يُقدم البحث المعنون بـ«الإنتاج المعرفي لعلماء مدينة الجزائر (جزائر بني مزغنة) في مجال العلوم النقلية خلال العصر الإسلامي الوسيط: دراسة إحصائية تحليلية” لعبد القادر قريشان وإسماعيل سامعي، مادة علمية قيّمة تُلقي الضوء على حقبة مهمة من تاريخ مدينة الجزائر المعرفي.
لا تقتصر أهمية الدراسة على سردٍ تاريخي، بل تمتد لتشمل تحليلاً إحصائيًا دقيقًا يُقدّم رؤى معمّقة حول طبيعة الإنتاج المعرفي وكمّه، وإن كانت تثير في الوقت ذاته تساؤلات حول التحدّيات التي واجهت حفظ هذا الإرث.
يُبرز الباحثان بوضوح الأهمية الكبيرة التي حظيت بها العلوم النقلية في مدينة الجزائر وأحوازها خلال العصر الإسلامي الوسيط. يُشيران إلى أنها كانت “عماد الشرع وعليها مدار الحياة العلمية وهي أحق ما يكون بالبحث والدراسة”. هذا التأكيد على كونها “عماد الشرع” يُوضح الطبيعة الدينية المحورية للحياة العلمية في تلك الفترة، حيث كانت العلوم النقلية (كالتفسير والحديث والفقه) تُشكل أساس الفهم والتطبيق الشرعي. لم يكن اهتمام العلماء مقتصرًا على التدريس والرواية، بل تجاوز ذلك إلى “ميدان التأليف والتصنيف”، مما يؤكد على مساهمتهم الفاعلة في إثراء المحتوى المعرفي وتطويره.
التنوّع الكمّي والنوعي للإنتاج المعرفي
يُقدم المقال صورة واضحة عن تنوّع الإنتاج المعرفي لعلماء المدينة. يُشير إلى أن الجهود المبذولة أفرزت “رصيداً ثقافياً علمياً وفكرياً غزيراً ومتنوّعاً تمثل في تأليف العديد من المؤلفات والمصنفات في سائر العلوم سواء الإسلامية النقلية أو حتى العلوم الاجتماعية من تفسير وحديث وأدب وفقه وسيرة وتاريخ وغيرها من الأصناف”.
هذا التنوّع يدل على شمولية النظرة المعرفية لعلماء الجزائر، وعدم اقتصارهم على جانب واحد من العلوم. يبرز الباحثان أن الفقه المالكي نال “الحظ الوافر” من التأليف، وهو ما يتسّق مع طبيعة المذهب السائد في المغرب الأوسط.
عبد الرحمن الثعالبي..
يُسلط البحث الضوء على شخصيات علمية محورية، ويُقدّم عبد الرحمن الثعالبي كـ«ذاكرة علمية لمدينة الجزائر في العصر الوسيط”. يذكر الباحثان أنه “انفرد بالتصنيف والتأليف في شتى الفنون والعلوم وقد بلغت مؤلفاته حوالي 37 مؤلفا”. هذا التركيز يُوضح الدور المحوري الذي لعبه الثعالبي في إثراء المكتبة الجزائرية والإسلامية، ويُشير إلى غزارة إنتاجه وتنوّعه. كما يُقدم أمثلة أخرى لعلماء كبار مثل يحيى بن عبد المعطي بن عبد النور الزواوي ومحمد بن الحسن بن علي بن ميمون التميمي القلعي.
ظاهرة التراث المفقود
تُعدّ هذه النقطة من أهم وأكثر الأفكار تأثيرًا في المقال، حيث تُكشف عن حجم الخسارة المعرفية التي تعرضت لها مدينة الجزائر. تُوّضح الدراسة أن “التراث المفقود يمثل النشاط الأكثر عددا في مجال التأليف”، حيث بلغ “نسبة 72 بالمائة من العدد الإجمالي للمصنفات أي 64 مؤلفا”.. هذه النسبة الكبيرة تُثير تساؤلات مُلحة حول أسباب هذا الفقدان، سواء كانت حروبًا، كوارث طبيعية، إهمالًا، أو غير ذلك. تُشكل هذه النتيجة دعوة صريحة للباحثين والمؤسسات الثقافية لـ«جهود إضافية للبحث عنه وتحقيقه ونشره”..
إن تحديد حجم المفقود يُعدّ خطوة أولى نحو فهم أبعاد هذه الخسارة وضرورة العمل على استعادة ما يمكن استعادته من هذا التراث. في المقابل، يمثل المخطوط الموجود 12بالمائة من المؤلفات (10 مصنفات)، والمطبوع 16بالمائة (14 مؤلفًا). هذه الأرقام تُظهر أن الجزء الأكبر من الإنتاج المعرفي لعلماء مدينة الجزائر في تلك الفترة لا يزال غير متاح للدراسة والتحقيق.
الترابط الثقافي والتأثيرات الخارجية
يُشير الباحثان إلى “الترابط الثقافي للمدينة مع حواضر المغرب الأوسط والإسلامي بصفة عامة”. هذا الترابط كان له دور مهم في إثراء الحياة الثقافية للمدينة، خاصّة مع هجرة “أسر وجيهة وأعلام أندلسية بارزة” إليها نتيجة سقوط الحواضر الأندلسية. هذا التفاعل الثقافي أثر “إيجابا على الحياة الثقافية للمدينة بصفة عامة وحركة التأليف بصفة خاصة”.. هذه الفكرة تُعزز من مفهوم أن المراكز العلمية لم تكن معزولة، بل كانت تتأثر وتُؤثر في محيطها الثقافي الأوسع، مما يُسهم في إثراء حركتها العلمية.
ملاحظـات نقديــــة..
أسباب الفقدان: على الرغم من إبراز ظاهرة التراث المفقود، فإن المقال لا يتعمّق في تحليل الأسباب المحتملة لهذا الفقدان. يمكن أن تُشير دراسات مستقبلية إلى العوامل التاريخية والاجتماعية التي أدّت إلى ضياع هذه المؤلفات.
المنهجية الإحصائية: تُقدّم الدراسة إحصائيات دقيقة، ولكن قد يستفيد القارئ من تحليل أكثر تفصيلاً لهذه الإحصائيات، مثل مقارنات بين فترات زمنية محددة أو مقارنات بين أنواع العلوم النقلية المختلفة بشكل أعمق.
التوصيات العملية: يُمكن أن يُعزّز البحث من تأثيره بتقديم توصيات أكثر تفصيلاً للمؤسسات الثقافية والبحثية حول كيفية البحث عن التراث المفقود وتحقيقه ونشره.
ختامـا..
يُعد بحث “الإنتاج المعرفي لعلماء مدينة الجزائر” إضافة مهمة للمكتبة التاريخية والمعرفية. فقد نجح الباحثان في تسليط الضوء على فترة مزدهرة من تاريخ الجزائر العلمي، وإبراز الدور الحيوي لعلماء مدينة الجزائر في إثراء الثقافة الإسلامية. إن الإحصائيات المقدمة، وخاصة تلك المتعلقة بالتراث المفقود، تُشكل دعوة قوية للمزيد من البحث والتنقيب، بهدف استعادة جزء من الذاكرة المعرفية لمدينة الجزائر والمغرب الأوسط، وضمان وصول هذا الإرث للأجيال القادمة.