قدّسوا العمل وأقاموا منظومة تربوية قوية

الكـــوريـــون والــيــابــانــيــون لــيســوا عــبــاقــــرة..

عبد الله بشيم

اختلف نمط التنمية في البلدان المستقلة حديثا، بين نمط اشتراكي ونمط رأسمالي، ونمط بين هذا وذاك..
وبعد مسيرة تجاوزت نصف قرن، لا يمكن الجزم أن شكل النظام ولونه السياسي، كانا مقياسا دقيقا لتحديد درجة تطور هذا البلد أو ذاك ، بل إن الطاقات والثروات الطبيعية لم تكن بدورها معيارا حاسما في توصيف تقدم أو تأخر أي من هذه البلدان.

فالصين وفيتنام، بلدان اشتراكيان لا يملكان ثروات طبيعية كبيرة، ومع ذلك فان الأول يتربع على اقتصاد العالم بتكنولوجيا دقيقة، لم تصلها حني أمريكا، والثاني يصدر منتجات مصنعة لكل مناطق العالم.
في الوقت الذي سلكت فيه بلدان الخليج وجل بلدان إفريقيا وأمريكا اللاتينية نمطا غير اشتراكي، وامتلكت ثروات طائلة، ولكنها لم تستطع صنع سيارة ، ومسألة الحكم  فيها لم تحسم بعد ، كما إن شكل الدولة  مازال شكلا بدائيا.
ويمكن ان نقلب الصورة فنجدها صحيحة كذلك. إذ كم من بلد انتهج النمط الاشتراكي ولكنه لم يحقق الكثير.
علي العكس من هذا تماما، فإذا توقفنا عند تعامل كل دولة مع مسألة التربية وإعداد الأجيال من النواحي العلمية والمهنية، أمكن لنا بكل سهولة وضع تصنيف دقيق لمستويين اثنين من الدول:
أما الدول التي استنسخت منظومتها التربوية من النظام الاستعماري وأضافت إليه مساحيق براقة، كبلدان إفريقيا الفرانكفونية، بما فيها بلدان المغرب العربي، مازالت تتخبط في مستنقع التخلف والتبعية والفساد، ولم تحقق نتائج كبيرة، لا على مستوى التعليم والتنظيم الاجتماعي، ولا على المستوي المعيشي.
وأما الدول التي تحررت وابتكرت منظومة تربوية، متفاعلة مع الخصوصية الوطنية ومع المستجدات العلمية، فقد شقت طريق التنمية بثبات، وبلغت مستويات متطورة ومتقدمة. ويمكن أن نذكر كمثال على ذلك، بعض بلدان آسيا مثل ماليزيا وكوريا الجنوبية والهند، إضافة  إلى  تشيكيا  والسويد وفنلندا...

مئات الشعب الفنية في الجامعة

وكعينة وافية، نستعرض جزءا من تجربة كوريا الجنوبية التي تعد هي والتجربة اليابانية، من أهم التجارب التنموية  في العالم.
إن أول ما لفت انتباهي وانأ أتنقل بين ملامح هذه التجربة، مقدار الأهمية التي يوليها المجتمع الكوري للتعليم والتربية، وحجم الجهد المبذول مند 1949 ، بدءا بتخصيص ما يفوق 25 بالمائة من ميزانية الدولة لهذا القطاع بنوعيه العام والخاص (الدولة تمول مدارس القطاع الخاص كذلك)، إلى إنشاء معاهد وطنية للتوجيه والإرشاد ومعاهد للتطوير التربوي العام بمهام الإشراف والمتابعة، وبصلاحيات غير محددة...
ذلك أن ما تحقق في كوريا الجنوبية من تقدم، لم يأت هكذا، كما يتصور البعض، بعبقرية فريدة أو وحي نزل من السماء على الكوريين خصيصا، فحباهم الله بملكة لا مثيل لها أبدا.. لقد  كان بالدرجة الأولى، عملا متواصلا وجهدا مضنيا والتزاما من المجتمع، لسنوات وسنوات... وكما تقول النكتة :» إذا رأيت شخصين يسيران ببطء ويتكلمان مع بعضهما،  في شوارع طوكيو، سيول، بانكوك،، فاعلم إنهما أجنبيين.».
الخاصية الثانية التي تشد الانتباه، هي إن كل هذا  الجهد انصب بالدرجة الأولى، على بناء  الذات القادرة على العطاء المتميز في الحياة، والتركيز على سمو العمل المهني واكتساب المهارة الفنية والحياتية، بدءا بتعلم المهن والحرف الضرورية، وانتهاء بمهارة الاستماع  ومهارة الحديث ومهارة السير في الشارع.. ولنضع خطوطا على كل هذه الكلمات التي ذكرناها..
أي أن الغاية كانت البحث عن فرد مؤهل علميا وفنيا ، فاعلا ومنتجا، وليس فردا عبقريا أو نخبة فوق المجتمع.. لهذا عملوا على تنويع وتعدد الشعب الفنية بالجامعة، حيث يعتبر التعليم الأكاديمي شعبة من الشعب، والتلميذ المؤهل يجد أمامه مئات الشعب الفنية العملية، التي يكون المرشد في الثانوية قد أخبره بكل تفاصيلها وفرص العمل فيها..الخ
وقد يتفاجأ البعض حينما يعلم بوجود الدروس الخصوصية أو ما يسمي في كوريا الجنوبية  (الهوتغون) ، وهي دروس باهظة الثمن، لكنها تستقطب ما يفوق نسبة 94 بالمئة من المقبلين على الجامعة ، مما يشير إلى قوة التنافس بين أفراد المجتمع لتحقيق النجاح المهني والاجتماعي.
ولتقريب الصورة أكثر، إليكم بعض المواد التي تدرس في المستوى الابتدائي:

- التربية من اجل التمتع بالحياة
- التربية من اجدل الأمانة
- التربية من اجل الحياة ذات المعني
- التربية الخلقية والرياضية
- الحساب

هذا ويشترط لتولي منصب مدير مؤسسة تربوية وطاقمه الإداري والتقني 25 سنة خبرة. ويرافق التلميذ أكثر من مرافق عقلي وسيكولوجي مكلف بتسهيل توصيل المعلومة إلى الطالب ليتعلم مهارة، ولو تطلب الأمر العمل ليلا نهارا. فقد أدرجت وظيفة المدرس المرشد في التعليم سنة 1957، مما يبين أهمية المرافقة والإسناد التربوي..
ولا تعاني المنظومة التربوية من تدخل القوى غير التربوية، إن صح التعبير، كما هو الشأن عندنا ، حيث «الغبريطة» (1)  لا ترى إصلاحها وفك عقدها إلا بحذف البسملة، وخصوم «الغبريطة» لا يرون إصلاحهم إلا بمنح خمسة كيلوغرامات للبسملة مقابل كلغ لبقية المواد، والسلطات المعنية تضبط نسب النجاح في الامتحانات الرسمية كما تضبط أسعار البطاطا..
 
بشير حمادي عند بروز تيتو

ولا يفوت التذكير بمسلمة عند الكوريين وغيرهم من الشعوب والدول الحرة المتأصلة، هي أن التعليم يتم باللغة الكورية، وتدرس اللغات الأخرى  كاختصاص.
وعلى ذكر هذه الخاصية البديهية، تذكرت واقعة رواها لي احد أعمدة جريدة «الشعب» الغراء المرحوم الزميل والصديق العزيز بشير حمادي (2) أوردها هنا لدلالتها..
يقول المرحوم بشير: بعد أن انتهيت، سنوات السبعينات،  من إنجاز تحقيق صحفي بجمهورية يوغسلافيا سابقا، استقبلني وزير في حكومة الرئيس بروز تيتو، رفقة زميل من الصحف المفرنسة، الوزير المعني طلب معلومات عن الجزائر، فأراد الصحفي المفرنس أن يظهر للوزير بأن الجزائريين مرتبطين بأوروبا  وأن أغلبهم متحمسون للنظام الاشتراكي وووو.. ولما أنهى الصحافي كلامه، سأله الوزير: بأية لغة يتم ذلك؟ فسارع الصحفي متباهيا برده: طبعا بلغة عالمية هي الفرنسية، فسأله الوزير مجددا: هل هي لغتكم؟ وماذا عن اللغة الأم؟ أجاب الصحافي: لا ، ليست لغتنا ولكن، فقاطعه الوزير : هي لغة مكتسبة أو محتلة (بهذا التعبير) ..  لن تنجحوا  في إقامة نظام اشتراكي ولا نظام غيره، إلا إذا عدتم إلى اللغة التي يتكلمها عموم الشعب، ملتفتا إلي طالبا مني إطلاعه على حقيقة الوضع في الجزائر، لما عرف أنني أتكلم لغة عامة الشعب في الجزائر وهي العربية، مختتما حديثه بالتأكيد على أن الاشتراكية ونظم التنمية السليمة، تبنى بميول وقناعات حقيقية متجذرة في الغالبية العظمى من الشعب..

ألماني يعجب بنا..

كادت الجزائر في نهاية السبعينات أن تتفوق على بلدان أوربية مثل إسبانيا والبرتغال، ونجحت في كثير من التجارب التربوية والتنموية، سأعطي هنا ملمحا من هذه التجارب على علاقة بالتكوين وتفعيل الفرد، عشته أنا شخصيا بمجلة «الوحدة» حينما تشرفت برئاسة تحريرها  نهاية الثمانينات..
كنا نستقبل باستمرار، وفودا شبابية من دول صديقة، خاصة من المعسكر الاشتراكي. ومرة استقبلنا وفدا صحفيا من ألمانيا الديمقراطية (كانت ألمانيا الحالية مقسمة إلى شطرين : شرقي ويسمي المانيا الديمقراطية وغربي ويسمي المانيا الغربية) وحدث أن  أعجب أحد أعضاء الوفد الألماني (تصور ألماني يعجب بعمل جزائري) بالعمل والروح الجماعية  التي لاحظها بمجلة «الوحدة «، وما تصدره من عناوين إعلامية متميزة وبإمكانيات بسيطة، قال لي مازحا: « إن ما شاهدته عندكم زاد من أمنيتي وإصراري على أن أصبح صحفيا «، فقلت له: «لم تتمنى. ألست صحفيا؟» قال.» لا ، ليس بعد، إنما أنا أمارس مهنة الصحافة ومرشح لأصبح صحفيا ..»
وأفهمني أن نظام التعليم عندهم، يقتضي من الراغب في الالتحاق بكلية الصحافة، أن يتجه مباشرة، بعد حصوله على البكالوريا، إلى وسيلة إعلامية يشتغل بها مدة محددة، يكون خلالها متابعا من فريق مشرف، هو الذي يقرر إن الطالب مؤهل علميا ونفسيا لممارسة مهنة الصحافة أم لا، فإن أهله واصل العمل، وفي الوقت نفسه واصل الدراسة الجامعية، وبعد التخرج يندمج نهائيا.
وبعد مغادرة الوفد الألماني، التفت إلي أحد الزملاء العاملين معي قائلا: «إن ألمانيا موجودة بمجلة الوحدة منذ مدة؟.» مشيرا إلى أن المجلة كانت متفتحة على الشباب في الجامعة والثانوية، إذ يأتي الشاب، وهو طالب، للعمل كمتعاون ويتقاضى شبه أجرة، وبعد فترة يتم توجيهه إلى القسم المناسب . ويثبت بعد التخرج بمنصبه أو ينصح بالتحول إلى اختصاص آخر، وهكذا اقترحنا على عشرات الصحافيين العاملين معنا، تبعا لميولهم وإمكانياتهم، التوجه إما للعمل بالسمعي البصري أو التدريس أو الإدارة، الخ..
هذا الجو المهني الذي كنا نعمل فيه، رغم ضغوط  الحزب الواحد ورغم نقص خبرتنا، انعكس إيجابيا على علاقة العمل والتعاون بين جميع الصحافيين والعمال، استمرت، والحمد لله، إلى اليوم. كما انعكس مهنيا، من حيث الكفاءة والجدية والالتزام. فالطالب الذي يشتغل بمجلة «الوحدة» لسنة أو سنتين، كأنه ينال جوازا مهنيا ينتقل به إلى أية مؤسسة إعلامية أكثر حجما فيرحب به ولا يجد صعوبة تذكر، مثله مثل صحفي جريدة «الشعب» أو «الثورة والعمل» آنذاك،
كنا على احتكاك دائم بالواقع الميداني، ولم نكن في الوحدة بالأساس، نعرف نوعا صحفيا اسمه التعليق، بل التحقيق والريبورتاج والحديث الصحفي والملف... وكان الصحفي يقيم  في نهاية السنة بعدد الريبورتاجات والتحقيقات التي أنجزها.
الصحافة وظيفة ورسالة..
«تربى» الطالب الصحفي « آنذاك، على المسؤولية والمصداقية وحب المهنة رفقة زميل  متمرس (رئيس ركن اومنسق)  يوجهه مهنيا واجتماعيا ويراجع ما يكتب وأحيانا يعيد كتابته من جديد، دون أن يرى في ذلك حرجا أو مزية (وهذه  من مهام الأستاذ المشرف الذي اعتمدته كوريا وذكرنا مهامه)، بل أن أغلب الصحافيين كانوا يطلبون من زملائهم التفضل بقراءة ما كتبوا وإبداء الملاحظة، قبل أن يسلموا مكتوبهم  لمسؤول القسم، ولكنهم من كثرة حبهم للمهنة وغيرتهم على ما يكتبون، يحتجون حتى على تغيير بسيط في عنوان مقالهم. وكثيرا ما يتعرض مسؤول التحرير للنقد إذا تصرف في نص أحد الزملاء...
صراحة، وإن كانت لنا نقائص (والكمال لله)، فقد عملنا يومها في القطاع العام،(3) بحماس وبإرادة وصدق وإخلاص.. كنا شبانا تحدوهم العزيمة وحب التطور وحب الوطن، شبان لا يشعرون أنهم موظفون، بل هم أصحاب الشأن، ويتصرفون على هدا الأساس، يمشون على الأقدام ويبيتون في الحمام لإنجاز تحقيق صحفي في الأماكن النائية الصعبة، ثم يعودون بعد أسابيع فرحين بعملهم منتظرين ردة فعل القارئ بعد صدور العدد.
وحينما نعيد التذكير هنا ببعض التجارب التي عشناها فلسببين اثنين: أولا أخذ العبرة سلبا وإيجابا، وثانيا للتأكيد إن المبادرة كانت تأتي دائما من الشباب  بما فيها مبادرة إطلاق شرارة الثورة... وقد عرفنا كيف ان النظام التربوي في كوريا استند الى تراكمات وتجارب توالت منذ سنة 1949 ..

ومن أهم المرتكزات التي نريد التذكير بها هنا هي:

-  الاقتناع بالجماعية في تحديد شكل ومحتوي المنتوج، من صحافيين وقراء. لذلك كان الصحافي، بعد نقاش مع زملائه، يقترح بنفسه ما يكتب أو يتابع قضية طرحت في بريد القراء...
- التوجه إلي الميدان للاحتكاك بالجماهير ونقل انشغالاتهم وتجاربهم، يشجع الشبان في أماكن تواجدهم ويجعلهم يشعرون بالدعم والإسناد، وأن رأيهم يصل إلى السلطات.  كما يسمح هذا التواجد الميداني بتوعية الصحافي وتكوينه سياسيا. وهكذا تدار العملية الإعلامية من المصدر إلى المتلقي ويباع المنتوج وتحقق المادة الإعلامية غرضها ويطلع المسؤول على الواقع وتفتح مناصب العمل، والكل يتكون ويتعلم وينشأ على الصدق وحب العمل وحب الوطن، وكل  من تحمل المسؤولية فيما بعد، التزم بنفس القيم..
وهذه هي دورة النجاح الموجودة في البلدان المتطورة.
ثمار ذلك المجهود كان إصدار عناوين إعلامية تباع بنسب تصل إلى ثمانين بالمئة، والشاهد على ذلك تفاعل القارئ بعشرات الرسائل وطلبات الاشتراك التي تصل يوميا. ولو اطلع  جيل اليوم على بعض منتوجات ذلك الزمان لتصور أنها صنعت في بلد أوربي.
مثل هذه الكفاءات وهذه القيم، موجودة اليوم في الجزائر، كما  وجدت بشكل أو بآخر في كوريا واليابان، وهي عامل من عوامل نجاح هذه البلدان، فهل يستحيل اليوم إنجاز شيء ذي فائدة وذي مصداقية، وهل يحتاج ذلك  لعبقرية نادرة؟
لقد نهضت أوربا بالثورة الصناعية والسيطرة على أسواق مستعمراتها ، ونهضت دول من العالم الثالث بفعل منظومتها التربوية والمهنية وتقديسها للعمل وتحررها، ولم ينهض أي مجتمع لمجرد أنه رفع ورقة هذا اللون السياسي أو ذاك،  فهل ننجح نحن بالتخلي عن التسيس المفرط  وصناعة الكلام والأوهام والتركيز على العمل .. العمل المتواصل؟؟

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19449

العدد 19449

الجمعة 19 أفريل 2024
العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024