش الأمير، أو من رعايا دولته. والثاني من خلال مقابلته للأمير عبد القادر وسؤاله عن ماضيه العسكري وبطشه بالأعداء يوم “ملحمة المقطع”. إن تكذيب مالتسان لإحصائيات قتلى الفرنسيين وتصريحه بأنها كانت بالآلاف في ذلك اليوم، يحيلنا من جديد إلى إشكالية مصداقية الوثيقة الفرنسية، التي لا يزال يتعامل معها العديد من الباحثين كمصدر موثوق للتأريخ لتاريخنا الحديث والمعاصر. وتؤكد الورقة أن هذه المعركة لم تمحَ من ذاكرة ووجدان الأمير حتى بعد انتهاء مقاومته ونفيه وتقدمه في العمر..

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19791

العدد 19791

الخميس 05 جوان 2025
العدد 19790

العدد 19790

الأربعاء 04 جوان 2025
العدد 19789

العدد 19789

الثلاثاء 03 جوان 2025
العدد 19788

العدد 19788

الإثنين 02 جوان 2025