الأسير المحـرر أحمـد سليـم

ثمانـي رصاصـات..وقلـب لا ينهزم

بقلم: ثورة ياسر عرفات

في قلب سلفيت، حيث تنبض الأرض بالعزم، وتخضّبت التلال بصدى المقاومين، بدأت حكاية أحمد سليم الجقمط “أبو فادي”، قصة لا تُروى إلا بمداد الألم، ولا تُفهم إلا بمن عاش معنى الوطن الحقيقي. لم يكن أحمد مجرد شاب فلسطيني وُلد في مدينة سلفيت في أواخر الثمانينيات، بل كان وعدًا مؤجلاً للحرية، يحمل في قلبه شوق الأرض، وفي عينيه وهج التحدي. تربّى على حكايات الشهداء والأسرى، وسكنته فلسطين لا كخريطة بل كهوية لا تنفصل عن دمه. في أوائل الألفينات، وبينما كانت سلفيت تقاوم بصلابة جبالها، كان أحمد في طليعة من واجهوا المحتل. لم يكن ينتظر دورًا أو منصبًا، بل كان يتحرك من قلبه، مؤمنًا بأن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع.
وفي إحدى الأيام المشحونة بالتوتر، كان أحمد في ساحة من ساحات مدينة سلفيت، حين تسللت قوة صهيونية خاصة إلى المكان. وقع اشتباك عنيف، قاتل فيه أحمد ببسالة، لكن رصاصات الغدر اخترقت جسده، ثمانٍ منها استقرت فيه، وأثخنت قدمه بالجراح. لم يكن هذا المشهد نهاية، بل بداية الأسر الطويل. نُقل أحمد وهو ينزف إلى التحقيق ثم السجن، محمولًا على نقالة، لكن روحه لم تكن منهارة. بدأ داخل السجن فصلاً جديدًا من الصمود، لا كضحية، بل كمقاوم يتحدى السجن كما تحدى الرصاص. داخل الزنزانة، كان الألم في قدمه لا يفارقه، لكنه لم يطلب شفقة. لم يكن يعاني من أمراض، بل من إهمال طبي متعمد، ترك إصابته بلا علاج حقيقي، لتبقى آثارها شاهدة على جريمة الصمت. ورغم القيد والجراح، اختار أحمد أن يجعل من السجن جامعة. قرأ بنهم، درس، تثقف، وبدأ يُعلّم من حوله.
كانت روحه تكبر، وعقله يتسع، وكان دائمًا يقول لرفاقه: “السجن يقيّد الجسد، لكن الفكر لا يُسجن.” مرّت السنوات ثقيلة. أكثر من عقدين قضاهما خلف القضبان، تحمل خلالها أصعب أنواع العذاب النفسي والحرمان. لكن القلب ظل معلقًا بفلسطين، والأمل لم يمت فيه يومًا.
وفي فيفري من العام 2025، تنفس أحمد أولى أنفاس الحرية. أُفرج عنه ضمن صفقة تبادل مع الاحتلال، لكن الاحتلال لم يطلقه حرًا إلى بيته، بل اختار أن يُبعده إلى مصر، بعيدًا عن أهله، عن سلفيت، عن والدته التي انتظرته العمر كله. في القاهرة، لم يكن اللقاء بالحرية كاملاً. كانت فرحته مبتورة. استقبلته جالية فلسطينية تحتضنه، لكن قلبه كان هناك..في سلفيت، في بيت أمه، في أزقة الطفولة. لم يكن حرّا كما يجب أن يكون. لم يتجوّل في شوارع المدينة، بل يمكث في غرفة فندق، يراقب الزمن وهو يمرّ ببطء، يراقب مصيره المعلّق بين الحدود والمنفى. يحمل في صدره الشوق، وفي عينيه الانتظار. يسأل نفسه: هل ما زالت شجرة التين في الحوش كما تركها؟ هل تعرفني أمي إن رأتني؟ ومتى تعود قدماي لتطأ أرض سلفيت من جديد؟ وفي لحظة إنسانية لا تُنسى، جاءت أمّه من فلسطين لزيارته. عانقته كما لو أنها تحتضن الوطن كلّه، وبكت كما تبكي الأرض حين ترتوي بعد سنين الجفاف. عادت إلى سلفيت، وهو بقي خلف الحدود، لكن اللقاء أعاد الحياة لعينيه. سيعود أحمد إلى سلفيت، إلى شجر الخروب، إلى البيارة، إلى الحارة، إلى ضحكة أمه، وإلى تراب لا ينسى من أحبه. المنفى لا يدوم، والسجون لا تُخلد، لكن العائدين أمثال أحمد..هم من تكتب الأرض أسماءهم في حجارتها.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19850

العدد 19850

السبت 16 أوث 2025
العدد 19849

العدد 19849

الخميس 14 أوث 2025
العدد 19848

العدد 19848

الأربعاء 13 أوث 2025
العدد 19847

العدد 19847

الثلاثاء 12 أوث 2025