عبقريـة الثورة الجزائريـة تتجلـى..من التعبئــة إلــى التنظيـــم
جرافـة سكيكدة مـا تـزال شاهـدة علـى وحشيـة الكولونياليـة
الذاكـرة الوطنيــة تقـضّ مضـاجــع كولونياليـي اليمـين المتطـرف
يحمل تاريخ 20 أوت من كل سنة، أهمية خاصة، نظرا لموقعه في الذاكرة الوطنية، حيث وضع المنعرج المفصلي الذي قاد الاستعمار الفرنسي نحو الخروج من النهائي من الجزائر، يجر أذيال الهزيمة، ويلتصق به عار جرائم الإبادة الجماعية، والممارسات النازية بحق الملايين من الأبرياء والعزل.
في هذا اليوم، من سنة 1955 ثم 1956، ارتسمت معالم الثورة التحريرية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي، من حيث الاحتضان الشعبي ثم من حيث التنظيم السياسي والعسكري لجبهة التحرير الوطني.
كانت هذه الفترة التي أعقبت إعلان الثورة في الفاتح من نوفمبر 1954، لحظة فارقة في عمر الكفاح المسلح، فإما الاستمرار بتعبئة كاملة للجهد الثوري أو السماح بتمرير الدعاية الفرنسية التي وصفت أولى الهجمات التي نفذها أبطال جيش التحرير الوطني، بأعمال إرهابية خارجة عن القانون تقف وراءها دوافع اجتماعية، ولكن مفجري الثورة التحريرية، أظهروا عبقرية فذة ورؤية إستراتيجية كبرى، كيفت ظروف بداية العمل الثوري مع الظرف الداخلي، وحرصت على ضمان امتداد هذا الأخير في المحافل الدولية، بانتقاء التواريخ والأحداث الرمزية الكبرى والتكيف معها.
ولعدة عوامل، تعتبر هجمات الشمال القسنطيني، مرحلة مفصلية في إحداث القطيعة النهائية مع الاستعمار الفرنسي، فقبل وقوعها وبداية التخطيط لها، استشهد قائد الولاية التاريخية الثانية البطل ديدوش مراد في 18 جانفي 1955، كما اعتقل قائد منطقة الأوراس الشهيد البطل مصطفى بن بولعيد في فيفري من السنة نفسها.
وفي هذه السنة تحديدا، اشتد الحصار الفرنسي على الولاية التاريخية الأولى بمنطقة الأوراس، حيث سعى الاستعمار بكل ما أوتي من قوة لوأد الثورة في مهدها، لكن فلسفة هذه الأخيرة، القائمة على قدرة استخلاف القيادات بكفاءات تضاهيها حنكة ودهاء، مكنت من الالتفاف على الظروف الصعبة وخلق بيئة شاملة حاملة للعمل الثوري.
كان التحضير لهجمات الشمال القسنطيني بقيادة الشهيد البطل زيغوت يوسف، عملا استثنائيا، بدءا من اختيار موقع الاجتماع بجبل الزّمان بولاية سكيكدة المحصن طبيعيا، وصولا إلى طريقة التنفيذ في وضح النهار.
ولهذه الهجمات أهداف كبرى في الداخل والخارج، من حيث الفعل والرمزية، فقد جاءت تلبية لطلب قيادة الثورة في الأوراس بتخفيف الضغط وفك الحصار عنها، بعدما وضع الاستعمار الفرنسي معظم قواته في هذه المنطقة، ثم لضرب مشروع الحاكم الفرنسي جاك سوستال الذي أراد استمالة سكان الشمال القسنطيني وإبعادهم عن الثورة، في إطار الدعاية المضللة التي ربطت الكفاح المسلح بالاحتياجات الاجتماعية لمن كانوا يصفونهم بالأهالي والمواطنين من الدرجة الثانية.
وحضر البعد الديني المرسخ في الهوية الجزائرية، ضمن اختيار توقيت تنفيذ هذه الهجمات، إذ اعتبر القيام بها نهارا تشبها برسالة الإسلام (الجهر بالدعوة)، حينما خرجت من العمل السري إلى العلني، إلى جانب التأكيد على الحاضنة الشعبية للثورة.
ومثلما جرى التخطيط له من طرف زيغوت يوسف، بدأ المجاهدون، يدعمهم مواطنون مخلصون، هجماتهم منتصف النهار على ثكنات جيش الاستعمار الفرنسي، ومزارع الكولون التي سلبوها من ملاكها الأصليين.
بداية الهجمات كانت متناسقة زمنيا بكل مناطق الشمال القسنطيني، وألحقت أضرار جسيمة بالمستعمر، وانضم إليها المدنيون وسط مدينة سكيكدة؛ لأنها تزامنت مع وصول باخرة تقل المسافرين إلى الميناء، والذين انضم أغلبهم إلى مقاومة الاستعمار الفرنسي.
وحققت الهجمات معظم أهدافها، خاصة ضمان التحام الشعب مع ثورته، والحصول على أسلحة إضافية لتعزيز العمل المسلح، وفك الحصار عن منطقة الأوراس، وكذا تدويل القضية الجزائرية.
مجـازر لا تنسى
أمام ملعب مدينة سكيكدة، لازالت جرافة شاهدة على أحداث الأيام التي أعقبت هجمات الشمال القسنطيني. هذه الجرافة استخدمها الاستعمار الفرنسي، في جمع وتكديس الآلاف من الشهداء الذين قتلهم بشكل وحشي انتقاما.
وتتحدث مصادر تاريخية عن أرقام تفوق 13 ألف شهيد وسط مدينة سكيكدة لوحدها، وتؤكد أن عدد ضحايا الانتقام الفرنسي يزيد عن هذا الرقم بكثير في معظم المناطق التي شهدت هذه الهجمات.
ما قام به الاستعمار المدعوم بالمستوطنين الذين ساعدوه في التبليغ عن أماكن اختباء المجاهدين، هو إطلاق النار بشكل عشوائي على المدنيين في الشوارع، ولازالت صورة ذلك البائع المتجول الذي استشهد رميا بالرصاص تحت عربته والدماء تجري من تحته، شاهدة على القمع الوحشي بالمتحف الجهوي للمجاهدين علي كافي بولاية سكيكدة.
ومازالت الشهادات توثق قيام الجيش الفرنسي باعتقال كل من صادفه في الشارع يوم 21 أوت، بما فيهم الأطفال القصر وقادهم باتجاه الساحات والملاعب، لينفذ إعدامات جماعية.
هجمات الشمال القسنطيني أكدت - بما لا يدع مجالا للشك - أن الاستعمار الفرنسي في الجزائر يسير نحو نهايته المحتومة، وعن طريق الكفاح المسلح باعتبار ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، إذ توصف بأنها بمثابة “نوفمبر الثاني”، كونها منحت الزخم العسكري والشعبي للثورة التحريرية في وقت كان الرهان على القضاء عليها بأسرع وقت ممكن من قبل الاستعمار الفرنسي.
وبعد العبقرية التي ميزت الهجمات في التخطيط والتنفيذ، تأكدت فرنسا أنها أمام ثورة حقيقية يخوضها الشعب الجزائري من أجل استقلاله واسترجاع سيادته، وأدركت أنها أمام جيش تحريري حقيقي وليس مجرد مخربين وخارجين عن القانون مثلما وصفتهم في البداية.
مؤتمـر الصومـام
بعد عام كامل من هجمات الشمال القسنطيني، عقد مؤتمر الصومام، أي في 20 أوت 1956، ويعد أول مؤتمر لجبهة التحرير الوطني، منذ اندلاع الثورة، وحضرته معظم قيادات الصف الأولى.
الظروف التي أحاطت بتحضيره كانت معقدة للغاية، فبعد الهجمات التي قادها زيغوت يوسف لفك الحصار عن الأوراس، ضاعف الاستعمار الفرنسي عدد جنوده بالجزائر إلى أن وصل العدد إلى 400 ألف جندي، مهمتهم قمع الشعب الجزائري والقضاء على الثورة.
لذلك، اختير تاريخ ومكان الانعقاد بعناية فائقة أساسها السرية والتحضير اللوجيستي إلى جانب التأمين الذي تكفل به العقيد عميروش، حيث تم تجنيد 3 آلاف جندي لهذا الحدث دون أن يعلم أحد منهم بحقيقة مهمته وطبيعتها.
وفي مكان لا يبعد سوى بـ20 كلم عن أول ثكنة لجيش الاستعمار الفرنسي، انعقد المؤتمر بقرية إيفري أوزلاغن التي ترتفع بأزيد من ألف متر عن سطح البحر، وهي محصنة طبيعيا بالجبال والغابات الكثيفة.
وتكشف تفاصيل تكتيك تحضير وتأمين المؤتمر، مدى الأهمية الإستراتيجية له في إعادة تنظيم الثورة التحريرية بعد سنتين من اندلاعها، خاصة وأن كبار قادة المناطق - التي ستصبح بعد المؤتمر تسمى “الولايات” - شاركوا فيه.
ووفق ما تبينه الوثائق التاريخية فقد حضر المؤتمر كل من “ العربي بن مهيدي الذي كان مسؤولا عن المنطقة الخامسة والذي تولى رئاسة المؤتمر، وعبان رمضان منسق الجزائر العاصمة آنذاك والذي عين أمينا للمؤتمر، وزيغود يوسف ممثل المنطقة الثانية، وكريم بلقاسم من المنطقة الثالثة، وعمار أوعمران من المنطقة الرابعة، ولخضر بن طوبال من المنطقة الثانية، والذي كان أحد المخططين إلى جانب زيغود يوسف لهجمات الشمال القسنطيني”.
كما شارك في المؤتمر قادة كبار آخرون منهم سليمان دهيليس والقائد عز الدين وسي لخضر وعلي خوجة، وغاب عن الموعد التاريخي لأسباب قاهرة كل من مصطفى بن بولعيد الذي استشهد قبل خمسة أشهر عن انعقاد المؤتمر، وأحمد بن بلة، ممثل وفد جبهة التحرير في الخارج، و كذا علي ملاح الذي تعذر عليه بلوغ المكان فاضطر إلى إرسال ممثل آخر عن المنطقة الرابعة.
المؤتمرون، وعلى مدار أيام، ناقشوا كافة التفاصيل التي تدعم مستقبل الثورة في الشقين العسكري والسياسي، وخرجوا بعدة قرارات رسمت هيكلة جديدة وتنظيم إداري جديد، نص على استبدال تسمية المناطق الولايات وجعل العاصمة منطقة خاصة مستقلة في هذا التقسيم.
وتوج المؤتمر إلى جانب ذلك، بإنشاء المحاكم، والصحافة والإعلام، وتم التطرق حتى للأيتام والضحايا، ومن أبرز القرارات التي صودق عليها وحددت مسار الثورة لاحقا، إنشاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية ولجنة التنسيق والتنفيذ.
وعلى ضوء هذه المخرجات، مضت الثورة التحريرية المجيدة نحو طريق النصر، التي جاء بعد تضحيات جسام، راح ضحيتها خيرة القادة والمجاهدين إلى جانب قوافل من المواطنين العزل والأبرياء الذين قتلتهم فرنسا بدم بارد ودمرت قراهم وأحرقت منازلهم، واستخدمت ضدهم أبشع أساليب التنكيل والتعذيب والسلب والنهب.
ورغم ذلك، استعاد الشعب الجزائري سيادته الوطنية، ووضع حدا لـ130 سنة من الاستعمار الاستيطاني الذي أراد إبادة الفرد الجزائري وتعويضه بآخر أوروبي أو من بقاع الأرض الأخرى.
وتمثل مناسبة 20 أوت، محطة تاريخية ومناسبة وطنية خالدة، يتم من خلالها الغوص في تفاصيل بدايات أعظم ثورة في القرن العشرين، صنعها أبطال تؤكد الشهادات الحية، أنهم فعلوا ما فعلوه في سبيل الوطن بوسائل بسيطة لكن صنعوا الفارق بإرادة فولاذية وقوة الإيمان بالقضية، فلم تقهرهم لا القمع ولا التنكيل ولا القتل الجماعي.
القطيعة المتجددة مع الاستعمار، حدثت في هذا التاريخ وفي مواقع تاريخية أخرى، أكدت ألا مكان لفرنسا في الجزائر، وذلك هو قرار الشعب الجزائري الذي يظل متمسكا بالذاكرة الوطنية.
والتمسك بالذاكرة، هو ما أزعج الأوساط الفرنسية اليمينية، التي وصل بها الحنين إلى الاستعمار إلى درجة محاولة تلميعه والقيام بإساءات متكررة للجزائريين، وعدم احتمال رؤيتهم يحتفلون بهذه المناسبات الوطنية.
غير أن تمسك الجزائر قيادة وشعبا بالذاكرة الوطنية، يشكل حجر الزاوية في مسار بلوغ علاقات عادية مع باريس، وأكد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، ألا تناول أو تراجع قيد أنملة عن الذاكرة الوطنية التي تخيف الأوساط الفرنسية الحاقدة، لما تحتويه من أرشيف تاريخي أسود يوثق المجازر الوحشية والأساليب النازية التي مارسها الاستعمار ضد الجزائريين.
ووضعت الجزائر، منذ 2022، خطة عمل للذاكرة مع الجانب الفرنسي، تقوم على لجنة مشتركة للمؤرخين الذي يشتغلون على كل القضايا العالقة، وعقدت لحد الآن 5 اجتماعات، صبت كلها في المطالبة باستعادة الأرشيف الوطني كامل.