”الشعب” تجمع شهادات حيّة ممّن عايشوا المأساة..

الثامن ماي.. ذروة الوحشية الاستعماريـة الفرنسية..

جمعتها: سهام بوعموشة

الجزائر المنتصرة..تـضحيـات الـشهداء مـنـارات لـفتوح كبرى تتحقق..

شـبــاب الأمس اسـتـعـاد الـسيـادة وشـبــاب الـيـوم يـسـتـعــيد الـريــادة

الـشـبـاب الجزائري مهتم بـتاريـخ آبـائه وأجداده..وسيحـفظ العهد

..الثامن من ماي عام 1945.. كانت أصداء الاحتفالات بنهاية الحرب العالمية الثانية تتردد في أرجاء المعمورة، غير أن بهجة الجزائريين الذين خرجوا يعبرون عن فرحتهم بانتصار الحرية والأمل في نيل استقلالهم، تحولت إلى كابوس دموي مروّع..في الثامن ماي، واجه الجزائريون آلة القمع الاستعماري الوحشي، وهو يوقّع مجازر بشعة ستبقى وصمة عار على جبينه..أيام سوداء تحولت فيها مدن وقرى جزائرية إلى مسارح لجرائم ضد الإنسانية، فسالت دماء الأبرياء أنهارًا، وشُنقت الأجساد ومزقت الأشلاء، وامتلأت السجون والمعتقلات بالآلاف من الوطنيين. لم يسلم من وحشية القمع شيوخ ولا نساء ولا أطفال، في مشهد يعكس مدى التجرد من القيم الإنسانية الذي بلغته قوات الاحتلال.

لقد كانت مجازر الثامن ماي 1945 محاولة يائسة لطمس هوية شعب بأكمله، وإخماد جذوة التحرر المتأججة في قلوب أبنائه..اليوم “الشعب” توثق تلك الجرائم وتجمع الشهادات الحية من الناجين وأبنائهم، كي تنقل صورا واقعية عن بشاعة ما اقترفته يد الاستعمار الآثمة..

المجاهـــدة صليحة جفــال: هذه وقـائع الثـامن مـــاي..

في هذا الصدد، تروي المجاهدة صليحة جفال، المولودة في 1943 عامين قبل مجازر ماي 1945، نقلا عن شهادة خالاتها ووالدها أن سكان سطيف ونواحيها خرجوا في مظاهرات سلمية يوم 8 ماي 1945 انطلاقا من مسجد “لونغار” معروف في سطيف، تتقدمهم الكشافة الإسلامية والمسنات يزغردن، للمطالبة بالوفاء بالوعد، فردت عليهم فرنسا الإستعمارية بالتقتيل والقصف بالطائرات.
وأشارت في حديث لـ«الشعب”، إلى أن والدها كان مجندا في صفوف الجيش الفرنسي، شارك في الحرب العالمية الأولى والثانية، وقد وعدهم مسؤولون في الجيش الفرنسي، بمنحهم الاستقلال، لأنهم حرروا فرنسا من ألمانيا النازية وأبلوا البلاء الحسن في الحرب العالمية الثانية. وتضيف المجاهدة، أن السطايفية وصلوا إلى شارع قسنطينة الذي يسمى حاليا شارع 8 ماي 1945، اصطدموا بمحافظ الشرطة “طور”، الذي أطلق النار على أول شهيد وهو سعال بوزيد، شاب صغير كان يحمل الراية الوطنية، ثم توالى المستوطنون في شارع قسنطينة وأطلقوا الرصاص على الجزائريين من شرفات منازلهم، فهرب الجزائريون في شوارع سطيف، ودخلوا المنازل بحثا عن العصي والسلاح الأبيض للدفاع عن أنفسهم، واستشهد الكثير من الجزائريين. وتشير إلى أنه في ثكنة سطيف لم يسمح الضباط الفرنسيون للمجندين الجزائريين بالخروج وأغلقوا عليهم الأبواب، وأخرجوا جنود اللفيف الأجنبي الذين أمعنوا في قتل الجزائريين رفقة الدرك الفرنسي.
..انتشروا في القرى والدواوير في سطيف من العلمة، بني عزيز، لتنفيذ جرائمهم، ودامت المجازر شهر ماي كاملا، وفي خراطة وفي قالمة ألقي بالجزائريين في مكان يسمى شعبة الآخرة، كما أحضرت فرنسا باخرة عسكرية إلى موانئ بجاية وشرعت في قنبلة مناطق سطيف وخراطة.
وتؤكد محدثتنا أن كل العائلات في سطيف لم تسلم من هذه المجازر وكانوا يرون لهم ما حدث، وحقيقة فرنسا الاستعمارية المجرمة التي قدمت إلى الجزائر لسلب أراضي وثروات سكانها الأصليين، ومحاولة طمس هويتهم، وأنه لابد من إخراجها بالقوة.
وأشارت المجاهدة جفال إلى أن سيدة من وهران جاءت إلى سطيف وأخذت معها 45 طفلا يتيما سلمتهم لعائلات جزائرية تكفلوا بهم، والكثير منهم التحقوا بالثورة في 1954.
وتخليدا لذكرى شهداء مجازر ماي 1945، وجهت محدثتنا رسالة للأجيال الحالية بالحفاظ على أمانة الشهداء، قائلة:« تركنا لكم الجزائر حرة مستقلة حافظوا عليها، بلادنا اليوم مستهدفة من كل جهة، حذار الجزائر في أعناقكم”.

المجاهدة فريـال قرمية: قتـل.. تشريـد ودمـــار

من جهتها، تروي المجاهدة فريال قرمية، عضو بالمنظمة الوطنية للمجاهدين، أن جدتها التي فقدت 17 فردا من عائلتها أخبرتها بما جرى في ذلك اليوم المشؤوم، وكادت تفقد عقلها من هول ما جرى، وفقدانها لأشقائها، حيث لطمت وجهها حتى سالت الدماء وهي تصرخ وتبكي وقالت لوالدتها “ انظري كل أخوالك استشهدوا”.
وتضيف أنها عندما سمعت بما حدث يوم8 ماي 1945، صدمت وما تزال تتألم لبشاعة الجرائم، وتروي محدثتنا استنادا لشهادة جدتها أنه في ذلك اليوم اجتمع أفراد الكشافة الإسلامية الجزائرية رفقة فرحات عباس، في مسجد “لونغار” بسطيف، المحاذي لمنزل العائلة، وقرروا القيام بمسيرة سلمية من المسجد إلى شارع قسنطينة المعروف حاليا باسم 8 ماي 1945 تخليدا لضحايا المجزرة.
قدم جنود الجيش الفرنسي، مرورا بالقرى ومداشر سطيف مطرونة وموان، التي أحرقوها كلية، وأصبحت اليوم جبل، قتلوا 17 جزائريا، وعندما وصلوا إلى منطقة أوراسيا، كانت شقيقة بوزيد سعال، تحمل العلم الجزائري، ثم أخذه الشهيد ورفعه عاليا، وكان شرطي فرنسي جالسا في مقهى بمحاذاة شارع قسنطينة يشاهد فأطلق الرصاص على الشاب بوزيد سعال، وعمت الفوضى، وبدأ المستوطنون المسلحون يطلقون النار على الجزائريين.
وتشير المجاهدة قرمية، إلى أن أحد المستوطنين الأوروبيين ما بين قريتي موان ومطرونة باع سلاحا رشاشا لعم والدها المدعو سعيد فرية، وعندما اندلعت المظاهرات طلب من المستوطنين الآخرين التوجه نحو منزل سعيد، لاسترجاع السلاح الرشاش، فقاموا بتدمير المكان بحثا عن السلاح، الذي كان مخزنا في مطمور القمح، أخذوها وقتلوا عم والدها.
بلغ هذا الخبر مسامع سكان أوراسيا ومطمورة جنوب سطيف، فتوجهوا نحو المدينة لمساندة إخوانهم، واندلعت الأحداث الدموية، وفقدت العائلات السطايفية أفرادا من عائلتها، الذين استشهدوا، حيث تركت هذه المجازر شعلة الثورة في سطيف، تضيف المجاهدة في شهادتها.

شريفــي: الوحشية الفرنسية بـلـــغـت الــذروة..

يؤكد المجاهد بالولاية الثالثة التاريخية بوعلام شريفي، أن بشاعة مجازر ماي 1945، دونها صحفيون فرنسيون في مقالاتهم، حيث قام بترجمة إحدى المقالات التي تعطي صورة وحشية لما جرى في 8 ماي 1945، ما جعله يذرف الدموع لوحشية فرنسا الاستعمارية، التي كانت تدعي الحضارة. يذكر المقال أن فرنسا دمرت 41 قرية على من فيها من الأطفال والنساء والشيوخ، استنادا لما جاء في العدد 57 الصادر يوم الخميس 12 جوان 1945 لمجلة مجلس النواب الفرنسي، التي سجلت هذه الجرائم من مصادر وتقارير فرنسية رسمية.
توثق شهادة الصحفي الفرنسي، تصريح الحاكم الفرنسي آنذاك في إجابة عن سؤال في اجتماع مشترك للجان تنسيق الأعمال للشؤون الإسلامية في البرلمان الفرنسي، مفاده “أن 41 قرية دكت بالطائرات والوحدات البحرية فلم يبق منها ديار ولا حيوان”.
ويضيف المجاهد شريفي، “أن صحيفة “كومبا” الفرنسية كتبت عن مذبحة ماي 1945، تقول “لقد وزع السلاح على جميع الأوروبيين وخاصة الخفيف منه، إلى حد أن النساء الأوروبيات كن مسلحات، ففي إحدى المدن بينما طفل عربي لا يتجاوز العاشرة من عمره يقطف أزهارا من الحديقة العمومية، إذ بضابط فرنسي يطلق عليه عيارا ناريا فيرديه قتيلا”.
وقال مندوب جريدة “ الحرية” الفرنسية، بعد المذبحة “إننا الآن بهليوبوليس قرب مدينة قالمة، وقد مضى على الجثث الملقاة على قارعة الطريق أكثر من خمسة أيام دون أن يهتم أولي الأمر بدفنها، وذلك تفننا بإلقاء الرعب في صفوف الجزائريين، الذين لم يزيدهم هذا إلا إيمانا وكراهية لفرنسا”.
ثم يقول: “لقد رأينا في إحدى هذه المناظر رضيعا ملوثا بالدماء، يبحث عن ثدي أمه، مقطوعة الرأس دون أن يهتدي”.
يوضح المجاهد شريفي، أن 8 ماي 1945 من الناحية الفكرية لم ينطلق من فراغ، هناك أرضية فكرية فيها شق داخلي يتصل بالجزائريين وشق يتصل بفرنسا والعالم. ويؤكد أنه داخليا الوعي الوطني كان موجودا لدى الجزائريين منذ دخول الاحتلال إلى غاية طرده من بلادنا، عبر المقاومة المسلحة والثورات التي وقعت في أنحاء الجزائر إلى غاية 1919 آخرها في الصحراء، وفي الشمال مقاومة لالا فاطمة نسومر في 1874.
ويضيف عضو الأمانة الوطنية للمجاهدين، أنه بمجرد توقف المقاومة المسلحة، ظهرت المقاومة السياسية في 1926 مع الأمير خالد، وفي هذا المشهد السياسي برزت ثلاث تيارات أحدهما ينادي بالاستقلال تزعمه الأمير خالد ثم ورثه حزب الشعب، وتيارين آخرين أحدهما ينادي بالإندماج لأحمد بن جلول وتيار فرحات عباس، المنادي بالمساواة مع الفرنسيين في الحقوق والواجبات.
في هذا الجو يقول – محدثنا - كانت الوطنية مهيأة للانفجار، وجاءت ظروف نهاية الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء على النازية بمساعدة سكان شمال إفريقيا، وتنكرت فرنسا لوعدوها للجزائريين وهي كانت على علم بأن هناك ثورة تحضر.

المجاهــد جباري: الثامن ماي.. أسّـس لأول نوفمبـر

يقول المجاهد جباري، أنه كان يسمع عن مجازر ماي 1945 من الذين عاشوا تلك المجازر الأليمة، التي كان لها دفع قوي للتحضير لثورة نوفمبر المجيدة، بفضل رجال مخلصين ومناضلين على رأسهم الشهيد مصطفى بن بولعيد.
ويضيف أن هؤلاء الأبطال أدركوا أن ما أخذ بالقوة يجب استرجاعه بالقوة، غامروا في ظل الظروف الصعبة الفقر، قلة الأسلحة، وتمكنوا من الاجتماع في العاصمة رغم المسافة الطويلة، واتخذوا قرار الثورة وإصدار بيان أول نوفمبر 1954 الجامع، والذي أوصلنا لاسترجاع السيادة الوطنية.

 المجاهد العوفي: نعوّل على الشباب لبنـاء الجزائـر المنتصرة

يقول الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين، حمزة العوفي، أن مجازر 8 ماي 1945، تركت جرحا عميقا في نفوس الجزائريين، في كل مناطق الجزائر فمثلا في منطقة بوشقوف ووادي الشحم، قتل جزائريون على أيدي الكولون والجيش الفرنسي، وقد كان شيوخ الزوايا أين كان يتم تعليم القرأن يخبرونهم بوحشية المستعمر، لأن أحد معلميهم فقد أفرادا من عائلته. ويضيف أن الجزائريين شعب محارب ثوري، مقاوم منذ القدم حتى قدوم الاحتلال الفرنسي، فأجدادنا طردوا الوندال والفنيقيين والرومان.
ويشير المجاهد العوفي إلى أن أحفاد المستوطنين والأقدام السوداء، الذين استقدمتهم الإدارة الاستعمارية الفرنسية إلى الجزائر، كانوا يعيشون في رخاء ونعيم بثروات وأراضي الجزائريين، التي صودرت وأصبح الجزائريون يعملون كخماسين في أراضيهم بعدما كانوا أصحاب الأرض، مثلا في عنابة استولوا على نصف البحيرة، والقسم الآخر أعطوها لعملائهم الحركى، وفي مناطق كثيرة من الجزائر خاصة متيجة شهدت نفس المصير، وكل ثروات الجزائر كانت ترسل إلى فرنسا، واليوم يحاول اليمين المتطرف الفرنسي، الذي يقوده أحفاد المجرمين العودة إلى بلادنا، لم يهضموا طرد أجدادهم في 1962، وفقدانهم للنعيم الذي كانوا يعيشون فيه.
ويؤكد محدثنا أنه كمجاهد، التحقت بالثورة في فيفري 1955 حتى الاستقلال، يعول كثيرا على شباب اليوم ويجزم أنهم سيكونون أشجع منهم لأنه كان لهم الحظ في متابعة دراسات عليا في الجامعات الجزائرية والأوروبية، تخرج منها أطباء، باحثون، مهندسون، معلمون، مخترعون، ضباط في الجيش، صحفيون، على عكسهم طردتهم إدارة الاحتلال الفرنسي من المدرسة.
ويضيف العوفي أنه بفضل تضحيات الشهداء، الجزائر اليوم تشهد تطورا في بعض الصناعات بأيدي جزائرية، ولم نعد نستورد مثلما كنا سابق، بفضل سياسة رئيس الجمهورية، الذي حسبه يعبر عن تطلعات الشعب الجزائري والأخوة، والأنفة، فتح المجال للشباب للإنتاج والإبداع في مختلف القطاعات وهذا هو الاستقلال الاقتصادي.
ويشير المجاهد إلى أن شباب اليوم أصبحوا يبحثون عن تاريخ أجدادهم ويطرحون أسئلة مهمة، وهذا أمر جيد نفتخر به يدل على أن جسر التواصل بين جيل الثورة وما بعد الاستقلال متواصل، كما أن الباحثين ألفوا كتبا حول تاريخ الثورة والمقاومات الشعبية والحركة الوطنية استنادا للأرشيف، صونا للذاكرة الجماعية للجزائريين، لأن ثورتنا عظيمة.
وقال:« عندما نموت فنحن مطمئنون على الجزائر، مهما تآمر أعداء الأمس على بلادنا، فنحن منتصرون، وسيلقون نفس مصير الماضي، فقد نطلب بتعريب الشوارع والمحلات إلى أسامي شخصيات وطنية وعلماء ومجاهدين وشهداء”.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19767

العدد 19767

الخميس 08 ماي 2025
العدد 19766

العدد 19766

الأربعاء 07 ماي 2025
العدد 19765

العدد 19765

الثلاثاء 06 ماي 2025
العدد 19764

العدد 19764

الإثنين 05 ماي 2025