هبْ أنك، عزيزي القارئ، ربّان سفينة أبحرت في المحيط الشاسع، وجُبت البحار والخلجان، ولكن دون أجهزة قياس أو بوصلة.. أو أنكِ، عزيزتي القارئة، عزفتِ على آلة موسيقية، أو حتى غنّيتِ بالصوت فقط، «آلّا كابيلّا» كما يقال بالإيطالية، ولكن دون نوتة مرجعية تعرفين بها موقعك من السلم الموسيقي.. هبْ أننا دخلنا السوق لنشتري ما يلزمنا من خضر وفواكه، ولكن دون أن يكون في السوق ميزان، أو أن يكون هنالك ميزان بكفتين ولكن دون حجر.
دون بوصلة، ستضيع الفلك ويتلاعب بها الموج حيثما شاء، ودون سلّم، سيكون الغناء نشازا لا تناغم فيه ولا توافق، ودون حجر وميزان، ستختل الموازين وتضيع التجارة.. لكلّ مجال مرجع، ووحدات قياس، نهتدي بها إلى الطريق المرجوّ، ونحدّد بها موقعنا في الزمان والمكان.
كذلك الإبداع، بحر شاسع لا يكاد ينتهي، وتوليفات ألحان لا تنضب، وسوق لها وزنها في الاقتصاد وتُحسب قيمتها بالملايير.. من أجل ذلك، احتاج الإبداع الأدبي إلى مرجعيات، إلى أدوات «قياس» تقترب من العلمية والموضوعية ما استطاعت، للمفاضلة بين هذا العمل وذاك، وفكّ شيفرة ما يجود به الروائي والشاعر والقاص من نصوص إبداعية.
وهنا تكمن الصعوبة: محاولة الحكم بموضوعية على الفن، هذا النشاط الإنساني الذي هو قمّة الذاتية.. من أجل ذلك، يتحوّل النقد عموما، والنقد الأدبي خصوصا وهو موضوع ملفنا اليوم، يتحوّل بدوره إلى عملية إبداعية، تقرأ دواخل النص الأدبي وتشرحه وتفكّ طلاسمه، وتعمل على تقييمه وتقويمه، وتبيان ما له وما عليه، ليكون للمبدع بوصلة، ونوتة مرجعية، وحجر ميزان.
ليس النقد عملية جامدة، أو كائنا ثقافيا يعيش متطفّلا على ما يصدر من إبداع.. النقد، في حدّ ذاته، عملية إبداعية، ترتقي بالذائقة الفنية، وبالفهم وبلوغ الغاية، والناقد الحقّ يمكّن المبدع من أن يكتشف في نصوصه عديد الزوايا التي حُجبت عنه.. ويمكّنه من الإبحار بأمان، لأنه البوصلة، وحَجَرُ الميزان.