لقد عرض التقرير في نفس السياق حصيلة ما أفضت عنه التحقيقات الجارية بالعودة إلى المنابع التي كانت وراء أعمال الشغب كما يسميها، والتي انتهت إلى ربط أصولها بفكرة الوطنية استنادا الى عديد المؤشرات المعلنة في التقارير الشهرية عن الحالة النفسية للسكان، والتي لم تترك مجالا للشك، في وجود تحالف الأحباب البيان والحرية وحزب الشعب والعلماء المحاربة الاستعمار والامبريالية الفرنسية، ومن أجل تطبيق الميثاق الأطلسي.
لقد كان تركيز نشاط هذه الأحزاب على الفئات الشبانية، وعلى نمو الحركة الكشفية، وإليكم الوقائع التي ارتكزت عليها هذه الفرضية تبعا للتطور الكرونولوجي كما ورد في التقرير:
1- خطاب مفعم بالعنف ألقاه فرحات عباس في 15 جوان 1944 بخنشلة، والذي شدّد فيه على اتفاق كل من أحباب البيان والحرية والعلماء وحزب الشعب على المطالب المتوخاة وفي مقدمتها الاتحاد، بحكم أن الظرف مواتي والمرحلة خطيرة، ولا يجب أن ننتظر إلى غاية تحرر فرنسا، فنحن نجهل فيما إذا كانت الجزائر ستبقى أرضا فرنسية. ولذلك وجب رفض حقوق المواطنة الآن، حتى تلوي ذراع الفرنسيين، ولا بد من أن تكون حكومة جزائرية في الجزائر وليس حكومة عامة، ويستطرد بأنه لا شيء يجعلنا نتنازل عن مطالبنا، ولو كلّفنا ذلك الاقتياد للسجن أو لحبل المشنقة.
2- في ليلة 13 إلى 14 جويلية 1944 علقت مناشير مكتوبة بقلم الرصاص في مدينة سطيف على واجهة مقر حلقة التربية، المكان الذي كان فيه فرحات عباس يجري اجتماعاته، وفي المقاهي الموريسكية وردت عبارات لنثور من أجل الحرية والاستقلال، يسقط الفرنسيون يحيا المسلمون، أيها المسلمون اطلبوا حريتكم أو الموت بإذن الله، سيتم القضاء عليكم بأيادي المسلمين وحان الوقت الآن يرفرف العلم الجزائري فوق التراب الجزائري.
3- خلال سنوات 1944-1945، عبّرت عديد المظاهرات الفردية عن دعوتها للاستقلال أو مقاومة السلطات على غرار الحرس البلدي والقياد بل وحتى الدرك، وأخذت شكل إهانات وانتفاضات وحتى اعتداءات بالضرب.
4- سجّلنا تضاعفا في عدد الأفواج للكشافة الإسلامية مصحوبا في ارتفاع خرجاتها ومخيماتها، وفي العروض التمثيلية والمسرحية التي كانت تقدمها، وحتى في المبيعات المستحدثة في المزاد العلني على الطريقة الأمريكية وكانت الجمعية التي يمتلكها فرحات عباس توشك على تقديم استعراضاتها كل يوم.
5- في غضون أفريل 1944 تردّدت أصداء في البلدية المختلطة بأقبو (بجاية) باقتراب موعد الانتفاضة التي أمرت بها العيون الحمراء والتي تعتزم تعقب الفرنسيين وترددت أخبار من البلدية المختلطة بمنصورة في منطقة البيبان تتوعد بانطلاق حركة انتفاضة من القبائل الكبرى.
6- 12 نوفمبر 1944 قام الدكتور سعدان بصفته أحد المقربين الفرحات عباس في اجتماع نظمه ببسكرة، ضد سياسة الإدماج وصرح بأن مرحلة النقاشات العقيمة قد ولت ويتعين علينا الانتقال للفعل.
7- 13 نوفمبر 1944 علّق فرحات عباس خلال محاضرة ألقاها في خنشلة على برنامجه قائلا إنه يستهدف إنشاء دولة جزائرية مستقلة ببرلمان جزائري صرف وأنه سيضم أحباب البيان والحرية وحزب الشعب والعلماء
8- 26 نوفمبر 1944 حاكم فرحات عباس في اجتماع بجيجل الاحتلال قائلا أن كل الأمم تكافح من أجل العلم ويتعين علينا نحن بدورنا أن ندافع عنه...علينا افتكاك مطالبنا قبل إمضاء اتفاقيات السلام، إذ أن الحكومة العامة للجزائر ما زالت هي نفسها، فهي التي تعد بكل شيء بدون أن تفعل شيئا حينما يتعلق الأمر بنا.
9- خلال سهرة بسطيف أقامها تلاميذ المدرسة المحلية في 27 نوفمبر 1944، بيعت لوحة تحمل صورة فرحات عباس بـ 20 ألف فرنك في المزاد على الطريقة الأمريكية، في حين عرضت نجمة البحر في نفس الظروف ولم تحصد إلا 4200 فرنك.
10- طالب العدد 9 من جريدة “المساواة” بتاريخ 10 نوفمبر 1944 بإطلاق سراح مصالي زعيم حزب الشعب.
11- 30 نوفمبر 1944 تمّ تدبير مؤامرة من طرف الأهالي من أجل تقديم أسلحة حرب وذخيرة لأحد الأنصار من المناطق المجاورة، وبعد القبض عليه في جيجل توصّلت عمليات اقتحام بيوت الأهالي الموقوفين إلى اكتشاف الجرائد الوطنية السرية العمل الجزائري، ووثائق أخرى لحزب الشعب، وكذا اثنين من المتهمين كانا عضوين في المجلس المحلي لأحباب البيان والحرية.
12- ما بين ديسمبر 1944 وفيفري 1945، وفي مستهل كل ليلة، كانت مجموعة من الشباب في جيجل يتحرشون بالأوربيين، وهي أفعال غير لائقة وكانت مخيفة للسكان.
13- 4 جانفي 1945 أسفر اجتماع عام لانتخاب الفوج المحلي لأحباب البيان والحرية بمدينة المسيلة عن مطالب الحزب بشكل دقيق، إذ توصل المسلمون إلى أنه لا يوجد لا قياد ولا إداريين ولا والي ولا حاكم عام.
14- أكّدت الجريدة السرية لحزب الشعب في عددها 9 العمل الجزائري بأن التحرر الوطني لا يمثل فرصة لبلوغ الحقوق فحسب، ولكنه يمثل ضرورة سياسية حيوية بالنسبة لشعب محتل، ولا سيما الشعب الجزائري.
15- في ليلة 23 و 24 فيفري ظهرت كتابات وطنية بالطبشور على حواف الطرق الرئيسية في جيجل: أيها الجزائريون إن الجبال تناديكم استقلال الجزائر أطلقوا سراح مصالي، اقترب القصاص.
16- في 1 مارس صرحت إحدى الخادمات في بيوت الأوروبيين لسيدتها ستكون ثمة ثورة عن قريب. لقد سمعتها من عدة أفواه مسلمة، عليك بالحذر والزمي مكانك، سأغادر فورا، وفي 2 مارس نقل عن محافظ الشرطة تردد صدى على لسان الأولاد باحتمال قرب اندلاع انتفاضة.
17- في منطقة عين روّة بالقرب من سطيف، قال أحد المريدين لطائفة دينية بلاد القبائل لأحد الأغنياء الملاك لقد كنت دوما طيبا وكريما معنا، وإذا ما حدث أمرا ما، فخذ برنوسك والتحق بنا، وسنؤمّن لك حياتك وحياة عائلتك.
18- استنفذ أحباب البيان والحرية ابتداء من مارس 1945 مجهودات حثيثة في نواحي بجاية بتازمالت، وبلغنا عقد اجتماعات ليلية للمجلس المحلي للحزب وتم اعتماد مقترحات معادية لفرنسا مفادها: (لا تعملوا لحساب الفرنسيين عليكم بالاستعداد وسلحوا أنفسكم فالثورة ستنطلق من القبائل الكبرى).
19- أعلنت مقترحات من مصادر مسلمة عن انتفاضة عامة لأفريقيا الشمالية يوم 30 أو 31 مارس 1945 بزعامة مصالي الحاج وفرحات عباس. كما تردّدت أصداء عن اعتداء الأهالي في باتنة على شخصيات مرموقة على غرار الوالي والمتصرفين الإداريين.
اعتبر صاحب العرض أن هذه الوقائع التي جرت خلال العشر أشهر الأخيرة كانت بمثابة قرينة عن النشاط الحثيث للحركة الوطنية والعنف المتزايد لهذه المظاهرات، ولقد وصلنا إلى العهد الذي يسبق الثورة وهي تعزز بعض الملاحظات التالية واحتمال التحضير الحركة مريبة.
في 7 أفريل 1945، زار المحامي مصطفاي عين الكبيرة أين ترأّس اجتماعا في 26 من الشهر، وشرع رسميا في اإنشاء فوج عن احباب البيان والحرية في عين ابسة ويمتد إلى عين روة.
نظّم عباس ومصطفاي اجتماعا في بني عزيز بالمدرسة يوم 28 أفريل تزامنا مع يوم السوق في 19 أفريل 1945، نظم الدكتور بن خليل عن أحباب البيان والحرية اجتماعا خاصا بعيادته، بهدف إنشاء مجموعات مقاومة في حالة وقوع أحداث، وتم اختيار 15 قائدا من بين الحضور. وفي 9 ماي في اليوم الموالي لأعمال الشغب التي وقعت بسطيف، عبّر بن خليل في اجتماع خاص عن أسفه بعدم تواجده ليلة 8 و9 من ماي بباتنة، وإلا كان سيثير قلاقل، ويكون قد أشاد بحرارة المسلمين الذين لم يترددوا للتضحية من أجل حب الوطن واستقلاله في خضم الحرائق الأخيرة.
نظّم بيوض حاج براهيم مناضل في جمعية العلماء المسلمين عن الغرارة اجتماعا خاصا بباتنة في 20 افريل 1945، وحث على وحدة المسلمين وأضاف أن المسلمين على أعتاب موعد مع حدث مثير، وبأنه يعوّل على إرادة كل الأنصار للاستجابة لنداء كلمة النظام العام الذي يحتمل الصدح به قريبا.
قام المسلمون باستعراض يوم 1 ماي 1945 بسطيف وبجاية وجيجل وواد اميزور وخنشلة، وهم يحملون لافتات أطلقوا سراح مصالي، يسقط الاستعمار، مساواة الاجناس، وعقب توقيف أحد المتظاهرين الأساسيين، وكان أستاذا بالمدرسة المحلية اعترف بأنه لم تكن هناك حرائق في بجاية، وتوالت صيحات المتظاهرين بكلمة الجهاد والحرب المقدسة، وكذلك كان الحال في خنشلة إذ ارتفعت صيحات تحيا الحرب المقدسة.
استنادا لهذا التقرير، فإن مأساة الثامن من ماي 1945 قد كانت ضمن الاستعدادات الفرنسية التي كانت تراقب عن كثب تصاعد التيار الوطني، ويبدو ذلك جليا من خلال الإشارة للمشاركة المكثفة للقوات العسكرية والأمنية والانتشار المكثف لوحدات التفتيل في القرى والأرياف، وانخراط المستوطنين الذين كانوا على امتداد الفترة الاستعمارية، متمسّكين بمبدأ سمو أفضلية العنصر الأوروبي على حساب العنصر المحلي، وتكتلوا ضمن مختلف الهيئات والجمعيات الاحتكار تدبير الشأن العام، ومحاصرة كل مبادرة في سبيل تغيير الأوضاع.
لقد شارك المستوطنون بكل فعالية في التهويل الإعلامي، وفي حشد الأنصار وزرع الخوف في أوساط الأوروبيين من انتفاضة قادمة تهدّد وجودهم، وهو ما حمله تقرير صدر عن محافظة الشرطة المركزية بسطيف في 18 ماي 1945 عن حركة وطنية وانتفاضة من تدبير أحباب البيان والحرية وحزب الشعب. ليختتم في النهاية بأن السكان الأوربيين قد أرعبتهم الانتفاضة، ويتعين توقيع القصاص في حق مدبريها بل وعبّر السكان الأوربيون عن أن مستقبل العيش في الجزائر لا يمكن أن يتحقق إلا بإعدامهم، وبأن الردع إلى غاية اليوم ليس كافيا، وطالبت تحمل السلاح للدفاع عن أمنها، وهي من يتولى توقيع العقاب بعيدا عن القضاء، وهدّد البعض منهم بالتخلي عن محاصيله والرحيل إلى فرنسا.
لقد أبدت المقالات المرتبطة بالموضوع استياء صريحا حيال موقف السكان الأوروبيين، ولا سيما جريدة “المساواة” وفيما أدانت بعض الأقلية المسلمة أعمال المتظاهرين، فإن أغلبية الشباب الذين يحملون الأفكار الانفصالية لم يثنهم الردع عن الاحتفاظ بالأمل في جزائر حرة ومستقلة.
كان حماس المسؤولين الفرنسيين يعكس إصرارا واضحا في الانتقام، فقد أعرب الممثلون الاوربيون في قالمة بالإجماع عن أنهم أنقدوا قالمة من مصير مدمر لولا حيوية نائب الوالي اشياري، ويرون بأن كل ما تم القيام به كان مشروعا وطالبوا بضرورة بالمعاقبة الاستباقية الصارمة، وبأنهم يرفضون بإلحاح كل من يقف في وجه العقاب الموقع.
هكذا كان المستوطنون ومن يدعمهم وراء دعم أعمال الإبادة الوحشية، وهذا ما يفسر حجم الضحايا المرعب، ولنترك العقيد شميت (schmidt) قائد المجموعة المتنقلة للتدخل يوجدة التابعة لوحدات المغرب رقم 117 في شهادته التي تغني عن كل تعليق.
كتب إلى قائد القطاع 19 للجيش بالجزائر قائلا:
لقد رأيت شخصيا وكل يوم مليشيات مسلّحة تغادر قالمة بشاحنة في كل نهاية الظهيرة، لتنفّذ ضربات تقتيل بالمناطق المجاورة، إذ وخلال دوريات الشرطة، رأيت على حافة الطريق جثثنا مرمية لأهالي جزائريين، ونجدهم أحيانا في وضعيات حزينة، ولقد أعلمت العقيد مونيو (MONNIOT) قائد وحدة عنابة، وأكدت هذا بعروض حال ومحاضر عبر مراسلات كنت أبعث بها.وقد كتب قائد الفيلق أوبان (hubin) ما يلي: كانت هناك مجموعات من الفتلة مشكلة من الفرنسيين وأجانب وحتى سجناء، وكانت تجوب وتقتل بطريقة متوحشة وبدون مراقبة ولا حكم، وتسقط مجموعات بالمئات لكل الأهالي الذين تصادفهم في طريقها..إنني أحتفظ بأقوالي وأؤكّد أنّي رأيت هذه المجموعة تتنقل ينما كنا في قالمة، بل وكل الفيلق كان يشاهدها شاحنات متجهة نحو واد الشارف (lapaine) بمعنى أنها كانت تمر بالقرب من معسكرنا وهي محملة بالمدنيين، وبرفقة أحد أو بعض المساجين الايطاليين وهم مسلحين ببنادق صيد وبنادق حرب مع أن ذلك كان يعطي انطباعا سيئا عنا عند الايطاليين.
خاتمـــة
هذه مجرّد عينات عن المعطيات المروعة التي حملتها التقارير عن 8 ماي 1945، وهي في مجملها تؤكّد على طابع الانتفاضة لهذه الأحداث، ومهما يكن فإن الثابت هو أن الجزائريين تشبّعوا من حجم تراكمات المشاكل المعقدة وغير المنتهية، والتي ارتبطت أساسا بفلسفة السياسة الاستعمارية التي قامت على الإبادة، وإقصاء العنصر الجزائري من منطلق أنه يحتل إنسان الصف الثاني ولا يرقى المستوى المواطن، كما أن الذين يحاولون ربط هذه المأساة بالجوع والخبز لا يفهمون عقل الجزائري الذي ارتبط بالأرض والدفاع عن العرض، وهذه هي الصفة العامة التي حكمت مواقفه عبر العصور، كما أن الوثائق الاستعمارية نفسها لا تنفي مطلقا هذه الميزة، وأما عن الضحايا الذين سقطوا فعددهم قد يفوق المصرح بهم، ذلك أن المستوطنين الذين نفّذوا جرائمهم ما زالت إحصائيات ضحاياهم مجهولة.
كما أنّ التقارير الأمنية أحصت عدد القتلى الفرنسيين، ولا تقدم أرقاما عن حصيلة عمليات القتل الجماعية، والتي أدارتها القوات المشتركة لمختلف القطاعات والأسلاك.
الحلقة الثانية