بعد سقوط الجمهورية الرابعة في منتصف سنة 1958، وعودة الجنرال ديغول إلى الحكم بمساعدة من كبار الضباط الفرنسيين في الجزائر، قام بتأسيس الجمهورية الخامسة، وعمد إلى إحداث تغييرات سياسية عسكرية، اقتصادية وإدارية بهدف ضمان بقاء الجزائر فرنسية بصفة نهائية..الجنرال ديغول ركز على الخيار العسكري باعتباره الحل الحاسم للقضية الجزائرية، حيث قام بتعيين الجنرال موريس شال قائدا عامًا للجيوش الفرنسية في الجزائر خلفا للجنرال راؤول صالان..
أعد الجنرال شال مخططا عسكريا متعدد الجوانب لتحقيق طلب رئيسه بالقضاء على جيش التحرير الوطني، أو على الأقل إضعافه إلى أقصى حد لمحاولة تمكين الجنرال ديغول من فرض شروطه على قيادة الثورة التحريرية، وإجبارها على القبول بمقترحاته وأطروحاته التي تخدم مصالح الاستعمار الفرنسي أولا وأخيرا.
تميز مخطط شال العسكري بتنفيذ عمليات عسكرية كبيرة، زج فيها بأعداد ضخمة من القوات البرية والبحرية والجوية، بدأ في تطبيقه بالولاية الخامسة في بداية شهر فيفري 1959، ثم انتقل إلى الولاية الرابعة ومنها إلى منطقة الحضنة التي تعتبر طريق الاتصال بين الولاية الأولى والثانية والثالثة.
شرع بعدها في تنفيذ أكبر العمليات العسكرية في الولاية الثالثة، أطلق عليها اسم “جيمال” (Jumelles)، وحشد لها أكثر من ستين ألف عسكري، مدججين بأحدث الأسلحة، وقد أشرف بنفسه على قيادة هذه العمليات التي دامت من شهر جويلية 1959 إلى بداية شهر أفريل 1960.
ما هي عمليات جيمال؟!
حسب تعليمة الجنرال شال رقم 01 حول عمليات “جيمال”، ووفق تقارير نهاية العمليات التي تضمنت الحصيلة النهائية، فإن التنفيذ بالولاية الثالثة تم على شكل ثلاث عمليات عسكرية كبرى متناسقة، ومتزامنة، أطلق على كل منها تسمية خاصة، جرت أحداثها كما يلي:
- عملية “ بالفو Pelvoux” التي قسمت بدورها إلى ثلاث عمليات عسكرية فرعية، هي: (Pelvoux وII وIII) استهدفت مركز قيادة الولاية الثالثة، ومواقع تمركز كتائب ووحدات المناطق، والنواحي بالولاية الثالثة (القبائل الكبرى حتى حدود حوض الصومام). وقد امتدت خلال الفترة من 22 جويلية 1959 إلى 03 أفريل 1960.
- عملية “مون فيزو Mont Viso” استهدفت أغلب نواحي المنطقة الأولى، والجزء الغربي من المنطقة الثانية القبائل الصغرى، وشرق البيبان، وقد امتدت من 22 جويلية 1959 إلى 03 أفريل 1960.
- عملية “ فانواز Vanoise “ استهدفت الجزء الجنوبي من المنطقة الأولى، والجزء الجنوبي الشرقي من المنطقة الثانية غرب البيبان ومنطقة الحضنة. وقد امتدت من 15 أكتوبر 1959 إلى 03 أفريل 1960.
مع العلم أنه قد سبقتها عملية تمهيدية قصيرة المدة، استهدفت منطقة الحضنة وجبالها الواقعة بين الولاية الأولى والثالثة أطلق عليها اسم “الشرارة (l’étincelle)” بغرض عزل المجاهدين من الولايات المجاورة، وقطع الاتصالات والإمدادات بينهم وبين مجاهدي الولاية الثالثة من جهة، وتغليط قيادة الولاية الثالثة التي ستظن أن العملية ستدوم مدة لا تقل عن شهرين أو ثلاثة كما جرت في السابق من جهة أخرى، ما يسمح للقوات الفرنسية بتحقيق المفاجأة، كما كان يظن واضعو المخطط الجهنمي.
القطاعات العسكرية المسؤولة عن أقاليم العمليات
جرت أحداث العمليات فوق إقليم الولاية الثالثة، ونظرا لمشاركة خمسة ضباط برتبة جنرال في قيادة هذه العمليات، فقد قرر الجنرال شال باعتباره القائد الأعلى للقوات في الجزائر، والضابط الأعلى رتبة، قيادة العمليات بنفسه حتى لا يقع أي سوء تفاهم، أو تنافس على القيادة بين الضباط الكبار.
الجزء الغربي من الولاية الثالثة يقع حسب التقسيم الإقليمي العسكري الفرنسي تحت مسؤولية قائد الفرقة 27 مشاة جبلية والقطاع العملياتي لشرق الجزائر، وهذا القطاع العملياتي مقسم إلى سبعة قطاعات عسكرية كل قطاع عسكري مقسم بدوره إلى قطاعات عسكرية فرعية)، وهذه القطاعات هي: تيزي وزو عزازقة، برج منايل البويرة، ذراع الميزان الأربعاء ناث ايراثن الأخضرية.
أما الجزء الشرقي من الولاية الثالثة، فهو يقع - حسب التقسيم الإقليمي العسكري الفرنسي - تحت مسؤولية قائد الفرقة 19 مشاة والقطاع العملياتي الغربي القسنطيني، وهذا القطاع العملياتي مقسم إلى ثمانية قطاعات عسكرية (كل قطاع عسكري مقسم بدوره إلى قطاعات عسكرية فرعية)، وهذه القطاعات هي: بجاية برج بوعريريج، أقبو خراطة، بوقاعة مسيلة، سيدي عيش، سطيف.
استراتيجية الجيش الفرنسي في “جيمال”
من خلال دراستنا لمختلف الوثائق الأرشيفية المتعلقة بعمليات جيمال، ومنها التعليمة الخاصة للجنرال شال 1344 المؤرخة يوم 5 جوان 1959، والمذكرات والكتب التي تناولت خطة شال العسكرية، وجدنا أنه حدد الهدف الاستراتيجي من خطته العسكرية المتمثل في كسب السكان الجزائريين لصالح فرنسا، ولأطروحاتها السياسية، وبالتالي إبعادهم عن الثورة والثوار، كما ورد فيها ذكر للأساليب التكتيكية التي طبقتها القوات الفرنسية في الميدان للقضاء على عناصر جبهة وجيش التحرير الوطني في الولاية الثالثة، والتي يمكننا تلخيصها في النقاط التالية:
قبل تنفيذ العمليات العسكرية بفترة، يكلف ضباط المكتب الثاني لقيادة الأركان بجمع واستغلال المعلومات بالتنسيق مع ضباط الأمن للتشكيلات والوحدات المشاركة في العمليات، وبالخصوص على المفارز العملياتية للحماية (DOP) التابعة لمركز التنسيق لمختلف الجيوش (CCI)، والمختصة في عمليات التعذيب، وانتزاع الاعترافات بالقوة خاصة من الأسرى والموقوفين. بالإضافة إلى استغلال المعلومات التي تتحصل عليها مصالح الأمن الأخرى من عناصر الدرك الوطني، ورجال شرطة الاستعلامات، وما يدلي به العملاء والخونة والمرتدون، وقيام الطيران بطلعات استطلاع، وتصوير جوي تتعلق كلها بمعرفة أماكن تمركز وحدات جيش التحرير الوطني، وتعداد أفرادها، ونوعية تسليحها، وإمكانات تموينها، وحالتها، وغيرها من المعلومات.
بعد جمع المعلومات وتمحيصها، تقوم وحدات القطاع العسكري بتطويق المنطقة، ومحاصرة النواحي والقسمات على شكل دائري مع تركيز المراقبة الشديدة على المسالك، والممرات التي يحتمل أن يعبر، أو يتسرب منها الثوار عند وقوع الاشتباكات..تشرع بعدها المجموعات العملياتية المشكلة من قوات “الاحتياط العام” بعمليات تمشيط وتفتيش دقيق للمواقع بمرافقة الحركي والمرتدين باعتبارهم يعرفون تضاريس المنطقة، ولهم خبرة في العثور على معاقل ومخابئ الثوار، وفي حالة التأكد من وجود المجاهدين، تنفذ عمليات اقتحام من طرف المظليين وعساكر اللفيف الأجنبي الذين يتم إنزالهم بالطائرات والحوامات طبقا لظروف الموقف في المناطق المستهدفة، باستغلال الفرص التكتيكية، ومحاولة تدمير العناصر الثورية لجيش التحرير الوطني باستعمال قوة النيران، والمناورة بالقوات.
بعد تفتيش المنطقة، والتأكد من خلوها من المجاهدين، تنسحب قوات المجموعات العملياتية، وتعين مفرزة بقوة كتيبة أو سرية مدعمة، تستقر في مراكز عسكرية وثكنات جديدة تقوم مصالح الهندسة العسكرية ببنائها وتحصينها، وشق الطرقات الموصلة إليها، وتهيئتها، بحيث تكون قريبة من المواقع التي كانت تتمركز فيها عناصر جيش التحرير الوطني، خاصة القريبة من التجمعات السكنية، والقرى، وتدعم هذه المفارز بمجموعات مغاوير المطاردة (Commandos de chasse) تكلف بالعمل معا على منع عودة المجاهدين إلى مواقعهم، وخلق حالة الاستنفار الدائم في صفوف جيش التحرير الوطني. ومطاردتهم بصفة مستمرة لحرمانهم من أي فرصة لتجميع قواتهم أو التقاط أنفاسهم، مع الحرص على تجنيد المواطنين من السكان المحليين للاستعانة بهم في البحث عن خلايا الدعم والإسناد المتمثلة في المنظمة السياسية والإدارية لجبهة التحرير الوطني، والقضاء عليها، وفي نفس الوقت، السعي لكسب المواطنين عن طريق نشاطات وأعمال الفصائل الإدارية المتخصصة، ومصالح الحرب النفسية.
استعمال سلاح الطيران بكثافة وبفعالية، خاصة وأن الجنرال شال قائد العمليات كان طيارا في القوات الجوية، وقد حشد ترسانة من الطائرات والحوامات بمختلف أنواعها، للقيام بمهام الاستطلاع والمراقبة الجوية. ونقل وإنزال قوات المظليين، واللفيف الأجنبي في رؤوس الجبال، والأماكن ذات التضاريس الصعبة، وتوفير الحماية والمرافقة لقوافل الإمداد، والنقل والتنسيق بين القيادات الجوية، وقادة القوات الأخرى للاستفادة من الدعم الناري للطيران خلال الاشتباكات والمواجهات المسلحة، وقد انتشرت الطائرات والحوامات المشاركة في عمليات “جيمال” في مطارات تيزي وزو، وبجاية، وسطيف، أما الطائرات المقاتلة والمقنبلة فكانت تأتي حسب الطلب من القواعد الجوية الموجودة في تلاغمة، وبوفاريك، والدار البيضاء.
جيش التحرير..استراتيجية المواجهة..
كانت قيادة الولاية الثالثة قد تحصلت على معلومات حول طبيعة، وأهداف ومحاور خطة شال العسكرية قبل وصول القوات العسكرية الفرنسية إلى أراضيها، فقد أورد محمد حربي نص وثيقة يحتفظ بها في أرشيفه الشخصي، مؤرخة يوم 09 ماي 1959، تتضمن تعليمات العقيد محند أولحاج قائد الولاية الثالثة حول الإجراءات والتدابير الواجب اتباعها لمواجهة عمليات شال الكبرى القادمة قريبا إلى الولاية الثالثة، حيث قامت قيادة جيش التحرير الوطني في الولاية الثالثة باتخاذ مجموعة من الإجراءات العملياتية، والتكتيكية تتناسب مع الموقف العسكري الناشئ عنها، والتكيف مع هذه المعطيات الجديدة، من خلال الاستفادة من العوامل الطبيعية والميدانية التي تمنح الأفضلية لصالح المجاهدين، مثل المعرفة الجيدة بتضاريس المنطقة، والتحضير المسبق للمواقع الدفاعية، ومراكز الإيواء ومخازن التموين والدعم الشعبي للمجاهدين، لمواجهة التفوق العسكري الفرنسي في العدة والعتاد، وقد قمنا باستخلاص أهم المعالم الاستراتيجية التي نفذها جيش التحرير الوطني في الولاية الثالثة لمواجهة عمليات “جيمال” التي تدخل ضمن خطة شال العسكرية من مذكرات وشهادات المجاهدين الذين عاشوا أحداث هذه العمليات الرهيبة، والتي نلخصها في العناصر التالية:
من بين الإجراءات والتدابير التي نصت عليها تعليمة العقيد محند أولحاج قائد الولاية الثالثة المذكورة سابقا حرفيا: “خلال الأسابيع القادمة، يجب اتباع تكتيك عسكري يهدف إلى تجنب تمركز قواتنا، لذلك فمن المستحسن تقسيم الكتائب الموجودة تحت قيادتكم إلى مجموعة فرق التي تتنقل على شكل فردي، ويمكنها أن تتجمع لتنفيذ عملية مخطط لها كمين أو هجوم مباغت، ثم تتفرق المجموعات بعد تنفيذ العملية مباشرة.
إن تقسيم الوحدات يسمح لها بسرعة الحركة، ويصعب من مهمة العدو في العثور عليها، مما يجعل عملية القضاء على الثوار التي يتحدث عنها العدو، لا تحقق أي نتيجة، مثل ضربة سيف في الماء.
وأفاد المجاهد الضابط عبد العزيز وعلي في مذكراته، بمعلومات إضافية عن الإجراءات والتدابير التي تضمنتها تعليمة العقيد محند أولحاج، حيث كتب يقول: “إن يقظة الشيخ العقيد أولحاج واستراتيجيته الميدانية جعلته يتخذ الإجراءات الضرورية لذلك قبل حلول خطة شال بالجهة، مما يتمثل في تجزئة الكتائب والفيالق إلى أفواج كومندو صغيرة، والإكثار من حفر المخابئ السرية في المناطق الآهلة والمحرمة، وتعبئتها بمواد التموين والضروريات المختلفة، وإدماج المسبلين نهائيا في صفوف جيش التحرير الوطني، وتحضيرهم نفسيا لكل ذلك، ثم استمرت العملية ما يقرب من سنة كاملة، وألحقت ضررا كبيرا بالولاية في مختلف المجالات، ولكنها لم تسقطها.
ركز جيش التحرير الوطني على تكتيك نصب الكمائن للعدو، وخاصة لقوافل الإمداد والتموين، ونقل الأشخاص بالإضافة إلى زرع الألغام والمتفجرات في الجسور والطرق التي تمر بها الشاحنات والآليات لإلحاق أكبر الخسائر البشرية في صفوف الجيش الفرنسي، وضد دوريات العدو حال خروجها من مراكزها العسكرية، والانسحاب في أسرع وقت، بهدف التأثير على معنويات أفراده، مما يصيبهم بالفشل والإحباط.
وعمل المجاهدون على استمالة الحركى المجندين في صفوف الجيش الفرنسي عن طريق حملات الشرح والتوعية بغرض تجنيدهم لصالح الثورة، وتقديم المساعدات للمجاهدين مثل تزويدهم بالذخيرة والمؤونة، وتبليغهم بالمعلومات عن تحركات العدو، وتسهيل عمليات الهجوم على المراكز الفرنسية المعزولة، وقد بدأت هذه السياسة منذ ربيع 1960، وحققت نجاحا باهرا، لأن الحركى أدركوا أن القوات الاستعمارية في طريقها إلى الهزيمة والتسليم باستقلال الجزائر، ولذلك رأوا أن يستدركوا ما فاتهم، ويستعطفوا الثورة لعلهم يحصلون على عطفها وعفوها، فأخذوا يتعاونون معها. وفي هذا الإطار، ساعدوا رجال الثورة في الهجوم على المراكز العسكرية وإخلائها بفضل المعلومات التي كانوا يقدمونها لهم عن رجالها ومحتوياتها، وتم الهجوم على اثني عشر مركزا منها.
تجنب عناصر جيش التحرير الوطني التحرك نهارا إلا للضرورة القصوى، فالتنقلات لا تكون إلا ليلا، وبمجموعات صغيرة لا يتعدى عددها ثلاثة أفراد، إلا في حالة تنفيذ مهمة محددة فيمكن أن يجتمع أكثر من هذا العدد، مع الحرص على عدم ترك أي آثار يمكن أن يستغلها العساكر الفرنسيون أو عناصر الحركى لمعرفة مواقع تمركز المجاهدين، أو أماكن عبورهم، أو تنقلاتهم، خاصة في المناطق المحرمة.
الاستفادة من خبرة ومعرفة المسيلين بالطرق والمسالك، والدروب في الجبال والغابات، باستعمالهم أدلة ومرشدين لأفراد جيش التحرير الوطني أثناء تحركاتهم وتنقلاتهم في الليل، وعند الضرورة في النهار، والاسترشاد بنصائحهم ومشورتهم في اختيار المواقع والأماكن الآمنة والحصينة البعيدة عن عيون عملاء الاستعمار.
إعفاء خلايا جبهة التحرير الوطني، وشبكات التموين المدنية من مهمة نقل المؤونة، وتوزيعها على المجاهدين، نظرا للانتشار الكثيف للقوات الفرنسية في كامل أنحاء الولاية الثالثة، ونصب الكمائن على مشارف القرى والمداشر، وعبر المسالك والطرقات، مما أصبح يشكل خطرا كبيرا على هؤلاء الممونين، فكان قرار القيادة بأن يتكفل المجاهدون أنفسهم بمهمة التموين..
الحصول على المعلومات..حيث كان جيش التحرير الوطني يتوفر على أجهزة استعلامات قوية ومحكمة، سمحت له بالاطلاع على خطط العدة وباستمرار، وعلى نواياه، ومشاريعه، وتحركاته، وكل ذلك مكنه من المواجهة المطلوبة والتكيف مع الأوضاع الجديدة بالكيفيات المناسبة، والملائمة في الميدان.
الاعتماد على عنصر النساء في التموين والاتصال، حيث تكفلن بالتموين قوافل وزمرات، ودفن الشهداء، وتفقدن الملاجئ والمآوي السرية وأسعفن الجرحى ونقلنهن إلى مواقع آمنة، وأقرب للإسعاف، وسعين للمدن من أجل توفير الأدوية ولضمان الاتصال بين حلقات النظام، ومثلن لعب الأولاد دور الرجال، ثم ضبطن الحراسة، وصعدن للجبل بالبندقية والباطوقاس، يوم عز الرجال، وخلت القرى من غير الشيوخ والأطفال.