بين الـواقع التاريخي والادّعـاءات الـســيـاسـة

مأساة 08 ماي 1945..في ضـوء نمـاذج مـن الأرشـيــف

الأستاذ الدكتور حسان مغدوري جامعة زيان عاشور – الجلفة

تبقى مجازر 08 ماي 1945 بعدد ضحاياها، محطة لافتة في العلاقات الجزائرية الفرنسية فهي تعبر عن مرحلة تاريخية كان فيها العالم يمر بتحولات عميقة في النظم السياسية وفي المفاهيم الفكرية، وتزامنت مع توقيع الهدنة لوقف الحرب العالمية الثانية ومع الاستعداد للاحتفالات وهل كان بالإمكان معاقبة شعب تقدم بمشاركة ما يناهز 300 ألف جندي حاربوا إلى جانب فرنسا في جبهات القتال، ووطن عدّ خزانا للثروة، ومستودعا لسواعد الرجال من أجل إنقاذ فرنسا الأم على حدّ وصف أحدهم..


على أيّة حال، فإن هذه الحرب قد كشفت عن اختلالات عميقة في النظام الاستعماري الفرنسي بالجزائر وعن تصاعد وعي وطني لافت كان يتغذى من رصيد الماضي في المقاومة واستحكم في ظل تفاقم أزمة الجوع والمرض وأخذ يتبلور في تقارب نوعي بين التيارات الوطنية، وفي ارتفاع سقف المطالب مع تأسيس أحباب البيان والحرية وكشف عن حجمه في الثامن من ماي 1945، غير أن فظاعة الجريمة تطرح سؤالا جوهريا عن الأسباب القوية لموقف فرنسا العنيف وعن طبيعة الأعمال التي قام بها الجزائريون حتى تحملوا ومن يتحمل مسؤولية الضحايا؟

مظــاهـر الأزمــة وإشـارات الــسخـط في الجزائــر قـبـل 1939

كانت الفترة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانية تعج بمظاهر الاحتقان التي ألمت بكافة مجالات الحياة الأساسية، ولم تكن المؤشرات خلال هذه الفترة توحي بقرب الاستقرار، ولعلنا باقتطاع مواضع عن هذه المرحلة التي لا يمكن فصلها عن مجازر 8 ماي 1945 بصفتها تيار من القلق والوعي أخذ يكتسح، سيسمح لنا بتقديم رؤية أوضح عن طبيعة الانزلاق الذي وقعت فيه الإدارة الاستعمارية. كان الشعب الجزائري قبل انطلاق الحرب الكبرى سنة 1939 يعيش حالة من الانسداد السياسي والإحباط النفسي، فحكومة الجبهة الشعبية قدمت وعودا كثيرة بغير أن ترى النور مطلقا، وتحولت الجزائر إلى مسرح للزيارات المتكررة للجان التحقيق ومعرضا للمشاريع والاقتراحات، وبات البحث عن الخلاص في الاستجابة للخدمة العسكرية أمنية لكل الجزائريين، ولعبت الجزائر كعادتها القاعدة الخلفية للمتروبول في أوقات الحرب وقامت الإدارة الاستعمارية بتجنيد 215 ألف وضيقت على الحريات العامة وفرضت الرقابة على الصحف والراديو بموجب مرسوم 27 أوت 1939 وتم إقرار حالة الطوارئ منذ 01 سبتمبر 1939، وتقرر وضع مراقبة المعلومات بمصلحة قيادة الأركان بالجزائر العاصمة، التي كانت تتلقى بدورها كافة تعليماتها من المتروبول، واختفت الصحافة الوطنية عن الأنظار بفعل الرقابة الصارمة، وكان اعتقاد الجزائريين بأن فرنسا باستطاعتها الصمود بدون مساعدة الجزائريين.
وإذا كانت هذه الصورة العامة للملامح السياسية للمرحلة، فإن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لم يكن على أحسن حال، وتبين بأن السياسة الزراعية التي كانت ترتكز على إنتاج الكروم قد أضحت عاجزة عن استيعاب المشاكل المتصلة بالندرة في المنتجات الصناعية، وانطلق البحث في إنشاء صناعات محلية في محاولة لضمان وسائل التموين والتقليص من الاستيراد، وانتشرت مظاهر السخط في الأوساط المهنية، فكثيرة هي التقارير والصحف التي عبرت عن حالة الغليان التي اجتاحت الحركة العمالية، وأثارت تمرد الفلاحين في عديد الحقول التابعة للكولون، وقد عنونت إحدى الصحف الحرة الصادرة سنة 1936 أصبح الاضطراب في البلاد ينذر بالأخطار)، إذ تناول الموضوع الحديث عن مجموعات من الجزائريين كانت تتحرك في محيط مزارع أحواز العاصمة وهي تحمل السلاح وتقتحم الملكيات الخاصة وتهدد الملاك وتصدّ العمال، وتنبهت لأعمال مماثلة في مناطق بير خادم وبير مراد رايس سحاولة، درارية، الأربعاء سيدي موسى الحراش جسر قسنطينة وغيرها، ففي كل مكان كما أضافت كانت مجموعات الأهالي تحمل عصيا وقطعا من حديد وتجوب الطرقات وتسعى لصد العمال عن العمل وتهدد الملاك والأوروبيين بغرض التوقف عن النشاط.
لقد أوقف المتظاهرون يضيف المقال، حركة السيارات، وساد شعور بالخوف لدى النساء في الحقول البعيدة، وشرعوا في النزوح باتجاه المدن طلبا للأمن، وتلقى على إثر ذلك ممثلو القوات العمومية أوامر صارمة كانت تقضي بتوقيف كل من يقتحم ملكية الأوربيين أو من يقف في وجه العمال، وأشار المقال في الأخير، إلى أن معظم المحرّضين لهذه الأعمال كانوا شبابا تتراوح أعمارهم من 17 إلى 18 سنة.
كان كبار ملاك الأراضي يتدخلون في مرافق توجيه الشأن الاقتصادي، فهم كانوا ممثلون في المندوبات المالية منذ نشأتها في 1898، وهم من كان يوجه القرار في المجالس النيابية، وهم من كان يتحكم في دواليب السياسة العامة للأهالي، ولعلنا نستشف من الرسالة التي كتبها رئيس (فيدرالية رؤساء بلديات الجزائر)، غابرييل أبو (Gabriel ABBO) في 13 جوان 1936 وهي الفترة التي ارتفع فيها منسوب السخط، حرص هؤلاء الشديد في الإبقاء على الوضع دونما تغيير في العمق، ففي جو الإضرابات العارمة التي عرفتها الجزائر، قال عبو، بأن الأحداث الخطيرة التي تتفاعل في بلدياتنا منذ أيام تستحق أن نقف عندها في كل البلديات الجزائرية التي طالها الاعتداء أو تلك التي لم يصلها بعد، وتبعا لما أكده لي عدد كثير من زملائنا، فإنني أخذت قرارا بتأجيل سفري إلى فرنسا بعدما كان من المفترض أن يكون ذلك اليوم، وأن أتفرغ حتى أكون تحت تصرف كل رؤساء بلديات الجزائر.
لقد اجتمعنا بمقر فيدرالياتنا لنتمكن من جمع كافة المعلومات التي يمكن أن تقدم لنا حوصلة دقيقة عن الوضع، وحرصنا بالموازاة، على تكثيف الاستطلاع بشأن الأحداث التي يمكن أن تقع، وسأبقى على اتصال دائم بالجهات المختصة للتعاون معها تعاونا قيما، كما تمكنا من الحصول على وعد حاسم ذلك اليوم، بأنه سيتم اتخاذ كل الإجراءات من أجل إعادة النظام وعليكم أن تستعلموا بانتظام وبدقة عن كل ما يحدث عندكم، بما يسمح لنا بالتجاوب السريع والمناسب.
لقد كانت الإشارات الضمنية التي حملها المقال تنبه إلى أن ثمة جيل جديد بدا يزحف وهو يحمل أفكارا تعبر عن روح المرحلة وينبغي أن تتجند القوات العمومية لمجابهته بكل قسوة، ويبدو جليا أن نظرة سلطات الاستعمار لم يكن يهمها إلا إزالة مظاهر الأزمة بصرف النظر عن مسبباتها، ولذلك كان موقف فيدرالية رؤساء بلديات الجزائر قابعا في فلسفة إقصاء العنصر الجزائري من اهتمامات السياسة العامة للاستعمار، وكان يعمل على إبقائه مستعبدا، ولعل هذه الرسالة تفتح لنا نافذة عن التيار السياسي القوي الذي كان وراء جمود وتصلب مواقف الحكومات الفرنسية حيال تطور الوعي القومي أثناء الحرب والتي كشفتها مأساة 8 ماي 1945.
لقد جاء قرار أكتوبر 1939 القاضي باعتقال عدد كبير من المناضلين والحكم على مصالي الحاج بـ16 سنة سجنا كتدبير احترازي عن الخوف من التمرد، وربما كان أحد الكتاب المصريين الذين كتبوا في جريدة الجزيرة الصادرة بسوريا في 1937 متنبئا حينما ذهب إلى أن حوض المتوسط سيكون حلبة للتجاذبات والخصومات وبأن تونس والجزائر والمغرب قد تملكها روح الكفاح والدفاع عن الاستقلال.
لقد كانت مئات الصفحات التي غطت هذه المظاهر في سنوات الثلاثينات، ولذلك فإن بداية إشارات السخط والتمرد الصريح وعدم الوثوق في وعود السياسيين وضغط ظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية للشعب الجزائري، قد بدا جليا ومستعدا للانتقال لمرحلة أنضج، ستتبلور بمستجدات ظروف الحرب العالمية الثانية، وأن المواقف المتصلبة لإدارة الاحتلال ونفوذ رؤساء البلديات الذين كانوا يمثلون اللوبي الكولونيالي قد دفعوا بصياغة مفهوم القمع ضمن رؤية هيكلية متكاملة جمعت السياسيين والعسكريين وبإيعاز من المستوطنين.

تصاعد الــتــيار الوطنـي أثـناء الحرب الـعـالميـة الــثــانــيــة

طفا تصاعد التيار الوطني إلى السطح بشكل بارز خلال مرحلة الحرب العالمية الثانية، ولا شك أنه كان يتغذى من التطورات السياسية والعسكرية التي أثرت على فرسا كدولة محورية في الحرب وكنظام استعماري في شمال إفريقيا، فالاحتلال الألماني لفرنسا في جوان 1940 قد أحدث هزة مدوية وجعلت تداعياتها تتمدد إلى مستعمراتها فيما وراء البحار، وكانت الجزائر بحكم موقعها الجغرافي وأهميتها الاستراتيجية أبرز المناطق التي تأثرت بارتدادات هذه الأزمة.
لقد أصبحت الجزائر خلال هذه الفترة عاصمة لفرنسا على الصعيد السياسي، والأرض التي احتضنت مقاومة الفرنسيين منذ 1942، وفيها نشأت المؤسسات المدنية والعسكرية فيما بين 1943-1944، وكانت منطلقا لتحرير فرنسا من الاحتلال الألماني في صيف 1945، وأثناءها، تهاوت صورتها في أعين الجزائريين. ذلك أن الغزو الألماني قد قسم النظام الفرنسي وعزل الجزائر عن المتروبول وأفقد فرنسا مكانتها في عقول الجزائريين.
لقد فقد النظام الاقتصادي ملحقاته وآلياته العضوية مع الخارج ولم تعد الحكومة الفرنسية قادرة على الاستمرار في التعامل مع الأسواق الخارجية وفشلت في تطبيق محاولات الإصلاح وتم غلق التعاملات مع فرنسا بسبب الظروف السياسية والعسكرية وبدت هشاشة النظام الاقتصادي الاستيطاني الأعرج، الذي تأخر في إحداث نقلة في استغلال العنصر البشري خارج نطاق الزراعة. وهكذا عبر تيري (TERIER) بعد عودته من مهمة تفتيشية قادته إلى الجزائر وتونس رغم تفاؤل بعض المسؤولين بشأن الوضعية في الجزائر إلا أنه يبدو بأن الأمور تسير نحو الأسوأ. ساهم تدهور الظروف الاجتماعية وتزايد عدد السكان في المدن وأزمة التموين وانهيار المستوى المعيشي وارتفاع نسبة البطالة وتدهور الأوضاع الصحية وتفشي الأوبئة والأمراض وتنامي الظلم الاجتماعي وتوسع مظاهر الاحتجاج في إعداد بيئة خاصة كانت تبحث بإلحاح عن مخرج للوضعية المأسوية التي وصلت إليه الأوضاع وفي خضم هذا الجو برز فرحات عباس كتعبير عن هذه المرحلة وعمر حالة الفراغ في المعارضة وساهم في تأطير النقاش العام.

نـزول الحلفاء في الجزائـر والـرسالـة الــسياسيـة

اتسمت مرحلة حكومة فيشي بقيادة المارشال بيتان بالتنفيذ الحرفي لتوجهات ألمانيا، فقد تقرر الاحتفاظ بغلق النشاط السياسي في الجزائر، وتعرض أعضاء حزب الشعب للاضطهاد بعدما زج بمصالي الحاج في السجن، وتم تشديد الخناق على نشاط أعضاء جمعية العلماء ولم يكن تأثير الحزب الشيوعي يذكر في الساحة السياسية وتم إلغاء العمل بقانون كريميو وتولت الوصاية المطلقة على الشأن العام، وساهمت من جهتها حالة الفراغ الذي عاشته الجزائر في الساحة النضالية، من ظهور شخصيتي بن جلول وفرحات عباس، وإذا كانت تجربة الأول قد جعلت صورته في الأذهان غير مقنعة بسبب تذبذب مواقفه خلال فترة الثلاثينات، فإن الثاني لم يكن قد استهلك بعد فرصته في القيادة، ولعل التغيير السياسي الأكثر تعبيرا في الحركة السياسية أثناء الحرب هو الذي أقدم عليه فرحات عباس والذي اعتبره السياسيون الفرنسيون بمثابة سوء النية.
كان نزول الحلفاء بالجزائر حدثا استثنائيا، فمنذ اليوم الموالي للإنزال أصبح الوضع تحت سلطة الحلفاء وانتهت سلطة فيشي، فالأمريكيون والانجليز كانا قد وقعا في 14 أوت 1941 على ميثاق الأطلسي، الذي تضمن حق الشعوب في تقرير مصيرها، ولأول مرة ستعرض المطالب الوطنية بشكل مباشر على مهندسي السياسة الدولية، واستفاد الجزائريون من الدعاية الخارجية التي لعبت دورا حاسما في كشف تناقضات الصراع الدولي وعيوب السياسة الاستعمارية، وجسدت إذاعة راديو برلين الصدارة في هذا الباب، بينما كان بالنسبة للجزائريين استفاقة تستحق الاهتمام، سيما وأنها جاءت في وقت غابت فيها الأصوات السياسية التي كان بإمكانها أن تكون منفذا للتعبير عن ضغط ظروف المرحلة.
وأخذت المذكرة التي تقدم بها فرحات عباس للرئيس الأمريكي روزفلت في 20 ديسمبر 1942 نصيبها في النقاش الحاد حول المطالب الوطنية ولفتت نظر الحلفاء للمشكل الجزائري، فهي قد عبرت عن استعداد أصحابها في تعبئة الشعب الجزائري للحرب ضد المحور مقابل الحرية وإصلاحات شاملة، غير أن وصول المذكرة إلى المندوب الفرنسي جيرو في 22 ديسمبر 1942، جعلته يتملص من مناقشة الموضوع بحجة الظروف العسكرية والحربية غير المواتية.
لقد علق الجزائريون أمالا واسعة بعد نزول الحلفاء، واعتبروها فرصة لهم أمام السلطة الجديدة في الاستجابة لطموحاتهم في تغيير أوضاعهم ورغم أن تهرب الحلفاء وفرنسا من التعاطي مع الموضوع بصورة إيجابية إلا أن الحدث حرر الجزائريين نفسيا واستمر في التعبير عن ذلك في مطالب بيان 10 فيفري 1943.

ظـهور مـعالم الـطريق الجـديد

لقد تم كتابة البيان في الجزائر العاصمة ووقعه 21 مندوبا ومستشارا بلديا وأدان الاستعمار والإلحاق واستغلال شعب لشعب آخر، ودعا إلى حق الشعوب في تقرير المصير وإلى تزويد الجزائر بدستور خاص يكفل الحرية والمساواة في السياسة وفي الاقتصاد والثقافة والإعلام وفي الشأن الديني وطالب بالمشاركة الفعلية للمسلمين الجزائريين في حكم بلادهم وإلى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
لقد كان البيان وثيقة تاريخية بعيدة عن أن تكون تعبيرا عن الأحقاد وتوجهت إلى سلسلة من السلط المحلية والخارجية وعكست بكل موضوعية حصيلة قرن من الاستعمار ومثلت تراجعا صريحا عن فكرة الإدماج وعدلت بطرحها موازين القوى، وهي في النهاية قد أكدت على مبدا جديد لسياسة عامة تطالب بديمقراطية فعلية للجزائر وللشعب الجزائري وهي ترجمة لتطور في العقل تحت تأثير الأحداث الكبرى في الداخل وفي الخارج.
لم تكن الإدارة الاستعمارية قادرة عن التخلص من النظرة اللحظية للمشاكل المطروحة ولم تكن مستعدة لتقييم حصيلة أكثر من قرن لم يهدأ فيه الشعب الجزائري في الدفاع عن حقوقه المشروعة، ولم تستطع مراجعة سیاستها القائمة على إقصاء العنصر الجزائري كمكون أساسي في مسار الحياة بشكل عام، وعادت مرة أخرى بعرض مشاريع إصلاحية مستوحاة من مشروع بلوم فيوليت، وشكلت لجنة إصلاح إسلامية في جانفي 1944، غير أن هذا الأسلوب أضحى عتيقا في نظر القوى السياسية الوطنية ولا يعدو أن يكون بالنسبة لها إلا إجراء إداريا جائرا وأنها لازالت ثابتة في موقفها المناوئ للفاشية والنازية.
لقد اختار الوطنيون استكمال الطريق في نفس المقاربة التي طرحها البيان وأسسوا في مدينة سطيف في 14 مارس 1944 تنظيما جديدا حمل اسم (أصدقاء البيان والحرية)، وسجل رسميا في قسنطينة وكان يضم النواب والنخبة وحزب الشعب والطلبة والكشافة والعلماء، وشكل جبهة مكونة من متحالفين أكثر منه حزبا سياسيا منصهرا في أيديولوجية وعضوية موحدة، وتولى فيه فرحات عباس الكتابة العامة، وتشجع أعضاؤه بالنفوذ الأمريكي الإنجليزي وبالضعف الذي دب في فرنسا وباستعداد الشعب للتضحيات.
استطاع هذا المولود الجديد أن يضم إليه حوالي نصف مليون من الأتباع يتوزعون على 165 فرع من القطر الوطني، وبلغت أعداد مطبوعات جريدته ما بين 300 إلى 500 ألف نسخة يوميا، وكان هذا أول مؤشر عن تحول في معالم الطريق الجديد الذي استوعب معظم الأطياف الوطنية، وعكس الجو النفسي العام لدى الشعب الجزائري الذي كان مستعدا سلفا للانخراط في حركة وطنية جامعة، سيما وأن التنظيم أعلن بأنه سيدافع عن مطالب البيان ومناهضة الاستعمار، وزاد من نشاطه في الدعوة إلى اليقظة الوطنية وإلى محاولة تكوين جبهة موحدة للوصول إلى تحقيق أهداف البيان المعلنة في ملحقه والتي كان من المفترض تأجيلها إلى ما بعد الحرب.
رغم أن الحزب الشيوعي لم يكن قريبا من توجهات أحباب البيان والحرية، إلا أن عمار أوزقان الكاتب العام للحزب الشيوعي الجزائري، قد ساند عبر جريدته اليومية “الجزائر الجمهورية” وجريدته الأسبوعية “الحرية - لبارتي”، كما ساندته الكشافة وأحباب الديمقراطية (منظمة شيوعية).
لقد كانت فرنسا تدرك خطورة الأفكار التي حملها البيان، ولم تكن دلائل الخوف منه مضمرة، ذلك أن تصريح الجنرال كاترو الحاكم العام ساعة صدوره كانت واضحة، فهو الذي دعا إلى ضرورة القضاء على هذه العاصفة في إشارة إلى الحركة الوطنية (16) وكانت هذه التطورات المتداخلة والمتسارعة في صلب الأحداث التي ستعرفها الجزائر في الفاتح من ماي 1945.

خـلفـيـة وملابـسـات مأسـاة 8 مـاي 1945

لقد اختلف المؤرخون والباحثون عن الأسباب التي كانت وراء مجازر 8 ماي، ذلك أن جسامة الأحداث وما ترتب عنها من مسؤولية أخلاقية وإنسانية بالنسبة للأطراف الفاعلة فيها، جعل الوثائق المعروضة متعددة ومتضاربة ومن مشارب مختلفة بما يستدعي قراءتها بتحليل مضامينها واستبيان حقائقها، وإذا كانت هذه الصورة تبرر الانقسام في المواقف بين من يعتبرها ثورة جوع وبين من يكتفي بنعتها بالأحداث ومن يصفها بأعمال الشغب وبين من يكيفها باعتبارها جرائم ضد الإنسانية، فإن ذلك لا يمنع من استمرار التدقيق في طبيعتها وفحص مجرياتها واستبيان خيوطها حتى تتحدد الجهة المسؤولة.
كانت كل المعطيات المستجدة في الميدان السياسي والعسكري وفي الواقع الاقتصادي والساحة الإعلامية أثناء فترة الحرب كما رأينا سابقا، تسير في اتجاه عزز استمرار تصاعد التيار الوطني وبلور الوعي القومي، فسلسلة المساعي التي قادها فرحات عباس بصفته الشخصية المعبرة عن الواجهة التي كانت تحجب من ورائها أفكار حزب الشعب وطموحات جمعية العلماء المسلمين وتطلعات بعض الشيوعيين وأمال الشعب الجزائري، كانت كلها تدفع بزحف تدريجي نحو المطالبة بالاستقلال الوطني، وكانت الفترة التي أعقبت انعقاد المؤتمر الأول للحزب في جانفي 1945 مواتية استغلها النشطاء الوطنيون في مساعي حثيثة لحمل الشعب على المشاركة القوية في احتفالات عيد النصر بتوقيع الهدنة في 8 ماي 1945.
تحمل التقارير الصادرة عن الشرطة وعن الدرك والجهات العسكرية التي شاركت في هذه الأحداث معطيات عن تواريخ وسير المظاهرات والشعارات التي حملتها والجهات التنظيمية التي كانت تحركها وعن تدخل الشرطة والجيش وكذا المليشيات المدنية في توقيع ما تسميه تقاريرهم بالردع وإعادة النظام، ولعلنا اخترنا عينة عن هذه التقارير لما تحمله من تقصّ لجملة الحوادث التي سبقت المظاهرات بحوالي سنة، وهي تحمل دلالات تعبر كما سنرى عن مساعي جادة من طرف سلطة الاحتلال في متابعة لصيقة لنشاط التيار الوطنى وتحركاته، سواء بصفته مؤسسات على غرار أحباب البيان والحرية أو بصفته أفراد عن حزب الشعب وعن جمعية العلماء المسلمين بل وحتى من أوساط عامة الناس.
لقد تناول التقرير السري الذي أعده (BOBILLON) قائد السرب ووحدة الدرك بسطيف عن أعمال الشغب في المقاطعات الإدارية بسطيف وبجاية والمؤرخ بـ27 ماي 1945، معطيات تفصيلية عن المقدمات المباشرة التي سبقت اندلاع المظاهرات ومجرياتها، وكيف تمكنت مختلف الوحدات العسكرية البرية والبحرية والجوية في التدخل وإمدادات الدعم التي كانت تصل من قسنطينة وسكيكدة وبسكرة في تطويق المتظاهرين.
وقمعهم وكيف تطور الحسّ العدائي الحادّ لدى الأوربيين حيال القادة والمدبرين للأحداث وحرصهم على توقيع الإعدام في حقهم وفي زعماء أحباب البيان والحرية وعلى رأسهم فرحات عباس ومساعده سيدي موسى والمحامي مصطفاي.
ثم انتقل إلى وصف الحالة النفسية للأوربيين الذين لم يعودوا يشعرون بالأمن على مستقبلهم وإبداء رغبتهم بالرحيل إلى فرنسا ومخاوف حراس الغابات المعزولين وطلبهم الحماية وكذا تصاعد أصوات تنادي بإلغاء أي عمل سياسي في الجزائر وإقرار حكومة عسكرية والإبقاء على الوحدات العسكرية في الأرياف لتسمح بعودة الحياة الاقتصادية وبحضر جريدة المساواة التابعة لفرحات عباس وتعتيم أكثر على الصحف.

الحلقة الأولى

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19767

العدد 19767

الخميس 08 ماي 2025
العدد 19766

العدد 19766

الأربعاء 07 ماي 2025
العدد 19765

العدد 19765

الثلاثاء 06 ماي 2025
العدد 19764

العدد 19764

الإثنين 05 ماي 2025