الشيخ محمد جمال النتشة

منــارة عالية غُيّبت خـلف ستائـر العتمـة

بقلم الأسير المحرّر: وليد الهودلى

 لم تره الخليل في ربوعها أكثر ممّا رأته السجون في غياهبها، أسدلت عليه ستائر العتمة سنوات طويلة ناهزت العشرين، وقضى منها سنوات معزولا عزلا انفراديا لا يناجي إلا نفسه وربّه، ولولا يقين وقر في صدره وإيمان عميق يسكن قلبه لانفرط عقد مشاعره ولفقد زمام عقله، بقي بحرا مديدا ترسوا على ضفافه قلوب المعذّبين لتجد ملاذها وأنسها وبلسم شفائها الجميل.

 الشيخ في حبسته الأخيرة يعاني الأمرّين، الآن يعاني السجن التعسفي وحالة التوحش والسعار الذي أصيب به السجّان بعد حرب الإبادة التي أقامها في غزّة، لقد مارسوا كل أشكال وأنواع ساديتهم على جسد الشيخ، أحالوه هيكلا عظميا مكسّر الأطراف، استفردوا به بصورة غير مسبوقة وافرغوا على رأسه كلّ أحقادهم، وصل حافة الموت عدة مرأت وتسرّبت أخبار إدخاله حالة الإنعاش السريري، وهناك بالطبع ماكينة الإهمال الطبّي.
لم يرقبوا فيه إلا ولا ذمة ولا أدنى اعتبار إنساني أو قانوني، فقط انطلقوا من وحشيّتهم وعنصريتهم التي لم يسبقهم إليها أحد، وطبعا الاخبار منقطعة فلا محامي يزوره ولا هو عند الأسرى فتتسرّب أخباره، هو في العزل والزّنزانة الانفرادية التي بمجرّد وجوده هناك خلف الحياة البشريّة فيها ما فيها من العذاب، فكيف إذا اجتمع عليه ما أصابه من كسور تحتاج إلى مسكنات وعلاج، هناك لا شيء من هذا القبيل فابن غفير قبحه الله يعتبر ذلك رفاهية ونوعا من الدلال. كان الشيخ المربّي القائد في السجون وما زال مصدر إلهام ومنارة إشعاع فكري وروحي، شكّل في السجن معهد تطوير للقدرات وصناعة الارادات، يقيم موائد فكرية وتربوية ويحرّض المؤمنين على رفع درجة الاشتباك، وتعظيم قدرات الذات على محكات التحدّي ومقارعة السجان.
وكان منطلقه الأوّل في عملية بناء الذات المجاهدة أن يجعل من نفسه قدوة عالية، كان من الذين إذا رأيتهم ذكرت الله بمعنى أن تعلي من شأن كل القيم المتصلة بذكر الله، خاصة تلك المتصلة بأسمائه الحسنى وصفاته العليا لتفتح آفاقا عالية بأخذ نصيبك منها، وما ينعكس ذلك على شخصية كلّ من علّق قلبه بذكر الله. ومن ذلك ما لتوحيد الله من أثر عميق في عملية التحرّر الكامل ممّا سوى الله فتصنع الإرادة الحرّة والشخصية ذات السيادة الكاملة على كل المساحات الشاسعة التي تتشكّل منها لتكتمل كلّ أركانها الحرّة المؤمنة الأبيّة.كان بإمكان الشيخ أن يركّز ربابته بعد أن أمضى في السجون عشر سنوات مثلا، وأن يتخذ لنفسه منبرا يصدّر من خلاله خطابا ناعما آمنا لا يعيده إلى السجون، فهناك كثيرون رضوا من الدين أدناه ومن الخطاب مالا يزعج الظالمين، أن يسير بين السطور وأن ينحني أمام العاصفة، ولكنها أمانة منبر رسول الله وهذا أبو همام صاحب الروح العالية والنبض القوي، والفهم العميق للإسلام بسقفه المرتفع.
إنّها الكلمة الحرّة والنبض العالي، ودون ذلك كما نرى فيمن قتلوا الخطاب ومنعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ذكرا يليق بجلاله، أماتوا دين الله في قلوب الناس، الشيخ كان على العكس تماما يحيي النفوس من معين روحه العالية.هو صاحب فهم عميق ويمتلك ناصية منهج حركي للفكرة ممّا ينتج ثورة ويصنع في النفوس إرادة الثورة، لذلك يعتبرونه خطرا عليهم ومصدر طاقة عالية تضرب أركان أمنهم. الشيخ لم يهن ولم يضعف ولم يفتّ في عضده كل إجراءات ردعهم وقمعهم، بل ازداد صلابة وعنفوانا، أصرّوا على أن يكيلوا له من الاعتقالات الإدارية الاعتقال تلو الاعتقال دون أيّة فائدة، بل احتاروا في أمره ما بين إنتاجه في السجن أو إنتاجه خارج السجن.
حيث ما حلّ أو ارتحل يحرّك القلوب، ويزرع فيها ما لا يزرعه أحد، لا مسجد ولا جامعة ولا مدرسة، كان يمثّل الذي تجاوزته هذه من أمور المحظورات التربويّة التي تخشاها المؤسسة الرسميّة، من فهم أمني وحركي وثوريّ وسياسي وفكر حرّ ومقاوم. ومع كل ما يحمل من ثراء معرفي وحضور ثوري كان متواضعا خافضا للجناح، طيب الروح جميل العشرة، يألفه الأسرى ويلوذون إليه بلسما لجراحهم ومرشدا لأرواحهم، من يسعده حظه فيساكنه في غرفة سجن يجد عنده السكن والمحبة والرحمة، وجميل الوصل وانشراح الصدر وطيب المعشر.
سيبقى الشيخ معلما حضاريّا حاضرا قويا عاليا على صعيد الفكرة والروح العاليّة، وهذا الجمع هو أهم ما ميّزه في ميادين المعرفة، من السهل أن يُحمل الفكر بصورته النظرية، ولكن أن يجعل من سيرة حياته نموذجا شاخصا بكلّ أبعادها، وبصورة تتجسّد فيها التضحية بأبهى صورها وأعظمها حضورا ونضوجا، فهذا هو الشيخ فرج الله كربه وفك قيده مع كل الأسرى والمعتقلين.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19859

العدد 19859

الثلاثاء 26 أوث 2025
العدد 19858

العدد 19858

الإثنين 25 أوث 2025
العدد 19857

العدد 19857

الأحد 24 أوث 2025
العدد 19856

العدد 19856

السبت 23 أوث 2025