مَسَالِكُ المَعرِفَة في مَالـكِ التَّرجمة..

حِـينَ يُـفســدُ النَّقــل ما أصلَـــحَ العَقـل!

بِقَلَم: عَمَّار قواسمية

الحَمدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ الكَلِمَةَ مِفتَاحًا لِلعُقُول، وَاللِّسَانَ سُلَّمًا لِلوُصُول، وَفَتَحَ بِالتَّرجَمَةِ أَبوَابَ الفُهُوم، وَبَثَّ بِهَا فِي الأَرضِ رَوَائِحَ الحِكَمِ وَرَوائِع العُلُوم، فَبِهَا تَتَآلَفُ الأروَاحُ إِن تَنَافَرَت، وَتَتَفَاهَمُ العُقُولُ إِن تَنَاثَرَت، وَيَنقَشِعُ غُبَارُ الجَهلِ إِذَا تَنَاوَحَت الأَلسُنُ وَتَحَاوَرَت.


فَاعلَم أَنَّ التَّرجَمَةَ لَيسَت تَحوِيلًا لِلأَلفَاظِ كَمَا يُحَوَّلُ الدِّرهَمُ إِلَى الدِّينَار، وَلَا نَقلًا لِلكَلِمَاتِ كَمَا تُنقَلُ السِّلَعُ فِي الأَسوَاقِ وَالأَسفَار، بَل هِيَ نَقلٌ لِلمَعَانِي فِي رِقَائِقِ الكَلِمَات، وَحِفظٌ لِلمَقَاصِدِ فِي قَوَالِبِ العِبَارَات؛ فَالمُتَرجِمُ إِذَا أَخطَأَ أَضَلَّ السَّامِعَ وَأَضَاعَ الذِّكر، وَإِذَا أَحسَنَ أَنطَقَ العِلمَ وَأَنقَذَ الفِكر. وَلَكِنَّ بَلِيَّةَ التَّرجَمَةِ أَن خَاضَهَا مَن لَا يُحسِنُ السِّبَاحَةَ فِي بَحرِ اللُّغَات، وَتَصَدَّرَ لَها مَن لَا يَعرِفُ مَوَازِينَ الأَوزَانِ وَلَا مَقَادِيرَ الأَصوَات، فَضَاعَت الأَمَانَة وصارت المَعَانِي تَتَقَلَّبُ فِي الكُتُبِ تَقَلُّبَ الزَّبَدِ فِي لُجَجِ المَاء، وغَدَت الأَقلَامُ تَتَلَاعَبُ بِالمَعَانِي كَمَا تَتَلَاعَبُ الرِّيَاحُ بِالسُّحُبِ فِي السَّمَاء، تَصُوغُهَا أَيـدٍ لا تُجِيد، وتَنطِقُها أَلسِنَةٌ لا تُفِيد، فَتُبتَلَى النُّفُوسُ بِخَلطِ المَقصُودِ بِالمَفسُود، وَتَضِلُّ العُقُولُ فِي مَتَاهَاتِ الغُمُوضِ وَالجُمُود. فَانظُر – هُدِيتَ - فِي كُلِّ نَصٍّ تُتَرجِمُه، وَتَفَكَّر فِي كُلِّ قَولٍ تَنقُلُه؛ فَإِنَّ الكَلِمَةَ إِن عَثَرَت تَعَثَّرَت بِهَا الأُمَم، وَإِن صَحَّت رَفَعَت الهِمَم وأقامَت مَعَانِيَ الحَقِّ عَلَى القِمَم..!

في حقيقة الترجمان ومزالق البيان

وَاعلَم أَنَّ التَّرجَمَةَ لَيسَت نَقلًا لَفظِيًّا مَحضًا، بَل هِيَ نَقلٌ دَلَالِيٌّ (semantic transfer)، وَمَعنَوِيٌّ (meaning-based)، يَتَطَلَّبُ مَعرِفَةً بِاللُّغَةِ المَصدَرِ وَاللُّغَةِ الهَدَفِ عَلَى سَوَاء، مَعَ إِدرَاكِ السِّيَاقِ (contextual awareness)، وَفِقهِ المَقصِدِ (pragmatic intention)؛ إِذ قَد تَكُونُ الْأَلفَاظُ وَاحِدَةً، وَلَكِنِ المَعَانِي تَختَلِفُ بِاختِلَافِ السِّيَاقَاتِ وَالمَقَاصِد. وَقَد قَالَ الجاحظ فِي “البَيَان وَالتَّبيِين”: «وَالتَّرجُمَانُ لَا يُؤَدِّي أَبَدًا مَا قَالَ الحَكِيمُ عَلَى خَصَائِصِ مَعَانِيه، وَحَقَائِقِ تَأوِيلِه، وَجَلِيَّةِ مَذهَبِه، وَإِنَّمَا يُؤَدِّيهِ عَلَى قَدرِ مَا يَفهَم، وَعَلَى قَدرِ مَا يَحتَمِل، وَيُدرِك».
وَهَذَا القَولُ أَصلٌ يُرجَعُ إِلَيهِ فِي كُلِّ نِقَاشٍ عَن تَرجَمَةِ النُّصُوصِ. وَمِن أَعظَمِ المُغَالَطَاتِ فِي بَابِ التَّرجَمَةِ الظَّنُّ بِأَنَّ نَقلَ المَعَانِي كَافٍ دُونَ مَعرِفَةِ الْأُصُولِ، أَو أَنَّ الكَلِمَاتِ تُقَابِلُ كَلِمَاتٍ، وَهَذَا خَطَأٌ مُبِينٌ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ لِسَانٍ دَلَالَاتٍ خَفِيَّةً، وَمَجَازَاتٍ مُضمَرَةً، لَا تُفهَمُ إِلَّا بِأَدَوَاتِهَا الثَّقَافِيَّةِ (cultural codes) وَالمَعرِفِيَّة.

مــــن تاريـــــخ الترجمــــــة

وَالتَّرجَمَةُ قَدِيمَةٌ قِدَمَ الحَضَارَات؛ فَقَد كَانَ الفَرَاعِنَةُ يُتَرجِمُونَ بَينَ لُغَاتِ الشَّرقِ الْأَدنَى، وَكَانَ فِي بِلَاطِ العَبَّاسِيِّينَ “بَيتُ الحِكمَة”، حَيثُ تُرجِمَت عُلُومُ اليُونَانِ وَالفُرسِ وَالهِند. وَقَد دَوَّنَ القفطِيّ فِي “إِخبَارِ العُلَمَاء بِأَخبَارِ الحُكَمَاء” أَنَّ أَوَّلَ مَن تَرجَمَ مِنَ اليُونَانِيَّةِ إِلَى العَرَبِيَّةِ هُوَ خَالِد بنُ يَزيد بنِ مُعَاوِيَة، ثُمَّ جَاءَ حُنَينُ بنُ إِسحاق وَيَحيَى بنُ البَطرِيق وَثَابِتُ بنُ قُرَّة، فَكَانُوا أَهلَ أَمَانَةٍ وَتَثَبُّت. ثُمَّ سَارَ الْأَمرُ إِلَى أَن تُرجِمَت كُتُبُ العَرَبِ إِلَى اللَّاتِينِيَّة، عَلَى يَدِ القِسِّ جيراردو دِي كْرِيمُونا (Gerard of Cremona)، فَفَتَحَ اللهُ بِذَلِكَ أَبوَابَ الفَلسَفَةِ لِعُلَمَاءِ أُورُوبَّا، فَانتَقَلَ ابنُ رُشد إِلَى تُومَا الأَكْوِينِي، وَانتَقَلَ ابنُ سِينَا إِلَى مَدَارِكِهِم، فَأُخصِبَ العَقلُ الْأُورُوبِّيُّ بِمَا فَاضَ بِهِ العَقلُ الإِسلَامِيّ.

في زَلَّات المترجمِين وما جَرَّته على القارِئِين

وَاعلَم أَنَّ فِي التَّارِيخِ مِن أَخطَاءِ التَّرجَمَةِ مَا زَلزَلَ العُقُولَ، وَحَرَّفَ المَفَاهِيمَ، وَبَدَّلَ المَسَارَات، وَمِن أَشهَرِ هذه الأخطاء: فِي التَّرجَمَةِ السِّيَاسِيَّةِ مَثَلًا مَا وَقَعَ فِي الحَربِ العَالَمِيَّةِ الثَّانِيَة، لَمَّا تُرجِمَت الكَلِمَةُ mokasatsu اليَابَانِيَّة -وَتَعنِي: “لَن نُعَقِّبَ حَالِيًّا”- إِلَى “نَرفُضُ قطعًا”، فَعَدَّهَا الْحُلَفَاءُ تَحَدِّيًا، فَوَقَعَ مَا وَقَعَ مِن قَصفِ هِيرُوشِيمَا، وَكَانَ الخَلَلُ كُلُّهُ مِنْ فَهمٍ خَاطِئ. وَمِن هَذِهِ الْأَخطَاءِ أَيضًا فِي تَرجَمَاتِ أَرِسطو، لَمَّا نُقِلَت مَقَالاتُهُ إِلَى العَرَبِيَّةِ ثُمَّ إِلَى اللَّاتِينِيَّة، فَتَغَيَّرَ اللَّفظُ ousia الَّذِي يَعنِي “الجَوهَر”، وَصَارَ يُفهَمُ “الوُجُود”، فَاختَلَطَ المِيتَافِيزِيقِيُّ بِالفَلسَفِيِّ، وَصَارَ اختِلَافًا فِي تَأصِيلِ مَفَاهِيمِ الإِلَهِيَّاتِ بَينَ المَدرَسَتَين، بَل قِيلَ إِنَّ مَذهَبَ وَحدَةِ الوُجُودِ لَم يُفهَم إِلَّا مِن خَطَإٍ فِي التَّرجَمَة..! وَمِنهُ أَيضًا مَا وَقَعَ مِن أَوَائِلِ المُتَرجِمِينَ حِينَ قَلَّدُوا لَفظَ أَرِسطو فِي تَحدِيدِ الإِنسَانِ، فَقَالُوا: «الإِنسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِق»، وَذَاكَ مِنَ التَّقلِيدِ المُبتَدَع، لَا مِنَ الفَهمِ المُنتَفَع؛ إِذ إِنَّهُم نَقَلُوا اللَّفظَ وَلَم يَنقُلُوا المَعنَى، وَٱتَّبَعُوا التَّرجَمَةَ الحَرفِيَّةَ وَلَم يُرَاعُوا لِسَانَ القَومِ وَلَا فَحوَى الخِطَاب. فَإِنَّ «الحَيَوَان» فِي لِسَانِ العَرَبِ - وَإِنِ اُشتُقَّ مِنَ الحَيَاةِ - قَد لَصِقَت بِهِ مِن دَلَالَاتِ البَهِيمِيَّةِ مَا يُنَفِّرُ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ عَنهُ، وَيَشِينُ ٱستِعمَالَهُ فِي حَدِّ الكَائِنِ البَشَرِيِّ، لَا سِيَّمَا إِن قُرِنَ بِـ«النَّاطِق»، فَيَجِيءُ التَّركِيبُ عَلَى وَجهٍ مُضحِكٍ عِندَ أَهلِ الذَّوقِ، لَا يُوَافِقُ البَلَاغَةَ وَلَا يُطَابِقُ الحَقِيقَة. وَلِذَا ٱنتَبَهَ مَن فَقِهَ البَيَانَ مِن حُكَمَاءِ العَرَبِ إِلَى فَسَادِ هَذَا الحَدِّ المَنقُولِ، فَصَاغُوا العِبَارَةَ بِمَا يَستَقِيمُ مَعَ لِسَانِ العَرَبِ، وَلَا يَخدِشُ مَقَامَ الإِنسَانِ، فَقَالَ الجاحظ: «حَدُّ الإِنسَانِ: الحَيُّ النَّاطِقُ المُبِين»، وَقَالَ أبو حَيَّان التَّوحيدِيّ: «حَدُّ الإِنسَانِ: حَيٌّ، نَاطِقٌ، مَيِّت»، وَلَم يَقُولُوا قَطُّ: «حَيَوَانٌ نَاطِق»، وَلَا: «حَيَوَانٌ نَاطِقٌ مَيِّت»؛ فَإِنَّهُم ٱستَقبَحُوا ذَلِكَ، وَٱسْتَبدَلُوا بِهِ مَا يَحمِلُ المَعنَى الأَرِسْطِيَّ (the Aristotelian concept) دُونَ أَن يُفَرِّطُوا فِي حُرمَةِ اللِّسَانِ العَرَبِيّ.
وَمِنَ الأَخطَاءِ الفَادِحَةِ الأُخرَى: “قِصَّةُ تُفَّاحَةِ آدَمَ”: حِينَ ٱختَلَطَ عَلَى القِدِّيسِ جِيروم اللَّفظُ malus اللَّاتِينِيّ، فَصَارَ الشَّرُّ تُفَّاحَةً، وَمَا كَانَت قَطُّ كَذَلِكَ، فَٱندَسَّ هَذَا التَّصَوُّرُ فِي مُخَيِّلَةِ الشُّعُوبِ، حَتَّى رَسَخَ فِي وِجدَانِهِم أَنَّ أَوَّلَ مَعصِيَةٍ فِي التَّارِيخِ كَانَت بِأَكلِ تُفَّاحَةٍ، وَهِيَ مَحضُ رِوَايَةٍ مِن أَثَرِ الانزِيَاحِ الدَّلَالِيِّ (semantic drift)، وَسَأُفَصِّلُ فِي هَذَا الخَطَإِ دُونَ غَيرِهِ لِمَا لَهُ مِن دَلَالَاتٍ وَتَنوِير.

عن قِصَّة التُّفَّاحَـة ودَور التَّرجَمَة فِي شيوع الخطأ

وَاعلَم - نَفَعَنِي اللهُ وَإِيَّاكَ بِالعِلمِ وَالبَصِيرَة - أَنَّ الْأَخبَارَ الدِّينِيَّةَ وَالرِّوَايَاتِ المُقَدَّسَةَ وَالنُّصُوصَ المُشَرَّفَةَ، إِذَا تَنَاوَلَتهَا أَيدِي النَّقَلَةِ وَالمُتَرجِمِين، كَثُرَ فِيهَا مَا يُسَمُّونَهُ بِالِانزِيَاحِ الدَّلَالِيِّ (semantic shift)، أَو التّحرِيفِ النَّقلِيّ (mistranslation). وَلَا يَخفَى عَلَى ذِي لُبٍّ أَنَّ مَآلَ ذَلِكَ إِضعَافُ المَعنَى وَتَشوِيهُ القَصد وَتَغيِيرُ التَّصَوُّر، حَتَّى لَيُصبِحَ الخَطَأُ مَشهُورًا، وَالزَّلَلُ مَذكُورًا، وَيُتَلَقَّى بِالقَبُولِ مَا لَم يَنزِل بِهِ كِتَابٌ وَلَا وَرَدَ بِهِ خَبَر..! وَمِن أَجلَى الأَمثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَالشَّجَرَة.
جَاءَ فِي “سِفرِ التَّكوِين” (Book of Genesis)، مِنَ العَهدِ القَدِيمِ، الإصحَاح الثَّانِي، الفَقرَة 16 و17: “وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ قَائِلًا: مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا. وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا، لِأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ.” وَجَاءَ فِي الآية 20 من سُورة الأعراف، في القُرآنِ الكَرِيمِ، قَولُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾
فَانظُر – رَحِمَكَ اللهُ - كَيفَ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِي ذِكرِ “الشَّجَرَة” بِلَا تَسمِيَة، وَلَم يُصَرِّحَا بِنَوعِهَا، وَلَا ذَكَرَا التُّفَّاحَةَ وَلَا غَيرَهَا. وَأَمَّا مَا اشتُهِرَ بَينَ النَّاسِ أَنَّهُمَا أَكَلَا “تُفَّاحَةً” فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى مَا وَقَعَ فِي التَّرجَمَةِ اللَّاتِينِيَّةِ الَّتِي اضطَلَعَ بِها القِسُّ جِيروم (Saint Jerome)، فِي نُسخَتِهِ المَعرُوفَةِ بِـ«الْفُولْغَاتَا” (Vulgate)، حِينَ اختَارَ لِكَلِمَةِ “الشَّرّ” المُقابِلَ اللَّاتِينِيَّ (malus)، وَهِيَ كَلِمَةٌ ذَاتُ مَعنَيَينِ: أَحَدُهُمَا “الشَّرُّ”، وَالآخَرُ “شَجَرَةُ التُّفَّاح”. وَبِسَبَبِ هَذَا الِانزِيَاحِ الدَّلَالِيِّ، وَبِحُكمِ غَلَبَةِ المَعنَى السِّيَاقِيِّ عَلَى المَعنَى الحَرفِيِّ، وَقَعَ مَا يُسَمِّيهِ أَهلُ الصَّنعَة “خَطَأَ التَّرجَمَةِ الحَرفِيَّة” (literal mistranslation). فَسَرَى فِي قِصَصِ الرُّسُومِ المُصَوَّرَة، وَالأَدَبِ الشَّعبِيّ، وَالرِّوَايَاتِ المُدَرَّسَة، أَنَّ الشَّجَرَةَ شَجَرَةُ تُفَّاحٍ، حَتَّى صَارَ ذَلِكَ مِن عَادَاتِ التَّصَوُّرِ الدِّينِيِّ عِندَ الكَثِيرِ مِنَ النَّاس.

في تَفصيل الزَّلل

واعلَم –نَفَعَكَ اللهُ وَوَقَاكَ زَلَلَ القَلَم وَزَيْغَ الفَهم– أنَّ أَكثَرَ ما تَقَعُ فِيهِ الهِمَمُ القَاصِرَةُ وَالعُقُولُ المُتَعَجِّلَةُ فِي بَابِ التَّرجَمَةِ إِنَّمَا مَرَدُّهُ إِلَى أَسبَابٍ خَمسَةٍ، هِيَ أَصلُ الزَّلَل وَجِذرُ الخَلَل، فَمَن لَم يُمَيِّزهَا ضَلّ، وَمَن لَم يَتَحَرَّز مِنهَا زَلّ. وَمِنهَا التَّرجَمَةُ الحَرفِيَّةُ، وَهِيَ دَاءُ المُتَعَجِّلِينَ وَبَلَاءُ الجَاهِلِينَ؛ إِذ يَظُنُّ أَحَدُهُم أَنَّ كُلَّ لَفظٍ فِي لِسَانٍ لَهُ أَخٌ فِي لِسَانٍ آخَرَ، فَيَأخُذُ كَلِمَةً بِكَلِمَةٍ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ قَد وَفَّى، وَمَا وَفَّى وَلَا قَرَّب. وَمِن أَعظَمِ مَا يَدخُلُ فِي هَذَا البَابِ كَذَلِكَ الانزِيَاحُ الثَّقَافِيّ، وَهُوَ أَن يَأخُذَ المُتَرجِمُ اللَّفظَ مِن قَومٍ لِيُلقِيَهُ فِي قَومٍ آخَرِين، دُونَ أَن يَحمِلَ مَعَهُ مَا عَلِقَ بِهِ مِن دَلَالَاتٍ وَسِيَاقَاتٍ وَعَوَائِدَ، فَيَقَعَ بِذَلِكَ الغَلَطُ، كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُتَرجِمِينَ فِي نَقلِ مُفرَدَاتِ العَقِيدَةِ وَالفِكرِ الغَربِيِّ إِلَى اللِّسَانِ العَرَبِيِّ دُونَ وَعيٍ بِجُذُورِهَا الأَنثرُوبُّولُوجِيَّة، فَصَارَ مَفهُومُ “العَلْمَانِيَّة” مَثَلًا يُفَسَّرُ تَارَةً بِـ«اللَّادِينِيَّة”، وَأُخرَى بِـ«الفَصلِ بَينَ الدِّينِ وَالدَّولَة”، وَثَالِثَةً بِـ«حُرِّيَّةِ الضَّمِير”، وَلَا تَلَازُمَ بَينَهَا إِلَّا مِن جِهَةِ الظَّنِّ الفَاسِد. وَمِن أَسبَابِ الخَلَلِ أَيضًا سُوءُ الفَهمِ، وَهُوَ أَشَدُّ ضَرَرًا مِن الجَهلِ؛ فَإِنَّ مَن لَا يَفهَمُ الأَصلَ لَا يُحسِنُ النَّقلَ، وَقَد تَرجَمَ بَعضُهُم العِبارَة “public schools” إِلَى “المَدَارِسِ العُمُومِيَّة” عَلَى طَرِيقَتِهَا العَرَبِيَّة، وَلَم يَعلَم أَنَّ العِبارَة فِي الإِنكلِيزِيَّة تَعنِي النَّقِيض: أَيِ المَدَارِسَ الخَاصَّة الأَرُستُقرَاطِيَّة فِي بَرِيطَانيَا! وَكَذَلِكَ مَن اقتَحَمَ التَّرجَمَةَ بِلا عِلمٍ، أَوِ استَعَانَ بِالتَّرجَمَةِ الآلِيَّةِ، فَقَد يَقَعُ فِي المَحظُورِ؛ إِذ الآلَةُ لَا تَعقِلُ النُّكتَة، وَلَا تُدرِكُ السِّيَاقَ، وَقَد رَأَينَا مَن كَتَبَ: “Time flies like an arrow” فَخَرَجَت عَلَيهِ التَّرجَمَةُ: “الذُّبَابُ الزَّمَنِيُّ يُحِبُّ سَهمًا”! وَهَذَا مِن ضُرُوبِ الهَذَيَان، لَا مِن صِنَاعَةِ البَيان..! وَمِن شَرِّ الأُمُورِ كَذَلِكَ أَن يَشتَغِلَ بِالتَّرجَمَةِ مَن لَا عِلمَ لَهُ بِتَخَصُّصِ المَادَّة، فَيُتَرجِمَ فِي الطِّبِّ وَهُوَ لَم يَقرَأْ التَّشرِيحَ، أَو يَخُوضَ فِي القَانُونِ وَهُوَ لَا يَعرِفُ الفَرقَ بَينَ “المُتَّهَم” وَ”المُدَّعَى عَلَيه”، فَيَنقَلِبَ مَقصُودُ النَّصِّ إِلَى ضِدِّهِ، وَيَضِلَّ المُتَلَقِّي عَن سَوَاءِ السَّبِيل..!

في تَـشـخيص الخلَـل

وَإِذَا أَرَدتَ النَّجَاةَ فِي هَذَا المِضمَار، وَالسَّلَامَةَ مِنَ الزَّلَلِ وَالانهِيَار، فَعَلَيكَ بِأَركَانٍ خَمسَةٍ، لَا يَسلَمُ المُتَرجِمُ إِلَّا بِهَا، وَلَا يَستَقِيمُ لَهُ نَقلٌ وَلَا تَأوِيلٌ إِلَّا عَلَيهَا. أَوَّلُهَا أَن يُحسِنَ اللُّغَتَينِ إِحسَانَ مَن نَشَأَ بِهِمَا، لَا مَن تَعَلَّمَهُمَا فِي مَجَالِسِ العَوَامِّ. ثُمَّ يُتقِنَ أَدَوَاتِ الفَهمِ، مِن نَحوٍ وَصَرفٍ وَدَلَالَةٍ وَسِيَاقٍ وَمَقصِدٍ؛ فَإِنَّ اللَّفظَ لَا قِيمَةَ لَهُ بِلَا سِيَاقٍ، وَالمَعنَى لَا يُدرَكُ بِلَا مُرَاد. ثُمَّ لُزُومُ الرُّجُوعِ إِلَى النَّصِّ الأَصلِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ المُتَرجِمِينَ يَأخُذُونَ عَن تَرجَمَاتٍ وَسِيطَةٍ (التَّرجَمَة بِالعَنعَنَة)، فَيَقَعُونَ فِي أَخطَاءِ مَن سَبِقَهُم، كَمَن بَنَى سَقفًا عَلَى جِدَارٍ مَائِلٍ، فَانهَدَمَ البِنَاءُ عَلَى رَأسِه! وَمِن أُصُولِ النَّجَاةِ أَيضًا مُرَاجَعَةُ المَعَاجِمِ الثُّنَائِيَّةِ وَالمَوسُوعَاتِ المُتَخَصِّصَةِ؛ فَإِنَّهَا عُدَّةُ المُتَرجِمِ وَعَتادُه، وَمَن عَجَزَ عَن استِعمَالِهَا فَلَا حَقَّ لَهُ في أَن يَتَصَدَّرَ المَقَام. ثُمَّ إنَّ لَا غِنَى لَهُ عَن مَعرِفَةِ الخَلفِيَّاتِ الثَّقَافِيَّةِ لِلنَّصِّ؛ فَإِنَّ تَرجَمَةَ خِطَابٍ دِينِيٍّ أَو وَثِيقَةٍ سِيَاسِيَّةٍ أَو قَصِيدَةٍ غَزَلِيَّة، لَا تُفهَمُ إِلَّا ضِمنَ بِيئَتِهَا وَوِجدَانِهَا، وَإِلَّا كَانَ حَالُ المُتَرجِمِ كَمَن وَصَفَ النَّايَ دُونَ أَن يَسمَعَ صَوتَه!..ثُمَّ بَعدَ ذَلِكَ، لَا بُدَّ مِن عَرضِ التَّرجَمَةِ عَلَى مَن هُوَ أَعلَمُ؛ فَإِنَّ المُرَاجَعَةَ بَابُ السَّلَامَة، وَالتَّثَبُّتَ سَبِيلُ النَّجَاة. وَقَد قَالَ الإِمَامُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ –وَكَانَ لِبَيَانِ الكَلَامِ فَقِيهًا، وَلِوُجُوهِ الخِطَابِ بَصِيرًا–: «قِيمَةُ كُلِّ امرِئٍ مَا يُحسِنُهُ»، وَالمُتَرجِمُ إِنَّمَا يُحسِنُ إِذَا أَحسَنَ الفَهمَ وَالنَّقلَ مَعًا، فَأَصَابَ فِي كِلَيهِمَا، وَقَلَّ مَن يَجمَعُ بَينَهُمَا إِلَّا مَن رَزَقَهُ اللهُ فَهمًا، وَأَلهَمَهُ سَدَادًا.

بَيتُ القَصيد

وفي ما قَلَّ وَدَلَّ أقُولُ إنَّ التَّرجَمَةَ صَنعَةٌ عَقلِيَّةٌ، وَمَهَارَةٌ بَيَانِيَّةٌ، لَا يَصلُحُ لَهَا إِلَّا مَن جَمَعَ بَيْنَ نَفَاذِ الفِكرِ، وَسَعَةِ العِلمِ، وَحُسنِ التَّذَوُّقِ، وَطُولِ المُرَاضَاةِ لِكِلَا اللِّسَانَينِ، وَصِدقِ الفَهمِ لِمَا خَفِيَ مِنَ المَعَانِي، وَمَا لَطُفَ مِنَ الإِشَارَاتِ. فَمَن تَصَدَّى لِهَذِهِ الصَّنعَةِ وَهُوَ لَا يُحسِنُهَا، وَلَا يُقِيمُ لِلسِّيَاقِ وَزنًا، وَلَا يَستَقْرِئُ خَلَلًا، وَلَا يَستَفتِي أَهلَ الذِّكرِ إِذَا جَهِلَ، فَقَد يَكُونُ كَمَن أَدخَلَ المَاءِ فِي الزِّيتِ، فَلَا أَصَابَ العَطَشَ، وَلَا أَشعَلَ القَنَادِيل..! وَمَا أَكثرَ مَا تَفَرَّقَت بِالنَّاسِ السُّبُلُ، وَتَشَعَّبَتِ المَذَاهِبُ، وَتَغَيَّرَتِ الفُهُومُ، بِسَبَبِ تَفسِيرٍ غَيرِ سَدِيد، أَو نَقلٍ غَيرِ رَشِيد. وَإِنَّ زَلَّةَ المُتَرجِمِ، لَتُحدِثُ فِي العِلمِ مَا لَا تُحدِثُهُ زَلَّةُ الطَّبِيبِ فِي البَدَنِ: تُسِيءُ الفَهمَ، وَتُضِلُّ الطَّرِيقَ، وَتَجعَلُ الحَقَّ شُبهَة وَالبَاطِلَ حُجَّة. فَاتَّقُوا اللهَ فِي العِلمِ، وَتَثَبَّتُوا فِي النَّقلِ؛ فَإِنَّ الفِكرَ إِذَا ضَاعَ مِفتَاحُهُ، ضَلَّ كُلُّ مَن قَصَدَ بَابَهُ، وَخِينَ كُلُّ مَن ائتَمَنَ أَصحَابَه.
 مترجم – مدقق لغوي – ناشط ثقافي

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19767

العدد 19767

الخميس 08 ماي 2025
العدد 19766

العدد 19766

الأربعاء 07 ماي 2025
العدد 19765

العدد 19765

الثلاثاء 06 ماي 2025
العدد 19764

العدد 19764

الإثنين 05 ماي 2025