فيلكس مهاجر كاميروني يفتح قلبه لـ «لشعب» ويحكي قصة معاناة حقيقية

سفر لأشهر على الأقدام في صحراء افريقيا

ب.م الامين
أصبح شيئا معتادا رؤية مهاجرين سريين أفارقة ينتشرون هنا وهناك في كل أنحاء الجهة الغربية لا سيما مدينة مغنية ،عين تموشنت وهران ويحمل كل واحد منهم فوق كتفه أطنانا من القصص التي تختلط فيها المعاناة بالتحدي والصبر على طول الطريق صوب بلد عرف بين أوساط المهاجرين السريين الأفارقة أنه البوابة التي تفصل بين «جحيم» أفريقا «ونعيم» أوروبا.
إرتكن إلى جدار منزل تحت سقيفته وانتصب كعمود نور محاولا أن يتجمع ويجمع جميع أطرافه في جسده وادخل رأسه في كتفيه كطائر البجع بحثا عن دفء ينبعث من داخل البيوت...كان ذلك الإفريقي يحاول أن يتماسك ويقاوم ارتعاد أطرافه واصطكاك أسنانه تحت ملابس خفيفة في يوم بارد وتحت سماء ممطرة....بمجرد ما فتحت الباب حتى نطق بلغة لم أفهم منها سوى انه يطلب مساعدة وصدقة خاصة وأنه جسد طلبه بيده والشاهد من أصابعه.
«يبوح فيلكس شاب لم يتجاوز عمره٢٥ سنة بلغة فرنسية جيِّدة وصحيحة رغم اللكنة الافريقية، قبل أن يستطرد قائلا «أنا قادر على العمل ولكن من الصعب أن أجده رغم وفرته لأنني إفريقي بدون وثائق وأخاف أن يلقى علي القبض كما يخاف المشغل أن أتسبب له في مشاكل...».
يقوم عشرات الآلاف من الأفارقة المرشحين للهجرة السرية من مختلف البلدان الإفريقية الممزقة بين الحروب الأهلية والصراعات على السلطة والمجاعة والأمراض الفتاكة، منذ أكثر من عشر سنوات بقطع المسافات الطويلة التي لا تعادلها إلا هجرة الحيوانات المتتبعة لتغيرات المناخ، من آلاف الكيلومترات للاستقرار بالجزائر خاصة بمدنه القريبة من الشواطئ المطلة على البحر الأبيض المتوسط كعين تموشنت مغنية وهران في انتظار فرصة سانحة لعبوره نحو الفردوس المفقود، إسبانيا، ومنها إلى مختلف البلدان الأوروبية، وجد هؤلاء أنفسهم مضطرين إلى سلوك أي طريق وركوب أي وسيلة تمكنهم من العيش ومقاومة الحياة من تنفيذ أي عمل لربح بعض الدريهمات أو الاستجداء والتسول لضمان القوت اليومي وادخار بعض المال للحاجة...
مغنية، بوغرارة، عين تموشنت، وهران.. أسماء أمكنة لم تعد مرتبطة بالجزائر التي وضعتها الجغرافيا على عتبة «الجنة الأوروبية» بقدر ما صارت مرتبطة بالقارة الأفريقية بأكملها حيث لم يعد الجزائريون وحدهم الذين يحلمون بأوروبا ويضحون بحياتهم في سبيل تحقيق هذا الحلم، بل إن العشرات من الأفارقة القادمين من أعماق القارة الأفريقية التي مزقتها الحروب والصراعات الاثنية والمجاعات لعقود طويلة يقطعون آلاف الكيلومترات متنقلين عبر شاحنات وسيارات مختلفة أو سيرا على الأقدام من أجل الوصول إلى وهران أو عين تموشنت أو مغنية، تلك المدن الجزائرية التي أصبحت تعني شيئا واحدا بالنسبة للمهاجر الأفريقي إنها المحطة الأخيرة التي يمكنه أن يستريح بها بعد شهور طويلة قطع خلالها آلاف الكيلومترات وسط صحراء شمال أفريقيا الجرداء وشمسها الملتهبة حيث فقد العديد من أصدقائه في الطريق وصافح الموت أكثر من مرة مسترشدا ببوصلة الطبيعة وحاملا معه ذكريات مؤلمة عن قارة تدعى إفريقيا.
فيلكس مهاجر كاميروني لم يتجاوز سنه ٢٥ سنة التقينا به بعين تموشنت، هو من بين هؤلاء الشباب الذين طالما راودهم الحلم بالعيش الرغيد في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط فتح قلبه «للشعب» وأخد يروي قصة معاناة أشبه بالدراما الخيالية لكنها واقع مر أخد يستهوي الكثير من أمثاله ممن أرهقتهم الحروب والمجاعات في بلادهم .
كد وجد من أجل الحرقة
ويحكي فيلكس قائلا «طلبت تأشيرة الدخول إلى إسبانيا من سفارتها في الكوت ديفوار، لكنها أجابت على طلبي بالرفض، فقررت مع عشرين من رفاقي الالتحاق بليبيا ومنها نجتاز البحر صوب إيطاليا بمساعدات مافيا الهجرة السرية، إلا أنه بعد أسابيع من السير في صحراء ليبيا الشاسعة توفي عشرة من رفاقي بسبب الجوع والتعب، فدفناهم وسط رمال الصحراء فيما لفظ ثلاثة آخرون أنفاسهم الأخيرة بعد الوصول إلى طرابلس.
ويضيف المهاجر السري اشتغلت مدة شهرين في النيجر من أجل تدبير ما يكفي من المال لإكمال مشواري الطويل قبل أن تعتقلني السلطات مع مهاجرين آخرين بسبب عدم إمتلاكنا  لأوراق الإقامة مما اضطرنا إلى مواصلة السير مجددا بواسطة إحدى الشاحنات التي وجدناها صدفة على قارعة الطريق بعدما تعطل محركها لكن السائق الذي ساعدناه في إصلاح شاحنته واتفقنا معه على إيصالنا إلى الحدود لم يكن يعرف الطريق جيدا مثل باقي السائقين الذين يمتهنون هذا العمل بعد ارتفاع عدد الراغبين في الهجرة إلى أوروبا، وفي الطريق شاهدنا سيارة تحمل عددا كبيرا من جثث بعض المهاجرين السريين الذين قضوا نحبهم داخل إحدى الشاحنات. وبعد فترة من المسير تعطلت شاحنتنا فواصلنا المسير على الأقدام مدة عشرة أيام، وكدنا نموت من التعب قبل أن نصل إلى الحدود الجزائرية المغربية بعد شهور طويلة فقدنا خلالها أغلب أصدقائي الذين خرجوا معي من «الكوتديفوار».
دويلات صغيرة وسط أدغال مغنية وقانون القبيلة يحكمهم
وعن سؤالنا عن مكان إقامته الآن اخبرنا قائلا لا يمكنني البوح لكم بأي شيء وواصل كلامه قائلا كل ما يمكنني قوله لكم الآن هو أننا نعيش وسط منظر طبيعي خلاب، لوحة جذابة لصخور جرداء وأرض مكسوة بالأشجار يختفي مخيمنا الذي يضم بين أشجاره الشبيهة بأدغال سيراليون أو ساحل العاج جراح وأحلام القارة الأفريقية بأكملها.
لا تختلف الحياة داخل مخيمنا بمغنية عن تلك التي ترعرع فيها الأفارقة في بلدانهم الأصلية، إذ نعيش داخل المخيم حوالي ثماني عشائر تضم مالي والسنغال وغينيا والسودان (أقلية) والكونغو برازافيل والكونغو كينشاسا.
فمع توالي الأيام أدركنا أن المقام سيطول بنا فوق الأراضي الجزائرية لذلك نظمنا حياتنا وأنشئا «دولتنا» الصغيرة في الأحراش الجزائرية ولحل مشاكلنا الداخلية وصراعاتنا الاثنية التي رافقتنا أنشأنا مجلسا للحكماء يضم ممثلين عن كل عشيرة يجتمع كلما اقتضت الضرورة من أجل الفصل في جملة من الأمور وتحديد المسؤوليات وأحيانا إصدار الأحكام في حق المخالفين لقانون العشيرة والتي تكون في غالب الأحيان إرسال المهاجر السري إلى أعماق الغابة ليحتطب مدة يومين أو ثلاثة أيام أو تكليفه بالحراسة لمدة طويلة، كما يعين مجلس الحكماء طبيبا للعشيرة مكلفا بالإشراف على أحوال المرضى من المهاجرين السريين ويصف لهم بعض الوصفات التقليدية التي تعلمها في بلده، كما أنه يلجأ أحيانا إلى بتر بعض الأعضاء التي يصيبها التعفن ويستعصى علاجها .
زواج داخل المخيم
ورغم أن «مجتمع الغابة» ذكوري بامتياز إلا أن بعض أفراده يتزوج فطريا في حالة ارتباطه عاطفيا بإحدى الفتيات المهاجرات وأحيانا يرزق بأول أبناءه وهو ما زال داخل المخيم ينتظر الفرصة المواتية لعبور الحدود كما يوجد داخل المخيم إمام وراهب يشرفان على الأمور الدينية للمهاجرين المسلمين والمسيحيين الذين يعيشون جنبا إلى جنب داخله.
لقد صارت الجزائر مع اشتعال رؤوس الشباب الأفريقي بحمى الهجرة السرية ثمثل بوابة النعيم التي يجب الوقوف لشهور أمام عتبتها انتظارا لأن تفتح فيفر خلالها من استطاع من أبناء أفريقيا اليائسين، والمفارقة أن الأفريقي الذي كان يختطفه الأوروبيون في القرون الغابرة من وسط الأدغال لبيعه في أسوق النخاسة الأوروبية صار هو الذين يضحي بحياته الآن من أجل الالتحاق بأوروبا ليعيش عبودية جديدة بعدما رفع «السيد الأبيض» نفسه شعارات الحرية والمساواة وحقوق الإنسان.
 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024