الكولونياليون قادوا حـرب إبادة ضـد الجزائريين

جرائم 08 ماي 1945 في ميزان القانون الدولي الجنائي

يوسف قنون جامعة قسنطينة

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية خرج الشعب الجزائري عبر كامل التراب الوطني في مظاهرات سلمية تعبيرا عن فرحته بانتصار الحلفاء على ألمانيا النازية، وطلبا لتحقيق وعود فرنسا بـ«الاستقلال”، إلا أن مسيرة الفرح قوبلت بجرائم وحشية نكتفي منها بسرد وقائع ولايتين تركتا بصمة خاصة على هذا المستوى..سطيف وقالمة..

تعتبر جريمة الإبادة الجماعية من الجرائم الخطيرة التي حظيت باهتمام المجتمع الدولي؛ حيث أقرت الأمم المتحدة اتفاقية خاصة بها، تمثلت في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي عرفتها في المادتين 2 و3 وهو نفس التعريف المتبنى في نظام روما الأساسي 2، بموجب المادة 6 بأنها: أي فعل من الأفعال التي ترتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو اثنيه أو عرقية أو دينية بصفتها إهلاكا كليا أو جزئيا، وحددت المادة مجموعة من الأفعال التي تندرج ضمن جريمة الإبادة والتي منها:
- قتل أفراد الجماعة - إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة - إخضاع الجماعة عمدا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليا أو جزئيا - فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة - نقل أفراد الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.
هذه الأفعال تمثل الركن المادي لهذه الجريمة، بالإضافة إلى الركن المعنوي المتمثل في عنصري العلم والإرادة، مع ضرورة أن يكون الدافع الخاص مرتبط بعوامل ذكرتها المادة 2 والمتمثلة في القومية أو الاثنيه أو الدينية..وركنها الدولي المستمد من وجود صاحب سلطة فعلية، أو من يرتبط بسلطة قائمة فعلية، وأن يكون موضوعها مصلحة دولية، تتمثل في وجوب حماية الإنسان ذاته بغض النظر عن جنسه أو دينه أو العنصر الذي ينتسب إليه.بإسقاط المفاهيم والصور المذكورة على حوادث 8 ماي 1945، نجد أن فرنسا قد انتهكت قواعد القانون الدولي بخصوص هذه الجريمة، تتناول هنا 3 صور جلية بهذا الخصوص.

 قتــل أفـراد الجماعـة

حيث أن أغلب الأحداث تمحورت حول القتل كوسيلة قمعية موجهة ضد مواطنين عزل، بنية مبيته بغية إفنائهم ولو بصفة جزئية في إطار هجوم منظم؛ حيث أن الأفعال المقترفة ارتكبت ضد جماعة محددة بالذات اعتمادا على عنصر ديني ثابت الوصف المسلمين  والقومية في إطار مجتمع له وضعية بنيوية خاصة، حيث نتج عن ذلك حصيلة يعجز اللسان عن ذكرها (45 ألف شهيد).

إلحاق ضـرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة

يشترط هنا أن يكون الفعل بدرجة من الجسامة مما يؤثر على وجود أعضاء الجماعة، ويتحقق هذا الفعل بكل وسيلة مادية أو معنوية لها تأثير مباشر على أعضاء الجماعة. إن تصفح نتائج المجازر المقترفة ببيانات إحصائية، يبين أن هذه الأفعال نتجت عنها أضرار كبيرة على شريحة كبيرة من الجزائريين منها أضرار جسدية مازالت بارزة للعيان وبشهادة من عايشوها، كما نتج عن بعضها أضرار عقلية تجسدت أساسا في حالات الاضطراب العقلي لبعضهم نتيجة التعذيب والإرهاب.

 إخضاع جماعة عمدا لأحوال معيشية بقصد إهلاكها كليا أو جزئيا

انتهجت السلطة الفرنسية سياسة القمع الاقتصادي؛ حيث قام الجنرال كلوزيل، والذي هو أول حاكم عام يعين بالجزائر بانتهاج سياسة التجويع، حيث عمدت العدالة الفرنسية عقب أحداث 8 ماي 1945 بتجريد بعض الجزائريين من ممتلكاتهم ومصادرتها، مع تشديد الحصار البنيوي الاقتصادي، بحصر مردودهم الزراعي الذاتي، وتصنيف الملكيات الفردية وكذا بإلغاء طرق السير وحقوق المرور، وحرمانهم من العائد والربح المادي.
كما تم خرق اتفاقية لاهاي (1907) واللائحة الملحقة بها الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية، من خلال قيام ميليشيات مكونة من أفراد (معمرين) بقمع المتظاهرين، وهو ما حظرته الاتفاقية المذكورة في المادة 4 فقرة 1، وكذا حين لقي الجزائريون القتل والجرح والآلام بمختلف أشكالها، جراء التعذيب وإعطاء الضوء الأخضر لقتل أي شخص جزائري سواء قاوم أم لا، وهو ما حضرته المادة 23 فقرات ب - د - هـ . كما استعملت الأسلحة الثقيلة مثل: الدبابات وسلاح الطيران ضد المدنيين العزل الأمر الذي حضرته المادة 2 من اتفاقية لاهاي السابقة.مع العلم أن النماذج المذكورة أعلاه تعلق بحالات نابعة أساسا من مختلف القيم والمبادئ الإنسانية المشتركة والمتضمنة في قواعد القانون الإنساني العرفي، الذي كان سائدا خلال تلك الفترة، والذي يستدعي الامتناع عن اللجوء لها، وهو ما تم خرقه من طرف الاحتلال الفرنسي في التاريخ المذكور.

مسؤولية فرنسا عن الجرائم

بالنظر إلى وحشية الجرائم المرتكبة من طرف الاحتلال الفرنسي في التاريخ المذكور، والتي ترتكز على خرق قواعد قانونية دولية ثابتة وتستدعى معها – بالتالي - البحث في إقرار مسؤولية فرنسا، نتناول هنا أنواع المسؤولية المثارة، ثم نعرج للبحث في إمكانية إيجاد قضاء مختص لتفعيل أحكام المسؤولية أمامه:

قيام مسؤولية فرنسا..

تعتبر المسؤولية الدولية صمام الأمان لضمان تطبيق أحكام القانون الدولي العرفي والاتفاقي والتي تتوزع بين جزائية ومدنية، وإذا كانت المسؤولية الجزائية تنصرف إلى الأفراد بصفة شخصية، إلا أنه نظرا لتسجيل قصور في فعاليتها كإجراء عقابي ممّا حدا بالفقهاء والقانونيين إلى التركيز على المسؤولية الدولية للدول في إقرار الحقوق المنتهكة، بالإضافة إلى المسؤولية المدنية التي تكتسي أهمية قصوى في إطار النظام الجزائي الدولي نتناول ذلك كما يلي :

المسؤولية الجزائية لفرنسا

إن ثبوت المسؤولية الدولية الجنائية، في هذا الموضوع يعني بالضرورة ثبوتها في حق الدولة والأفراد المتورطين في عملية الإبادة في 8 ماي 1945؛ حيث يوجه تفعيل أحكامها بصفة شخصية وذلك في إطار مبدأ المسؤولية الجزائية الفردية.

المسؤولية الفردية الشخصية

لا يعتد القانون الدولي الجنائي في تقرير مسؤولية الشخص الطبيعي لما ارتكبه من أفعال تجريمية بمركزه ولا منصبه، فلا حصانة لرئيس دولة أو عضو في الحكومة أو برلمان أو ممثلا منتخبا أو موظفا حكوميا، تعفيه من المساءلة أو اتخاذها كذريعة للتملص منها، كما لا تتخذ كسبب لتخفيف العقوبة، كما لا تحول الحصانات المذكورة كمبرر لتخفيف العقوبة أو القيود الإجرائية الخاصة التي ترتبط بالصفة الرسمية للشخص، سواء كان ذلك في إطار القانون الوطني أو الدولي دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص. في هذا إطار، كرس القضاء الجنائي الدولي هذه القاعدة؛ حيث أكدت محكمتا نورنبورغ وطوكيو على ذلك، كما تم التأكيد عليها بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي في بداية التسعينات، كالقرار رقم 808 الصادر في 22 فيفري 1993 المتعلق بتشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا سابقا، والقرار رقم 955 الصادر في 8 نوفمبر 1994 المتعلق بتشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب في رواندا، لتتعزز الصورة أكبر، مع إقرارها في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

مسؤولية الدولة الجنـائيـة

تستند مسؤولية الدولة الجنائية على أساسين هامين: مسؤولية على أساس اعتبارها ذو وجه حقيقي: إذ لها وجود مادي وإرادة مستقلة ولها أهلية قانونية للتصرف، وقابلية هذا الأخير للتقويم الإيجابي أو السلبي مع توافر شروط القصد الجنائي، ومسؤولية على أساس درجة مخالفة القانون الدولي والجزاء الموجه ضد الدولة: إذ أن الالتزامات القانونية يفرضها القانون الدولي على الدولة صراحة لا على أعضائها، وكذا أن تدرج الأعمال الدولية للدولة غير المشروعة لتتدرج حتى تصل إلى الفعل الجرمي، بالإضافة إلا أن بعض الانتهاكات الجرمية تظهر فيها صفة الدولة بصورة جلية، وأن التزام الدولة بالتعويض يمثل أحد أوجه معاقبتها على تقاعسها في اتخاذ الإجراءات اللازمة لملاحقة المجرمين ممن تعامل بصفتها الكلية. ويبدو إقرار هذه الصفة من خلال مختلف الأوصاف التي صبغت بها مسؤولتيها كمسؤولية السلطات المحلية التي من خلال الشهادات والتقارير الرسمية المنجزة بعد أحداث 8 ماي 1945، تبين تورط رؤساء البلديات في عدة مناطق سطيف، قالمة عنابة في إعطاء تعليمات لقمع العصيان، ومسؤولية الحكومة الفرنسة كهيئة لها صلاحية تعيين وإنهاء مهام الموظفين السامين للدولة، والتي عمدت إلى الإبقاء على من ثبتت مسؤوليتهم الشخصية في مناصبهم لفترات طويلة بعد الأحداث، وباعتلاء ديغول الحكومة والرئاسة الذي كان هو الموجه الاستراتيجي لها”.

 المسؤوليـة المدنيـة

تعتبر المسؤولية المدنية نوعا آخر من المسؤولية التي يتم على أساسها إصلاح الأضرار المادية والمعنوية، فوفقا للقواعد العامة هي جزاء الإخلال بالتزام قانوني يترتب عليها ضرورة جبر الضرر وإعادة الحالة إلى ما كانت عليه إن كان ذلك ممكنا نصت عليها المادة 91 من البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977 الملحق باتفاقيات جنيف 1949، ويتوافر أركان المسؤولية المدنية الدولية التي ترتكز على وجود فعل وتسببه الضرر وعلاقة السببية، يمكن تفعيل أحكامها، وذلك بمساءلة فرنسا عن جرائمها المقترفة في 8 ماي 1945 باعتبارها طرفا في اتفاقيات أهمها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، وذلك بتقرير مسؤوليتها المدنية فيها وبإلزامها بأوجه معينة إصلاح الأضرار الذي يتم بطريقين..

التعويــض المـادي

يكتسي التعويض أهمية كبيرة ضمن قائمة الوسائل المعتمدة لسد الثغرات التي لا يمكن أن تحتويها المسؤولية السابقة، ويكون ذلك بوسيلتين.. التعويض العيني..وهو يشكل المبدأ الأساسي للإصلاح، وهو العنصر الأقوم والأنسب للتعويضات ويعني إزالة الفعل غير المشروع قدر الإمكان، وإرجاع الأمور إلى ما كانت عليه قبل ارتكابه، ورد ما أتلف بمثله من السوابق الدولية في هذا المجال، والتي هي قليلة جدا نذكر: تعويضات ألمانيا للحلفاء ببناء السفن التي أغرقت في زمن الحرب، إذ يخضع التعويض في تقدير القانون الدولي العام لجميع جوانب الضرر المباشر أو عن طريق المقارنة، ويجب أن يمحو كافة الأضرار، وبإسقاط ذلك على قضية الحال يمكن للجزائر من باب جبر الضرر في بعض الحالات المطالبة بإقامة بعض المباني التي قامت فرنسا بنسفها أو ترميم أخرى وكذا المنشآت العمرانية التي تمت قنبلتها إبان حوادث 8 ماي 1945.
الوسيلة الثانية..التعويض المالي، بما وهو قيام الدولة المسؤولة بدفع مبلغ من المال، كتعويض عن الأضرار التي نجمت عن أفعالها غير المشروعة، والتي ألحقت أضرارا للغير، ويأخذ هذا النوع من التعويض صورتين: نقدا أو في شكل بضائع وخدمات، يعد هذا طريقا هاما من طرق التعويض، يلجأ إليه لسد الثغرات التي تعتري الطريق العيني (إعادة الحالة إلى ما كانت عليه)، وبذلك فهو من أكثر الأنماط إصلاحا للأضرار شيوعا، والنتيجة الطبيعية لثبوت المسؤولية الدولية.
أكد القضاء الدولي في مسائل عديدة، أن الأثر الذي يترتب على ثبوت المسؤولية الدولية، هو التزام الشخص الدولي المسؤول بتعويض الضرر الذي أحدثه للغير. ومن القضايا المعروفة، في هذا السياق نذكر : قضية اللوتيس 1927، وقضية مضيق كورفو وبرشلونة تركشن وغيرها، وقد ورد النص على التعويض كأثر من آثار المسؤولية الدولية في المادة 27 من مشروع تقنين المسؤولية الدولية لسنة 2001، إذ يجب على الدولة المسؤولة على الفعل الدولي غير المشروع أن تعوض الضرر المسبب عن هذا الفعل في حال ما إذا لم يصلح هذا الضرر عينيا، وبإسقاط هذا العنصر على أحداث 8 ماي 1945 يتوجب بعد إثبات الخطأ والضرر في مواجهة الدولة الفرنسية بالوسائل الثبوتية المتاحة، مطالبتها بتعويض مالي لضحايا هذه الجرائم.
التعــويض المعنوي..الترضية كأساس للمسؤولية الدولية
بالرجوع إلى القانون الدولي في هذا الشق، نجد المادة 37 من مشروع مواد المسؤولية الدولية العام 2001، قد نصت على هذا الطريق، وعرفته بأنه: “وسيلة لجبر الضرر المعنوي” حيث يقدم بمقتضى العرف الدولي أو الاتفاق بين الطرفين لإصلاح الضرر، والتي تأخذ صور عديدة أهمها: الاعتذار الشفوي أو الكتابي أو بالطريق الدبلوماسي بين رؤساء الدول ووزراء الخارجية وكذا المنظمات الدولية.
في مسعى الجزائر لتحريك ملف الذاكرة، وبالتبعية الاعتذار، ونتيجة لضغوط فعالة من الرئيس تبون، أوكل ماكرون لبن يامين ستورا في جويلية 2020 مهمة إعداد تقرير يتضمن مقترحات ترمي لمعالجة ملف الذاكرة، من بينها ضرورة تقديم اعتذار. هذا الأخير لم يرق لتطلعات السلطة الجزائرية في مضمونه والذي ركز على عناصر هامشية دون المعالجة المسؤولة المنصفة والنزيهة، حيث لم يصدر أي اعتذار رسمي معتد به قانونا لإقرار حقوق الضحايا، التي من بينها جرائم 8 ماي 1945.مع العلم أنه تم تسجيل تصريحات مقتضبة في هذا الصدد، من طرف الرؤساء المتوالين على فرنسا، ففي عام 2012، وخلال زيارته للجزائر، أقر فرانسوا هولاند بالمعاناة التي سلطها الاستعمار الفرنسي على الشعب الجزائري، ومن ضمنها مجازر سطيف وقائمة وخراطة، كما قال ماكرون سنة 2017 أن بلاده مسؤولة عن إقامة نظام تعذيب إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر..وبمستوى أقل اعتذر السفير الفرنسي في الجزائر هوبركولين ذيفرديبر رسميا عن المذبحة، واصفا إياها بالمأساة التي لا يمكن تبريرها، كما وضع السفير الفرنسي فرانسوا غوبيت إكليلا من الزهور بمقام الشهيد بوزيد سعال بمناسبة إحياء حوادث 8 ماي 1945. وقد قام كاتب الدولة الفرنسي المكلف بالمحاربين القدامى والذاكرة جون مارك توديتيشيني إلى سطيف، في أفريل 2015، بالترحم على روح الشهيد سعال بوزيد أول ضحية لمجازر 8 ماي 1945، ليبقى هذا الملف مفتوحا أمام ما ستفرزه الأشهر القادمة من تطورات.

(الحلقة الثانية)

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19774

العدد 19774

السبت 17 ماي 2025
العدد 19773

العدد 19773

الخميس 15 ماي 2025
العدد 19772

العدد 19772

الأربعاء 14 ماي 2025
العدد 19771

العدد 19771

الثلاثاء 13 ماي 2025