تشكيل النّخب على أسس الشهرة عوض الجدارة..خطأ ذريـع يرتكبه العـالم
الـذّوق العام اليـوم لا يُبنـى على العقلانيـة بــل على المزاج والشعــور..
ما يخدم الإثــارة والفرجـة والتّرفيـه صـار يعلـو على مـا يُحفّــز التّفكـير
المثقفـون مهمّشون لأنّ خطــابهم يتطلـب جهــدًا إدراكيًـا ووعيًا نقديًـــا
تحولات يُــراد فرضهــا عالميًـا على البنيــة الإعلاميـة والثّقافيـة المعاصـرة
نعيش عصرا تهيمن عليه التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، وتتداخل حياتنا الرقمية والواقعية بشكل غير مسبوق. فقد أحدثت التكنولوجيا ثورة هائلة في طريقة تواصلنا، وعملنا، وتعلمنا، وترفيهنا، وحتى في طريقة تفكيرنا وإدراكنا للعالم من حولنا..صار العالم محكوما بالتّغير المستمر، ويطرح تحديات جديدة تبلغ درجة التهديدات على المستوى الاجتماعي والثقافي..أسئلة عن الواقع المعيش والآفاق المستقبلية طرحناها على الدكتور خليل بن عزة، فكان هذا الحوار..
- الشعب: كثيرون يردّدون أن “التفاهة” صارت عنوانا لــ«عصر الميديا”..ما الّذي سمح لها باحتلال ما يوصف بأنه “موقع مركزي”؟ وهل فعلا صار العقلاء والمثقفون مهمشين؟!
خليل بن عزة: أصبح صُعود ما يصطلح على تسميتهم بلغة العصر “المؤثرين” وبلغة السوسيولوجيا والدّراسات الثّقافية المعاصرة “التّافهين”، إلى صدارةِ المشهد الإعلامي والثّقافي في هذا العصر، إنّها ظاهرة لافتة ومثيرة للتعجب! ليس لأنهم يملكون تميزًا معرفيًا أو تفوقًا أخلاقيًا، بل لأن الجماهير باتت تطلبهم وتروّج لهم باستماتة، فهؤلاء لم يفرضوا أنفسهم قسرًا، بل جرى استقبالهم من باب مفتوح اسمه الذوق العام، في زمنٍ تُهيمن عليه إقتصاديات الانتباه، فصار المُلفت هو ما يُستهلَك ويُحتفى به. بلغةٍ أخرى لقد أصبحت هيمنة التّفاهة أحد أبرز مظاهر الثقافة المعاصرة، ليس لأن التّفاهة متفوقة معرفيًا أو أخلاقيًا، بل لأن الجماهير -بما تحمله من حاجات نفسية واجتماعية- هي الّتي تدفع بهذا النّمط من الشّخصيات إلى الواجهة. والحاصل اليوم أن الذّوق العام، لم يعد مُشكَّلًا على أساس القيم العليا أو العمق الفكري، بل صار أقرب إلى الإستجابة للاواعية الجماعية التّي تبحث عن التّرفيه وتتهرب من المواجهة الفكرية الواقعية والعقلانية، فالجماهير في عمومِها لا تُريد ما يُقلقها أو يُربك منظومتها الإدراكية؛ إنّها ترفض الوعي النّقدي، وتفضل عليه الوهم المُريح، ذلك أن الحقيقة تتطلب شجاعةً وموقفًا، بينما الوهم يمنحُ الطمأنينة والرّاحة الذّهنية، وإن كانت زائفـةً.
- هذا يعني أن الطبيعة السّيكولوجية للجماهير ساهمت في تفشي “التّفاهة” وانحدار الذّوق العام، بنفس القدر الذّي ساهم به المؤثرون الذّين ينشرونها؟
إن شئتم ذلك، فالجماهير أو بما يصفه الفيلسوف إدغار موران بـ«عقل الجمهور الجماعي”، لا تريد أن تُستفَزّ أو تُحرَج أمام حقائق صادمة أو تحليلات عميقة..إنها تميل إلى الوهم المريح وتُعرِض عن الوعي النّقدي. وهذا ما يُفسر لماذا يُقبل النّاس على المحتوى السّطحي والتّرفيهي أيّما إقبال، بينما نجدهم يتجنبون الفكر والتّحليل، الذّوق العام..اليوم لا يُبنى على العقلانية، بل على المزاج والشعور، وهو ما يجعل الجماهير تختار بإرادتها الحرة هؤلاء التّافهين وتمنحهم التّقدير والنجومية، الاحترام، وحتى الثّراء وتحقيق الذّات.
لعلّها أزمة قيمية وأخلاقية مسّت المجتمعات المعاصرة..
طبعًا، هذا أكيد، فسيطرة التّفاهة على الفضاء العمومي الإفتراضي ليست حالةً عرضيةً، بل نتيجةً منطقيةً لتحولاتٍ عميقةٍ مسّت القيم والمعايير في المجتمعات اليوم، هكذا هي سيكولوجية الجماهير في سلوكاتها الجمعية على حد تعبير عالم النفس والمفكر غوستاف لوبون، يُسيطر عليها الاندفاع والهيجان الحماسي وفقدان القدرة على التّفكيرِ بطريقةٍ منطقيةٍ. فالجمهورُ العريضُ، بدلاً مـن أن يبحثَ عن الوعي النّقدي، بات يفضل الوهم المريح على الحقيقة، ويجد في التّرفيه مهربًا من التّفكير. أي أنّه اليوم لا يُريد رؤيةً شفافةً للأشياء، بل يُفضّل الضّبابية والغموض، لأنها تـرِيحه وتبعده عن مواجهة الواقع.
تأسيسًا على ذلك، دعيني أقول بكل أسفٍ أن هؤلاء الذّين نطلق عليهم “تافهون”، نجحوا ببراعة لأنهم تحدثوا بلغة اللاوعي الجمعي، ومثّلوا ما يتمنى كثيرون فعله أو قوله لولا القيود السوسيوثقافية..هم ليسوا عباقرة ولا سُذّج، بل ببساطة أكثر براجماتية وواقعية من غيرهم، لأنهم فهموا آليات السوق الثقافية الجديدة، القائمة على قاعدة (لا حاجة للفكر المعمق، بل لمحتوى سهل وسريع وممتع ومريح، المهم أن يكون قابلا للاستهلاك والانتشار، مهما كانت قيمته)، لكن خطرهم يبدأ من حيث تنتهي براجماتيتهم، فقد صاروا وقودا لحروب الجيلين الخامس والسّادس، وهنا ينبغي أن نحذر.
- لكن ذلك أثّر على الفكر الواعي والثقافة الحقيقية والمسؤولية الاجتماعية الّتي تحمل المُثُل العليا والقيم النّبيلة، وتحمي المجتمعات والدّول من أخطار الثّقافة التّسليعية، وتساهم في بنائها على أسس متينة تحفظ أمنها وسلامتها؟
صحيح، يتعرّض العقلاء والمثقفون الحقيقيون في عصرنا إلى تهميش غير مسبوق، لا لشيء سوى لأنّهم يقدّمون خطابًا يتطلب جهدًا إدراكيًا ووعيًا نقديًا، بينما تطلب السوق التّبسيط والاختزال والانفعال اللحظي. لقد صار يُنظر إليهم كأنهم “معقّدون”، بينما المحتوى التّافه على ما فيه من خطورة، يُحتفى به لأنه خفيف على القلب وسهل التّداول، خاصة عبر الفضاء العمومي الإفتراضي على مستوى منصات السوسيال ميديا الّتي تحوّلت إلى فضاءات لتسليع الوعي، يُقاس فيه النّجاح بعدد المتابعين لا بعمقِ الفكرةِ، وإخلاصِها، ومدى قدرتها على خدمة البلدان، أمم ومجتمعات.
- تتابع الشأن الثقافي وألفت كتابا يتضمّن مسائل حول الدّراسات الثّقافية والإعلام، ما سبب التّحولات الرّاهنة؟
الجواب على هذا السؤال المهم جدا، يبدأ من فهمِ هذه التّحولات العميقة التّي طرأت على البنية الثّقافية والإعلامية المعاصرة. اليوم لم يَعُد المحتوى يُقيَّم من حيث الجودة، بل من حيث “القابلية للمشاركة” و«قوة الجذب العاطفي”. نحن أمام مشهدٍ ديناميكي تَحكُمه اقتصاديات الإنتباه، حيث تُصبح التّفاهة عملةً رائجةً لأنها خفيفةً، سهلةً..ولا تتطلب مجهودًا فكريًا، وتُسهم في تقليل التّوتر بدلًا من رفـعِ الوعي، لذلك نلاحظ أنّ التّافهين لا يُخاطبون العقول، بل يشحنون العواطف ويُجيدون التّسويق الذّاتي، ويقدّمون أنفسهم كـ “نسخ محسّنة” من الجمهور ذاته، ما يخلق نوعًا من القبول النّفسي والتّطبيع مع الرّداءة. هم ليسوا خارج المنظومة، بل نتاجها الطبيعي، وتجسيد حيّ لتحولاتِها العميقة، هؤلاء لم ينجحوا عبثًا، ولم يخترعوا شيئًا جديدًا، بل جسّدوا رغباتٍ مكبوتة في وعي الجمهور، وتكلموا بصوت “الهوى الجمعي”، وفعلوا ما يتمنى الكثيرون فعله لولا القيود السوسيوثقافية. هم ليسوا عباقرة، ولا أغبياء، بل براجماتيون واقعيون. فهموا قواعد اللعبة الجديدة وتَمكنوا من استغلالها. لا يخجلون من استعراض ذاتهم، ولا يرون في الاستهلاك المفرط أو التّسطيح خطرًا، بل فرصة للظهور والتّوسع، لهذا لا يمكن اعتبارهم عباقرةً ولا حمقى، بل براجماتيين إلى أقصى حد، فهم يدركون أن الوصول إلى النفوذ الثّقافي لا يحتاج إلى جودة، بل إلى مهارةٍ في التّسويق الذّاتي والتّواصل العاطفي مع الجمهور، لهذا أظل أقول بأنهم يعرضون أنفسهم كـ “نسخ محسّنة” من الجمهور ذاته.
- تقصد أنّ صوت العقل والذّوق الرّفيع راح ضحية القدرة الجيدة لهؤلاء على التّسويق الذّاتي والتّواصل العاطفي؟
نعم، مع كل الأسف، فالعقلاء والمثقفون الحقيقيون يُدفعون يومًا بعد يومٍ إلى الهامش، لسبب بسيط وهو أنهم يتحدثون من موقع “الوعي الأعلى”، يُعقِّدون البساطة، ويطالبون بالمسؤولية في زمن تقوده ثقافة الاستهلاك السّريع للمحتوى مهما كان هابطًا ومُضرا، لقد أصبح العمق عيبًا والتّحليل عبئًا. وهكذا، يُقصى كل من لا يرضخ لمنطق السوق الثّقافي الجديد المعولم، وهنا تكمن المأساة الحقيقية، لقد انتقلت السلطة الثّقافية من النخب القائمة على المعرفة إلى نخب قائمة على الجماهيرية الفارغة، ولم تعد الجودة شرطًا للنّجاح، بل صار المطلوب هو التّواصل العاطفي الفوري، حتى لو كان ذلك على حساب المعنى. أمّا تهميش العقلاء والمثقفين فسببه أنهم يقدمون ما لا يريده المستهلك الإعلامي المعاصر، العمق، التّحليل، المواجهة، والمسؤولية..إنهم يتكلمون من موقع “الوعي الأعلى”، بينما السوق المعرفية اليوم تحكمها اقتصاديات الانتباه وثقافة الاستهلاك السّريع للمحتوى. ويُعد هذا المشهد التّراجيدي انعكاسًا لتحولات أعمق يعيشها العالم في سياق يُعاد فيه تشكيل النخبة ليس على أساس الجدارة، بل على أساس الجماهيرية والترندات والانتشار..وصار كل ما يخدم الإثارة والفرجة والتّرفيه يعلو على كل ما يُحفّز التّفكير، أو يوقظ الضّمير، أو يدعو إلى الإلتزام بمسؤولياتِه الإيجابية تجاه المجتمع.
- ما الحلول الّتي تقترحها للحدِّ من أخطار المـد الميديائي ؟
كتبت وحاضرت حول هذا الإشكال الهام، ومع تعدد الحلول بين الأمني والعلمي والاجتماعي، لازلت أصر كذلك على أهمية “التّربية الإعلامية”، فما أحوجنا إلى هذه العملية المتكاملة معرفيًا ووجدانيًا، والتّي من خلالها يبلغ المجتمع حدّا ملائما من الدِّراية بعالم الإعلام والاتصال، وسائله وتقنياته، رسائله ومضامينه، خلفياته وآيديولوجياته..خاصةً في عصر معولم، وعالم متغير ومتسارع، وسياقات حروب الجيلين الرّابع والخامس، والميتافارس القادم..ومالها من خطر يمس الأمن الفكري للأمم، ويتجاوز ذلك إلى حد تشكيل الخطر على الأمن القومي للدّول والحكومات..وفي هذا الشأن، انتهيت مؤخرا من كتابة كتابٍ سأسعى لنشره قريبًا بعنوان: “الحروب منذ الجيل الأول إلى غاية النّيوميديا والذّكاء الإصطناعي”. والحق أنه سيكون مهما جدا في بلادنا، وخاصة لشبابنا سواء المدنيين أو العسكريين، إذا لقيَ اهتمامًا رسميًا.
أعود، بالتّربية الإعلامية يستطيع الفرد والمجتمع بلوغ حدّ أدنى من العقلانية في التّقييم النّقدي للمحتويات الإعلامية، أكانت جماهيرية أم تفاعلية، ويكتسب المواطن الكفاءات الأساسية التي تتيح له التّعامل مع وسائل الإعلام على نحو فعّال، وكل ذلك بمساعدة مؤسسات صناعة الوعي الأخرى (الأسرة، المدرسة، الجامعة، المجتمع المدني..) في سبيل التّنشئة الاجتماعية الجيدة التي تصنع مواطناً فعّالاً، مسؤولاً إجتماعيا، ومنتجاً إقتصاديا.
- ماذا تقول في ختام هذا الحوار؟
في الختام، أود أن أقول بأن ما يحدث اليوم من انتشار المحتويات الهابطة قيميًا وذوقيًا، ليس هو الخطر الأكبر، بل الخطر كذلك في قبولها كمقياس وحيدٍ للنّجاح، يجب أن ندرك أنّه إن لم نع ونستوعب أن ما يُكرَّس اليوم هو نتيجة لاختياراتنا الفردية والجماعية، فستظل الرّداءة تتصدر المشهد وتحاصرنا من كلّ حدبٍ وصوب، وسيبقى العقل شاهدًا صامتًا على انسحابه من المشهد. ويمكن القول كذلك إن صعود وتصاعد مدّ التفاهة ليس فقط مؤامرةً، بل نتيجةً منطقية وحتميةً لتحولاتٍ ثقافيةٍ ومؤسساتيةٍ عميقة، لكن الوعي بهذه التّحولات هو الخطوة الأولى نحو التّغيير. كذلك يجب أن ندرك كأمة فتية ومجتمع، أننا بحاجة إلى ثقافة جديدة للذّوق العام، لنتجنب الخطر الذي سيظل يحدق بنا، إذا بقي العقل في موقع المتفرج الصّامت.
باختصار، ينبغي علينا الحدّ من التّحولات التّي يُراد فرضها عالميًا على البنية الإعلامية والثّقافية المعاصرة، حيث تُستبدل الجدية بالسّطحية، ينبغي أن نمانع ونقاوم محاولات إعادة تشكيل “النخبة” على أسس الجماهيرية لا الجدارة، ومن ثم استثمارها إمبرياليًا نيوكولونياليًا كطوابير خامسة، تهدد أمن وسلامة الدول التّي ترفض أي محاولات للتّدخل في شؤونها الدّاخلية، ومَسّ أمنها السّياسي والاجتماعي والاقتصادي والفكري، وسلامة أراضيها