السياسي المخضرم

فنيدس بن بلة
27 جويلية 2019

بالزغاريد والنشيد الوطني والدموع، ودّع التونسيون الرئيس باجي قايد السبسي، الذي رحل وهو يقاوم المرض بعد إدارة مرحلة انتقالية سياسية اعتبرت مضرب المثل للكثير من الدول العربية التي تعيش ارتدادات ما يعرف بـ «الفوضى الخلاقة «. رحل السبسي مودعا من قادة دول العالم وشخصيات حضرت تشييع جنازة من خدم تونس وهي تناضل من أجل الاستقلال وبعد البناء الوطني واضعا إياها فوق كل الحسابات.
وأجمع الحضور في كلمة تابينية على مكانة الراحل في الدفع بالمشروع الديمقراطي السلمي في تونس إلى الأمام، ودوره البارز في إحداث حركية تحتاجها البلاد للخروج بأسرع ما يمكن من أزمة سياسية جراء التناحر بين مختلف التشكيلات الحزبية والقوى الوطنية وممثلي المجتمع المدني وعدم التوصل إلى أرضية اتفاق حول دستور يؤمن الوطن من الانزلاق والانسداد المفتوح. في الكلمة التأبينية أظهر رؤساء دول ما تمتع به الرئيس الراحل من حكمة وبعد بصيرة في طرح الحلول الممكنة التي اتفقت حولها القوى الحية، مقدمة تضحية أخرى من أجل الوطن التواق للاستقرار والعودة إلى سابق عهده من الأمن دون السقوط في تجارب دول عربية لم تجنح إلى السلم والمصالحة مبقية على دوي المدافع وأصوات الصواريخ خيارا مفضلا.
عكس هذا التوجه انساق الفرقاء التونسيون وراء صوت الحكمة والعقل المردد من قبل السبسي، مدركين أنه البديل الممكن والمخرج الحتمي إلى بر الآمان. فاختاروا السياسة المسطرة من قبل الرئيس الراحل المنتخب ديمقراطيا، مقتنعين إلى حد الثمالة بأن نهجه هو الأسلم لبلد يخوض تجربة جديدة في البناء السياسي التعددي قوامها التداول على الحكم، والممارسة المبنية على احترام قاعدة الاختلاف والتباين في الرأي دفاعا عن الحريات المدنية خاصة حرية العقيدة، والمساواة وكرامة الإنسان تطبيقا لفلسفة منظري عصر التنوير الذين وضعوا أسس البناء السياسي الذي أوصل أوروبا ومن يدور في فلكها إلى أعلى قمة في التطور والنمو. وهي المقولة الشهيرة المرددة من فولتير أحد هؤلاء الفلاسفة الكبار:» أختلف معك في الرأي ولكنني على استعداد أن أموت دفاعاً عن رأيك».
على هذا الدرب سار السبسي متخذا من التجربة البورقيبية منهاجا سياسيا مكيفا إياها مع المرحلة الراهنة والتحول السلس مراهنا على المصالحة الوطنية، معلنا للملأ التزامه بفعل المستحيل لتجنيب البلاد أية مغامرة هي في غنى عنها، مؤكدا بلا توقف أنه رئيس كل التونسيين وحريص على إرساء مبدأ التعايش بين مختلف مكونات الأمة. فكان بحق رجل الإجماع والتوافق أدرك التونسيون في فترة وجيزة ما يمثله من ثقل في إدارة البلاد وتسيير شؤون الرعية معتمدا على تجارب، ممارسات ووظائف ومسؤوليات تقلدها طيلة مساره السياسي منذ الحقبة البورقيبية إلى غاية وفاته الخميس الماضي.
فقد تولى السبسي مناصب وزارية منها وزارات الخارجية، الداخلية والدفاع، قبل أن ينضم إلى حركة الديمقراطيين الاشتراكيين الليبيرالية في 1978 مطالبا بالانفتاح السياسي والإصلاحات، معتبرا إياها أكثر من ضرورة لتونس كانت أسيرة حكم انفرادي لا يقبل بتقاسم السلطة ولا يسمح للرأي النقيض بالبروز على السطح. فكان السبسي من خلال هذا الطرح المستمد من رؤية استشرافية استباقية، سابق زمانه في المعركة التي خاضها سلميا ونجح فيها كاسبا الرهان، تاركا لمن سيخلفه أرضية صلبة لمواصلة المسار السياسي الآمن لتونس.   

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024