الزّيوت الطّـبيعيّـة والمزارع البيداغوجيّـة

«دار الياسمين» شاهدة على أمجاد الجزائر

محمد فرڤاني

لم تكن الصّعوبات والعراقيل البيروقراطية التي كثيراً ما واجهها الشاب جمال شايب عائقا أمام طموحه بوضع بصمته في الفلاحة الجزائرية، هو ينشط في مجال الزّيوت الأساسية والنّباتية، ويحاول جاهداً المساهمة في إعادة مجد الجزائر الضّائع في إحدى أهم الشّعب الفلاحية، فكان أوّل تحدٍّ له إنشاء مزرعة بيداغوجية، هدفها تكوين النّشء وإكسابهم الاهتمام بالفلاحة وتغيير نظرة المجتمع لها، وفي نفس الوقت توعية الفلاحين بقيمة الزّيوت الطّبيعية ومكانتها في الأسواق الدولية واقتصادات الدول.
أنشأ جمال شايب مزرعته البيداغوجية، بزرالدة، غرب العاصمة، وقد تحدّث لـ «الشعب الاقتصادي»، عن حيثيات إنشائها التي تعود لأربع سنوات خلت، حيث استلهم فكرته من إحدى الدّول الأوروبية، بعد أن زار إحدى المزارع البيداغوجية بفرنسا رفقة عائلته، ما خلق لديه اهتمام بالغ بنموذجها البسيط الذي يمكن تجسيده في الجزائر، وهو ما حدث عقب عودته إلى البلد.
ساعدته خبرته في الفلاحة والزّراعة البيولوجية والعضوية، فعمل على تطوير مزرعته لتقديم دورات تكوينية ميدانية للشّباب المهتم بإنتاج الزّيوت الطّبيعية والنّباتية، والتّحسيس بأهمية هذه الشّعبة الفلاحية وفاعليتها الاقتصادية في تحقيق أرباح مهمّة.
حلم المزرعة البيداغوجية يكبر
بدأت علاقة جمال شايب بالأرض منذ سنوات عدّة، فقد خضع للتّكوين في مجال تخصّصه بالعديد من المعاهد الدولية، ثم اشتغل في كراء الأراضي الفلاحية واستغلالها لإنتاج النّباتات الطبية، والخضر والفواكه العضوية الخالية من المواد الكيماوية أو الأسمدة، وعقب إصدار القانون الذي يسمح بإبرام عقود الشّراكة بين الفلاحين أو أصحاب الأراضي الفلاحية مع أصحاب رؤوس الأموال، تمكّن من إبرام عقد شراكة مع خمسة فلاحين بزرالدة وفق قاعدة 99 مقابل 1 بالمئة.
وبحلول العام الرّابع من تأسيس المشروع الذي أنشئ لأهداف بيداغوجية تربوية، تطوّرت المزرعة لتصبح فضاءً لتكوين المهندسين والفلاحين، وبهذا الخصوص يقول صاحبها: «في الأوّل افتتحنا المزرعة وشرعنا في استقبال الزوار للتّعريف بها، وتقديم توصيات وطرق إنتاج بعض المنتوجات الفلاحية، ومن ثم انتقلنا إلى تقديم دورات تكوينية».
وقد نظّمت المزرعة البيداغوجية حتى الآن أكثر من 40 دورة تكوينيّة في مختلف التّخصّصات الفلاحية القديمة والجديدة، كالزّراعة المستدامة التي تستخدم آخر التّقنيات الفلاحية على المستوى العالمي، والهادفة للحفاظ على صحة الانسان والطّبيعة، حيث تتمحور الفكرة فيها حول تخصيب التّربة طبيعيا، والابتعاد عن استعمال أي نوع من المواد الكيماوية ذات التّأثير السّلبي على المنتوج الفلاحي وصحة المستهلك.
وكوّن جمال شايب منشّطين مختصّين في تلقين الأطفال ثقافة فلاحية سليمة، تهدف إلى تغيير الذّهنيات لدى المجتمع، من خلال تنشئة جيل جديد يفتخر بانتسابه إلى مجال الفلاحة، باعتبارها من أهم مصادر الثّروة، فالدّول التي تشهد ازدهارا اقتصاديا لطالما ربطت نجاحها بالأرض.
ويؤكّد صاحب المزرعة أنّ اهتمام النّشء بالفلاحة لا يجب أن يتحوّل إلى مصدر استنزاف للعلوم الأخرى، بل يكفي أن ننتج مجتمعاً يقدّر القيمة الحقيقية للزّراعة، ومستهلكا واعيا يساهم في رفع سقف الجودة من خلال تمييزه للمواد ذات القيمة الصحية والغذائية العالية.
مزرعة النّـبات والزّيوت
تعتمد المزرعة البيداغوجية، في شقّها المتعلّق بالزّيوت النّباتية على مساحات مغروسة مخصّصة للصّناعة التّحويلية، ولعلّ أهم جزء فيها ذلك الذي تبلغ مساحته 2 هكتار، والمخصّص لبساتين أشجار البرتقال المرّ «الرّنج»، الموجودة في بلدية الشفة بولاية البليدة، والبرتقال المرّ هو فاكهة كانت تستغل قديماً في صناعة مادة «ماء الزهر»، الذي يختلف عن ماء الزهر الحالي الاصطناعي، بحيث تقطف أزهار هذه الفاكهة، يدوياً، ثم تجمع وتحوّل إلى المزرعة حيث يتم استغلالها في إنتاج مركّز ماء الزهر.
وفي هذا الصّدد، يؤكّد صاحب المزرعة البيداغوجية، أنّ غرس هذه الثّمار تراجع، في الوقت الذي نحتاج فيه لكميات أكبر من المواد الفلاحية الأولية لزيادة إنتاج الزّيوت الأساسية والنّباتية، إذ يقول: «دائما ما أوسّع مساحة المغروسات من هذه الأشجار، لكن يبقى هذا قليل مقارنة مع الكمية التي تتطلّبها آلات استخراج الزّيوت النّباتية، نحن نسجّل سنوياً فائضاً في إنتاج البرتقال العادي، وآمل أن نصل إلى نفس المستوى في إنتاج البرتقال المرّ لما له من فوائد متعدّدة في الصّناعة التّحويلية».
إنتاج وفير وقيمة عالية
تنتج المزرعة البيداغوجية بزرالدة 50 نوعاً من الزّيوت الطّبيعية، بين زيوت أساسية ونباتية، والفرق بينهما يكمن في طريقة تشكيل الزّيوت الأساسية التي تكون عن طريق البخار من المنتوج الأولي المقطّر، والزيوت النباتية تتشكّل من عصارة الحبوب مثل السمسم والسانوج..، وهنا تُعتمد تقنية الضّغط البارد حتى لا تفقد المادة الأولية أي قيمة من خصائصها، وتتصدّر العشبة الليمونية، الزّيوت الأكثر طلباً، وهي زيت مركّزة تستخدم في العطور والعصائر، وكذلك نبتة العطرشة «الجيرانيوم» الموجّهة لصناعة العطور، ومن بين أشهر مبيعات المزرعة أيضا ماء الزهر والزّيوت الأساسية للبرتقال المرّ «الرّنج»، إذ يستخلص منه الكثير من المواد في مقدّمتها زيت الورد، وهو من الزّيوت باهظة الثمن، والزّيت العطري للحبوب الصّغيرة، والذي يستعمل كثيرا في إنتاج العطور ومواد التجميل، والزّيت الأساسي لقشور البرتقال المرّ وتستعمل في مختلف أنواع العصائر المركّزة، إضافة إلى ماء الزهر التّقليدي الخالي من أي مكوّنات اصطناعية.
دورة الإنتاج
تشرح لنا المكلّفة بتسيير الماكنات المختصّة في استخراج الزّيوت، صورية عيساني، دورة الإنتاج بالمزرعة البيداغوجية، والتي تبدأ باستلام المادة الخام «كالأزهار، الأعشاب، فاكهة البرتقال المرّ ونواة المشمش..» القادمة من المساحات المغروسة التابعة للمزرعة أو من عند الخواص والمصانع، وكل نوع يتطلّب ظروفاً مناسبة قبل الشّروع في مراحل استخراج الزيت منها، فبعضها يجفّف والآخر يستعمل رطباً، ثم تحوّل للماكنة التي تعمل بنظام دوران لولبي ينتج عصارة مختلطة بالماء المقطّر والزيت، هذا الأخير يطفو بعد فترة على السّطح ويستغل كزيت أساسي، أمّا الماء المتبقي فهو ما نسمّيه «ماء الزهر وماء الورد».
وتحتاج عملية إنتاج الزّيوت الأساسية إلى كميات كبيرة من المادة الأولية، فلاستخلاص 1.6 لتر من الزيت الليمونية على سبيل المثال، يستوجب عصر 600 كلغ من «اللويزة» الليمونية في مدة ساعتين ونصف، في حين تستخدم فضلات المادة الأوليّة كأسمدة طبيعية مغذية للتّربة.
وتوجد بمخبر المزرعة خمس آلات، كل واحدة منها متخصّصة في نوع من الزّيوت، مثل زيت بذور التين الشوكي والزّيوت المستخلصة من نواة الفواكه والمكسرات، وبفضل التقنية المستعملة في استخلاص الزيوت عن طريق ماكنة الضّغط البارد تحافظ هذه الأخيرة على مكوّناتها وقيمتها الطّبيعية، ويتطلّب العمل بالمخبر الصّبر، التركيز والمراقبة الدّورية، إذ تستغرق عملية إنتاج 1 لتر من الزّيوت الطّبيعية بتقنية الضّغط والتقطير يوماً كاملاً.
تاريخ عريق
يقول جمال شايب إنّ الكثير من دول الجوار التي تنتج هذه الزّيوت الطّبيعية، سبقت مزرعته بحوالي 30 سنة، إلاّ أنّه وبعد ولوج السّوق الدّولية صارت نبتة «العطرشة الجزائرية» الاختيار الأول لكل شركات العطور في المنطقة.
وبما أنّ الجانب التاريخي مهم في عالم الزّيوت والعطور، أصبح من الضّروري البحث عن القطّارات القديمة المتوارثة منذ عشرات السّنين، لإظهار الجانب التّاريخي للمنتوج الجزائري، وعرضه بالأسواق العالمية والمعارض التي تهتم بقصّة كل نوع من الزّيوت.
ويوضّح شايب بأنّه رغم المنافسة الشّديدة في السّوق الدولية وفقدان الجزائر لمكانتها لصالح عديد دول الجوار، تبقى الأسبقية لها بفضل موروثها التاريخي، فقد صنّفت الجزائر ثالث أكبر منتج عالمي للزّيوت الأساسية قبل سنوات السّبعينات، لكن الواقع الأليم يشير إلى تقهقرنا في سلم الإنتاج والتّصدير، وتحوّلنا من دولة رائدة في التّصدير إلى دولة مستوردة بملايين الدولارات.
وأشار محدّثنا إلى أنّ الجزائر تسير في الطّريق الصّحيح في السّوق المحلية، وذلك بعد تكليف مختصّين في التّسويق للتّواصل مع النّاشطين في مجال إنتاج العطور ومواد التّجميل، لمنحهم زيوتا طبيعية لتجريبها بعد أن كانوا يقتصرون على استعمال الزّيوت الاصطناعية في منتوجاتهم.
زيوتنا عالمية
السّوق العالمية تستلزم الشّهادات الدّولية، التي تكلّف أموالا ووقتا لتحصيلها، ورغم هذا فقد تحصّلت منتوجات المزرعة البيداغوجية على شهادة «AB» للزّراعة العضوية الأوروبية، إضافة إلى شهادة أخرى من طرف المخبر
،»USTA» الأمريكي
في انتظار الشّهادة اليابانية، التي حلّ معتمدوها لمعاينة المنتوج النّهائي بالمزرعة، فمن خلالها ستتمكّن من التّعامل مع كل بلدان العالم، باعتبار الشّهادة اليابانية تملك مصداقية عالية. وهنا يوضّح صاحب المزرعة أنّ الجانب التّاريخي يعتبر من أهم عوامل التّسويق، والشّهادات التي تمنح للمنتوج تتعلّق بجودته وملاءمته، أمّا التّحاليل التي تجرى في الخارج  فتكلّف أموالا ووقتا، وحتى الآن زيوت المزرعة تُصدّر لعديد الدول كإسبانيا، أمريكا وفرنسا..
«دار الياسمين» معروفة في أوروبا مجهولة في الجزائر
بالشفّة ولاية البليدة، يوجد معمل للتّقطير يسمى بدار الياسمين، هو مختص في إنتاج الياسمين وزيت «نيرولي» المستخلص من زهرة البرتقال المرّ، كان يضم مساحة شاسعة من أشجار «الرّنج»، وما تبقّى منها اليوم تنتج لصالح المزرعة البيداغوجية لصاحبها جمال شايب، الذي يسرد علينا قصّة الاستثمار فيها وما رافقها من صعوبات وأقدار ساقته للدّار اللّغز دون أن يشعر. يقول جمال «أثناء مكوثي بمدينة «كراس» «Grasse» بالشمال الغربي بفرنسا، التقيتُ بأناس هناك يعرفون دار الياسمين وكل معامل التّقطير بالجزائر، وسمعتُ الكثير عن تلك الدّار لكن لم أجد لها أثرا بالجزائر»، وبينما كان جمال في تونس بدورة تكوينية في الاختصاص، عُرضت عليه صور لدار الياسمين الجزائرية، وبعد الاستفسار عن عنوانها قيل له إنّها في مدينة الشفة بولاية البليدة، وهي ملك لأحد الخواص، وبعد عودته إلى الجزائر بحث عنها لمدة أسبوعين دون جدوى، سائلا في البداية عن مصنع ينتج الياسمين، ليغيّر سؤاله عن مصنع قديم للعطور، فوجد إثره دار الياسمين مهملة لصاحبها المغترب في فرنسا، يضيف جمال «تواصلتُ مع ابن أخ صاحب الدّار وسألتُ عن فرصة للبيع، فرفض في البداية ثم كبرت أطماعه بعدها».
 الحراك ينقذ دار الياسمين
في الوقت الذي وصل فيه جمال شايب لدار الياسمين بداية سنة 2019، كان بعض الأجانب وبالضّبط من فرنسا يحاولون الاستثمار بها عارضين شراءها بمبالغ خيالية، وهو ما فتح باب مزايدة لم يكن بمقدور صاحبنا الفوز بها، لولا انسحاب الأجانب من الصّفقة عقب انطلاق الحراك بالجزائر، والضّبابية التي ميّزت المشهد السياسي بعده، ما زاد من مخاوف الأجانب الذين يشترطون الاستقرار كمؤشّر أساسي للاستثمار في أي بلد، فاستغلّ شايب الفرصة لشراء المعمل المهمل سابقا، والذي أصبح له قيمة عند صاحبه بعد أن أدرك أهمية مشروع جمال شايب، فتعاظمت أطماع المالك الأصلي لمعمل التّقطير، غير أنّها سرعان ما تلاشت، وعادت في النّهاية دار الياسمين إلى أيادٍ آمنة، تروم إعادة مجدها وإحياء ثقافة إنتاج الزّيوت النّباتية الموجّهة للصّناعة التّحويلية.
طلبة وفلاّحون بدار الياسمين
بعد إعادة إحياء دار الياسمين «معمل التقطير» بالشفّة، صارت مقصدا لطلبة المعاهد الفلاحية والجامعات من مختلف مناطق الوطن، وأبرمت عقودا مع إدارة المعمل لتكوين طلبتها، باستثناء جامعة البليدة حسب صاحب الدّار، فبالرغم من كونها أقرب جامعة لها، إلاّ أنها تتماطل لاستغلال فرصة تكوين طلبتها، وهو ما يعكس نقص الوعي حتى الآن بقيمة هذه الشّعبة الفلاحية في النّهوض بالفلاحة والاقتصاد الوطني بشكل عام.
ويذهب محدّثنا بعيدا عندما يعترف بأنّ هناك زيوت نباتية ونباتات تمّ زرعها واستخراج زيتها لتصديره، في حين في الجزائر تصنّفها على أنّها نباتات جدّ مضرّة، استنادا لمعلومات لا أساس لها من الصّحة.
خزامى جزائرية وعطر فرنسي
في السّنوات الأولى للاحتلال الفرنسي للجزائر، اكتشف المستعمر 40 مِقطرة بالعاصمة وضواحيها فقط، فاستلهم منها طرقا حديثة في إنتاج الزّيوت العضوية الموثّقة في مخطوطات متوارثة لدى الجزائريّين، واستغلّت مدينة «سبدو» بولاية تلمسان كواحدة من بين المناطق الأكثر إنتاجا لنبتة الخزامى»lavender»، التي ساهمت في تعزيز إنتاج العطر الفرنسي الفاخر، وظلّ مستعمر الأمس إلى اليوم ينتفع من زراعة أحد الأنواع النّادرة لنبتة الخزامى الجزائرية الأصل، والذي أهّلها لتكون من أكبر المنتجين في العالم.
(المصدر: مجلة الشعب الاقتصادي/ عدد افريل ماي 2021 )

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024