الشّيخ المهدي البوعبدلي...

مفتي بلا منازع باحث ومؤرّخ كبير

بقلم الأستاذ حمداوي / باحث في التاريخ

تعلّم مبادئ الفقة والفلسفة بجامعة الزيتونة رفقة الشّيخ حمـــــــاني
 هو الإمام المفتي ابن الشيخ بو عبد اللّـه المنحدر من أسرة عبد اللّـه المغوفل بالشلف، وله أحفاد واصلوا الجهاد مع الأمير عبد القادر، ناصروه طوال سنوات.
ولد عام 1907 وقد تربّى ونشأ في وسط الجو العلمي والفكر والأدب، درس في مسقط رأسه وتتلمذ على أبيه مدة من الزمن، ثم شدّ الرّحال إلى مزونة الشّهيرة فتعلّم فيها مبادئ الفقه، وأخيرا إلى تونس الزيتونة خلال الثلاثينات.
كان من ضمن رفاقه الشيخ أحمد حماني رحمه اللّـه، والشيخ علي المغربي وآخرون كثيرون في الزيتونة.
كانت الدراسة فيها حيوية ونشيطة، وهناك تثقّف الشيخ المهدي، وطعم ثقافته بالدراسة الأدبية والفلسفة. لقد كان حقا داعية وطموحا يحمل في أعماقه ذاته مشروعا، يحب أن يراه مسجدا على الواقع، فكان في نظره المسجد هو اللّبنة الأولى لهذا المشروع، فسعى مع ثلة من المخلصين في تكوين الشباب والكبار في المسجد.
وعندما عاد الشيخ المهدي إلى الجزائر، تولّى منصب الإفتاء في مدينة بجاية ثم في مدينة الشلف، وبفضل تفقّهه في العلوم الشرعية تمكّن من جمع ثروة هائلة من المخطوطات والرسائل والدراسات من ضمن مكتبة «الباي القلى»، التي كانت في حوزة أحد العائلات هناك، وبعد اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954 التجأ إلى المغرب.
لكن بعد وفاة والده الشيخ أبو عبد اللّـه يوم 04 نوفمبر 1954 خلفه في رئاسة الزاوية والطريقة الشيخ عبد البر حتى وفاته عام 1977 بالمدينة المنورّة، فخلفه أخوه الشيخ المهدي (المتحدث عنه من منصبه)، واستمرّت الزاوية في أداء رسالتها الدينية والتربوية، حيث يتم تحفيظ القرآن الكريم في جناح خاص وتعليم العلوم العربية والشرعية في جناح آخر للطلبة المسافرين، الذين يتكفل بهم وبإطعامهم سكان القرية صباحا ومساءً، حسب العادة الموروثة منذ تأسيس الزاوية.
اهتمام خاص بالتّاريخ الجزائري
 الشيخ المهدي المفكر إسلامي وباحث ومؤرخ له اهتمام كبير بالتاريخ الجزائري، فاجتمعت له العلوم والمعارف ما أتاح له أن يكون مفتيا في عصره بلا منازع وكثر تلاميذه، وقد اعترفوا جميعا له بالجميل.
 ويمتاز الشيخ المهدي البوعبدلي من غيره من شيوخ الزاويا، وذلك بفضل دراسته الزيتونة ومرافقته ومصاحبته للحركة الطلابية هناك سنوات طويلة.
لقد قدم لنا الشيخ المهدي نظره عن الحياة الثقافية في المجتمع الجزائري في بداية الاحتلال، دراسة تاريخية قيّمة نشرها في مجلات مختلفة كالأصالة والثقافة وغيرها من مختلف أنماط، كما تفرّغ للبحث والدراسة والكتابة وتحقيق الكتب والمخطوطات.
تمّ احتضان الباحث من قبل الوزير المرحوم مليود قاسم نابت قاسم له، وظهور مجلتي «الأصالة والثقافة» التي كانت السبب والوسيلة لنشر المقالات والدراسات المختلفة والمختصة خلال عقدى السبعينات والثمانينات الفكرية الإسلامية عبر أرجاء الوطن، والتي ساعدت الباحثين على الكتابة والإبداع والإنتاج الفكري والعلمي والأدبي والمعرفي.
تعرّفنا على الشيخ المهدي عند دعوته من طرف مدير ثانوية ركايزي بحجوط، تعرّفنا عن نشاطاته الكثيرة والفكرية والعلمية، لقد حضر إلى الثانوية، توثّقت الصلة بينه وبين المدير السيد مقران رحمه اللّـه.
وكانت اهتمامات الشيخ المهدي في البداية على استئصال للهوية الوطنية لأبناء الوطن، وتخرّجت على يد هذا الشيخ كوكبة من حملة القرآن الكريم، والتي تشبّعت بالعلوم الدينية والشرعية في الفترة التي مكثت في الزاوية.
وتطرّق في محاضرته وانصب على تاريخ المنطقة، لقد درس واطّلع عليه، ولقد حكى لنا وتكرارا على كيفية جمع هذا التراث، وأنه كثيرا ما يضطر عندما يسافر إلى العاصمة يتجوّل في أحيائها العتيقة للبحث عن هذه المخطوطات وشراء ما يمكن شراؤه.
لقد تطرّق إلى تاريخ المنطقة، وكان كلامه يمتزج بالإيمان، يتابع ويلاحق أخبار الجنود، وكنا نستمع إلى قصصهم وكان يتفحص بعمق عسى أن يجد خبرا جديدا يثلج صدورنا ويفرح قلوبنا بنظر، ويتأمل ويتوقع ما كان يحققه جنودنا البواسيل في معارك نتيجة مع العدو الفرنسي.
كان يتكلم ويحكي ويروي مغامراتهم بأسلوب أخّاذ يمتاز بالإعجاب، وكنا نطأطئ رؤوسنا إجلالا للشيخ وتقديرا له، رأينا أن المواطن المخلص الوفي المؤمن بأن الوطن لا يصان إلا بالقوة والتعاون.
كان حديثه عن المعارك في متيجة، كان يقول لنا أن جنودنا يقاتلون ويثورون ويزلزلون الأرض تحت أقدام الغزاة، وعند خروجه دنيت إليه وودّعته، فوقف يودّع الجميع رافع الرأس باسم الوجه.
قدّم الشيخ المهدي عددا من الرسائل والوثائق، ومجموعة أوراق لمخطوطات عديدة ما يزال البعض منها مركونا عند الأهل..منها:
 رسالة الشيخ عزيز بن الشيخ الحداد من «»كاليدونيا الجديدة» بالمحيط الهادي إلى أحد أقربائه في الجزائر بتاريخ جوان 1877 م، وقد تحصل عليها يوم أن كان مفتيا ببجاية، وأفادت هذه الرسالة الطويلة بعدد من الأشياء والأحداث التاريخية، ومنها عدد الجزائريين المنفيين إلى كاليدونيا الجديدة، وعدد الأوروبيين وبرنامج إطلاق سراهم من هناك وإعادتهم إلى أوطانهم،  
  رسائل كثيرة تتحدّث عن المناشير، كتابة عن سيرة الأمير عبد القادر وجهاده.
مهامه العلمية
من بين المهام التي تقلّدها والتي كلّف بها من قبل وزارة الشؤون الدينية هي الوظيفة في الوزارة مكلف بدائرة المعالم الأثرية.
 عضو في مكتب الوصي للدراسات التاريخية، وله بحوث كثيرة في مجال الدراسات التاريخية.
 الإمامة بمسجد الباشا جامع الترك بوهران وبمسجد العتيق ببجاية، وثم الإفتاء بمدينة الشلف مع تدريس الأئمة.
 كان رجل علم ودين وما أكثرهم بوطننا، تذهب كنوزهم بذهابهم الشيخ المهدي.
 عالم فصيح اللسان، صحيح الإدراك، مستقيم الفكر مهيب الطلعة، معترف له بالعلم والفضل، وكان عاشقا لعلم التاريخ، وأهدى للتي هي أقوى وأصلح وأنفع في كل الأحوال، فهو يضاف إلى عمالقة التاريخ، لقد ترك لنا ثروة علمية تاريخية لا تقدر بثمن، لقد تميز الشيخ بتواضعه وبأخلاقه الحميدة وبشهادة الجميع.
 توفي الشيخ المهدي رحمه اللّـه عام 1992م.
كانت هذه نبذة قصيرة عن حياة الشيخ المهدي رحمه اللّـه وأسكنه فسيح جنانه.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19450

العدد 19450

السبت 20 أفريل 2024