كانت أمّي تجد صعوبة كبيرة في استحمامي عكس إخوتي، فهي تستغرق معي وقتا لو اقتطعته في غسل أبناء الحارة لأكفتهم جميعا، ويبقى الوقت المستقطع كله لي، فكثيرا ما كنت أجد راحتي وشقوتي في اللهو الصبياني الطفولي بين مياه تلك الانية التي أتمرّغ وسطها كسمكة تطاردها صنارة صياد ماهر تتربّص بها بين الفينية والأخرى، كذلك كانت والدتي تداعب جسدي النحيف تارة بصفعات على منكبي وأخرى في مقدمة الكتف، وحيثما كان ميلي جهة كانت الصفعة تزورني، لست مخيّرا لأنّني الطفل المهووس بشقاوة اللعب في حضور «ست الكل» لكنها معي تتنهّد بصعوبة كبيرة.
أتذكّر أنّ «القصعة النّحاسية» اشترتها أمي من عند بائع متجوّل من التيطري، فكثيرا ما كانت سيارات قديمة تحمل لوحات الترقيم المدينة تتجوّل بين الأزقة والشوارع وينادي أصحابها بصوت يشبه كثيرا لحن الباعة المتجولين في الساعات الاولى من الصباح، ومنهم من يجر دراجة هوائية ويتجول بين الأزقة مناديا قصاعي
نحااااس...قصاعي...قصاعي....قصاااااا...عييييييي.....
فتهرول النسوة لاختيار ما يروقهن من الموانئ الحديدية والبلاستيكية تستعملنها للغسيل وللاستحمام أيضا...لذلك كنت أنا من اختار حجم تلك القصعة النحاسية لأنها تسع جسدي النحيف طولا وعرضا، ويمكنني ممارسة طقوسي داخلها في العديد من المرات تضع أمي حدا لطيشي ولهوي بالمياه الساخنة كأن تضع على رأسي غسيل «الدوب» ثم تدلكه دون تحذيري من أغماض عيناي، فتتسلل بعض من رغوتها على أهدابي وأبدأ في الصراخ حتى يسمعني الجيران وأمي خلفي بضربات متتالية لا تتوقف،
تطل ابنة جارتنا وغيرهن من بنات العشرة الطيبة، منهن من تتشفى وفيهن بدافع التنكيت ومنهم بدافع دغدغة المشاعر الفارغة كما يقال..عند سماعهن لصيحاتي فيعلمن أن الأمر يتعلق بي يتسمرن في أمكنتهن على الحائط الذي يفصل البيوت القديمة فيما بينها، وينسجن حكايات الحديث مع أختي وهن في ذلك ينتظرنني كي أنتهي من غسلة أمي ليمررن تعاليقهن عليّ وأنا في استحياء إليهن ابتغي تلك النظرات.
وصفعة متأخرة تأتي تقول لي أمّي «شوف قدامك»، وهي تقصد بقايا العنزة وبنتاها في حوش البيت لأنهض في الصباح على صيحات راعي المدينة، فنغادر جميعنا البيت إلى المدرسة والعنزة إلى المرعى.
أعراجيات
«في حضـــرة أمـي» - 2 -
نــورالديـن لعراجـي
04
جوان
2017
شوهد:580 مرة