انطباعات

الجزائر: لا عدوى من السودان

دكتور محيي الدين عميمور

نتابع في الجزائر ما يعيشه السودان من أحداث دموية يكاد يتأكد اليوم أن أسبابها الحقيقية كانت الانطلاقة المُعوجّة والمشبوهة لعملية إنهاء حكم الرئيس عمر البشير، والتي قامت بها مجموعة عسكرية تستنسخ تدريجيا الأسلوب الذي اتبعه الضباط الأحرار في مصر عام 1952، فتقوم بضغط التطورات التي عاشتها أرض الكنانة في أربع سنوات تقريبا ليتم إنجازها في نحونصف عام.
أمسك بمقاليد الأمور من كان مختفيا في الأيام الأولى وراء القيادات السودانية الأولى التي قامت بالانقلاب، وبحيث يبدوقائد اليوم صورة هزيلة مشوهة للرئيس محمد نجيب، وبرزت صورة أكثر تشوها للرئيس جمال عبد الناصر، بما يذكر بمثال السيف والعصا.
ولم تدرك الجماهير السودانية الثائرة في البداية السيناريوالحقيقي للعملية، ثم اكتشفت أنه يُراد لها أن تقوم بدور الممثلين الإضافيين، أوالكومبارس (FIGURANTS) في تمثيلية بدائية لا علاقة لها بالديمقراطية.
ثم راحت شريحة إيديولوجية معينة تستولي على الصفوف الأولى منتزعة، بتواطؤ واضح، صفة ممثل الشعب السوداني ،بعد أن تم إقصاء شرائح أساسية من النسيج البشري السوداني، والإسلامي على وجه التحديد، وهوما قبلته قيادات الجيش وتعاملت على أساسه لأنه ينسجم مع إرادتها في وراثة نظام البشير، بعد أن اطمأنت إلى دعم قوىً إقليمية، عربية وإفريقية، لم تكن بعيدة عمّا حدث، وستتمكن يوما بعد يوم من استيعابه وتطويعه ليظل الجيش السوداني كما يريد له البعض أن يكون، مجرد مجندين مرتزقة في خدمة مصالح لا تهم الشعب السوداني من قريب أومن بعيد، ويكون المستفيد الوحيد هوقياداته الانقلابية سياسيا وماليا.
ودخل الاتحاد الإفريقي، وربما لأسباب مالية وبمناورات أوربية، في عملية التواطؤ مع انقلاب عسكري واضح المعطيات، ليتأكد للمرة بعد الألف أن الديمقراطية هي آخر ما يفكر فيه أبناء المستعمر السابق وعناصرهم المندسة في كل مكان.
وكان لابد أن يحدث الصدام بين الجماهير وعناصر الأمن من «الجنجويد»، وهومصطلح سوداني مكون من مقطعين هما: «جن» بمعنى جني، و»جويد» ومعناها الجواد ومعنى الكلمة بالتالي هو: الرجل الذي يركب جوادا) وهي ترمز للرجال الذين يقاتلون من فوق الخيل ويحملون الـ جـ3 ، البندقية الآلية المعروفة) وأصبحت كلمة (جنجد) تعني النهب، حيث أنهم منذ سنوات عديدة يحترفون النهب المسلح بمنطقة دارفور، ويقولون (نمشي نجنجد) أي ننهب، ومنها أتت تسميتهم بالجنجويد.
وألاحظ أنني كنت أحذر من استعمال كلمة «العسكر» بمضمونها القدحيّ السائد، والذي يستسهل البعض استعمالها، كسلا فكرا أوهدفا سياسيا.
كانت أوربا قد قررت دعم الخرطوم، وغيرها، في إطار العمل الأوربي المحموم لوقف النزوح الإفريقي عبر المتوسط، ونسي الجميع وتناسى كثيرون التحذير الذي كان الرئيس الجزائري هواري بومدين قد وجهه في السبعينيات من خطر حدوث نزوح إفريقي رهيب نحوالشمال إذا تواصل استنزاف أوربا المجنون للثروات الإفريقية، وإذا استمرت الشركات الاحتكارية في تدمير كل عمليات التنمية الوطني بالتوجيهات المشبوهة وبإنعاش الفساد بين المسؤولين الأفارقة.
لكن الدعم الأوروبي الذي تم توجيهه لحكومة السودان وصل إلى قوات الجنجويد، التي غير البشير اسمها إلى قوات حرس الحدود لتمتد جرائمها ضد المدنيين في دارفور إلى جرائم مماثلة بحق اللاجئين والمهاجرين الذين كانوا يريدون عبور السودان إلى ليبيا ومنها إلى أوروبا.
ولم يتعامل الغرب مباشرة مع الجنجويد أوقوات الدعم السريع وإنما تعاون رسمياً مع الحكومة السودانية، والتي بدورها أمدت تلك الميليشيات بالمال والسلاح وقننت وضعها، وهوأيضاً ما أكد عليه سفير الاتِّحاد الأوروبي في الخرطوم وقتها والذي قال إن «الأموال وجهت للحكومة السودانية لدعم حماية الحدود قد تكون وصلت إلى  الجنجويد بشكل غير مباشر، خاصة أنها كانت تعمل في المنطقة الحدودية مع كل من ليبيا وتشاد.
 لكن الثمن كان فادحاً للغاية، وهوما يبدوأن الاتحاد الأوروبي لم يكترث له كثيراً لأن كل ما يهمه كان هاجس الهجرة، وتصرفت قياداته تصرف من يعالج ارتفاع درجة الحرارة بدون معالجة السبب الحقيقي وراءه، وهوفي الحالة الإفريقية نزيف المواد الأولية وتعثر التنمية وتغوّل الفساد.
غير أن ما أصبح اليوم يثير سخرية الجزائريين وهويتابعون ما يحدث، وخصوصا بعد أحداث الأبيض وأم درمان، هوالجهل المركب الذي يتعامل به العديد من الإعلاميين العرب مع ما تعرفه الجزائر منذ عدة شهور، والذي كنت اعترفت بأن السبب الأول وراءه هوالعجز الإعلامي الجزائري الذي لا ينحصر في تقصير المسؤولين عن الصحافة بل يمتد إلى شلل رجال الديبلوماسية الجزائرية الذين يعيشون حيث ترتفع أهم المنابر الإعلامية العربية والدولية، وكأنهم في عطلة بمرتب كامل.
وإذا كان من الطبيعي أن تمارس قنوات فرنسية بالنسبة لما يتعلق بالجزائر الكثير من عمليات ليّ ذراع الحقيقة أوتشويه بعض معطياتها، فإن مما يجب أن يسجل لها، بكل احترام، هي أنها تقوم بذلك طبقا لمخطط له أهدافه وتوجهاته وأساليب عمله، وهذا عكس ما نشاهده من الوسائل الإعلامية العربية التي تسير على المبدأ الخالد «هات من الآخر»، وتعتمد في تحليلاتها على عناصر بشرية لم تحاول التعرف على منطلقاتها «الجغرافية» (وأنا أعني ما أقوله) أوفوائدها «الدولارية».
وبكل أسف، يتحمل الوزر الأكبر في إشاعة الفاحشة الإعلامية عبر قنوات عربية كان لها قيمتها وقدرها لكنها أصبحت أقرب إلى قنوات الصرف الصحي العربية، عناصر إعلامية كان لها بريقها، كانت ضحية الثورات المضادة في وطننا العربي وتعرضت لنتائجها المأساوية، وكنتُ أحجمتُ دائما عن انتقاد ما تقوم به احتراما للآلاف من الضحايا الذي سقطوا منذ يناير 2011، ولآلاف مؤلفة تعاني في السجون والمعتقلات بكبرياء وشجاعة وبإيمان أحفاد من كان يقول ...أحدٌ أحد.
وواضح أنني أقصد هنا على وجه التحديد القنوات الإعلامية التي ترفع لواء التنديد بالثورة المضادة، والتي تمارس اليوم بتهريجها الإعلامي نفس ما جعل جموع شعبنا لا ترى فرقا كبيرا بين ما ترتكبه السلطة وما تمارسه المعارضة، حيث لا أحد يملك شجاعة الاعتراف بأنه أخطأ يوما في حساباته أوفي ممارساته.
ولقد قلت يوما لبعض هؤلاء بأنهم خسروا رصيدا هاما في الوطن العربي بمواقفهم الحاقدة ضد الرئيس عبد الناصر على وجه التحديد، وكان مما قلته أنه لا أحد يمكن أن يدعي بأن ناصر كان رمزا للأداء الديمقراطي، لكن قليلون فقط هم من ينكرون دوره الوطني وأداءه النزيه لمسؤولية الحكم.
وكنت أقول لهم ببساطة : من حقكم أن تدينوا مواقفه ضدكم ولكن مع استعراض مواقفكم ضده، لتخلصوا إلى القول: كان واحدا منا، اجتهد وأصاب واجتهد وأخطأ.
وكان يمكنكم بهذا أن تكسبوا إلى جانبكم آلافا مؤلفة ممن يحترمون الرئيس المصري الراحل عبر الوطن العربي، بل وفي العالم أجمع، لكنكم تحاملتم عليه فاستفاد منه خصومكم، ولم يكن مثال «حمدين صباحي» إلا مقدمة لأكثر من مثال تعرفونه جيدا.
وما ينطبق على ناصر ينطبق أيضا على مثال القوات المسلحة بشكل عام، بما في ذلك بلدان «الثورة المضادة»، وبحّ صوْتي وأنا أدعولتفادي الإدانة المطلقة للعسْكر، خصوصا في الحالات التي كانت الجيوش فيها طائرة مختطفة بفعل أجهزة المخابرات، وهي الوضعية السائدة، فليس من المنطق أن ندفع العسكريين من أبنائنا وإخواننا إلى وضعية العداء الشرس للمواطنين، لنعيش صورة لا تختلف عمّا قدمه يوما فيلم «البريء».
وكنت تناولت وضعية القوات المسلحة في الجزائر، وأوضحت أكثر من مرة بأن الجيش هنا يضم أبناء كل جهات الوطن، وبأنه جزء لا يتجزأ من عملية التنمية الوطنية، وبأن عملية اختطافه في بداية التسعينيات من مجموعة مخابراتية قد تم القضاء عليها بخروج آخر الضباط الذي كانوا فروا من الجيش الفرنسي، وأصبحت قيادته اليوم بشكل حصري مقصورة على المجاهدين وأبناءهم ومن كل جهات الوطن، مع التذكير بأن البلد لا يعرف شروخ السنة والشيعة والمسلمين والمسيحيين.
وهذه القيادة رفضت تماما كل محاولات جرّها لتنفيذ سيناريوالتسعينيات، عندما تولت مخابرات معينة أنذاك قيادة الجيش، مستعملة إياه كعصًا قمعية، ومختبئة وراء واجهة من الفرانكوش اللائكيين وأنصار النزعة البربرية (وفرق هائل بين هؤلاء والأمازيغ الأحرار الذين يعتزون بالانتماء الحضاري العربي الإسلامي).
وسنجد أن العناصر التي استفادت من الوضعية الانقلابية في 1992 هي اليوم التي تشن حملات هيستيرية ضد قيادة القوات المسلحة التي تمسكت بالتنفيذ الحرفي لمواد الدستور، ورفضت أن تقلد ما عرفته بلدان عربية كثير من بينها السودان مؤخرا.
وهنا نجد أن ما يقوم به أولئك المناضلون الطيبون في قنوات المشرق العربي، سواء أكانت تبث من لندن أوالدوحة أواسطنبول أوغيرها، لا يمكن إلا أن يعتبر جهلا مركبا، كما قال الحكيم توما، ولا أرى ما يمكن أن يقال غير ذلك وأنا أسمع مثقفا عربيا يتصور أنه يمارس النضال الفعلي وهويتضامن بحماس مع من يريدون التخلص من رجال الانتماء العربي الإسلامي في الجزائر ويريدون من الجيش إقامة نظام قمعي قد لا يقل سوءا عن النظام القمعي المجرم الذي يقوده من لم يخوضوا في حياتهم حربا واحدة، بعد أن راح الرجال الذي تألقوا برجولتهم يوما في مواجهة العدو.
ولقد قلت لبعض الرفاق أن المؤسسة العسكرية الجزائرية ليست نتاج «كامب دافيد» وليست من بقايا «سايكس بيكو»، وأن عقيدتها القتالية لم تتغير منذ 1954، وهوما أثبتته في 1967 وفي 1973، وجنودنا لم يواجهوا يوما عربيا على أرضه، ولم يتجاوزوا حدود حماية كل من استنجد بهم من ظلم ذوي القربى.
ولقد قلت وأكرر بأن مأساة التسعينيات التي كلفتنا نحوربع مليون ضحية وآلاف المليارات ما زالت أمام أعيننا صباح مساء، ولن نسمح بتكرارها مهما كان الثمن.
والواضح الآن أن مسيرات الجزائر أصبحت تقتصر عل بعض التجمعات الصاخبة في وسط العاصمة الجزائرية، حيث كاميرا التلفزة تنقل لقطاتها من الزاوية السفلية (en contre plongé) حتى لا تظهر إلا الصفوف المواجهة للكاميرا ويختفي عمق المسيرة الذي يعطي حقيقة حجمها، وتتضح خلفيات المطالبة المحمومة بعدم عرقلة المستورَدين يوم الجمعة على وجه التحديد إلى العاصمة من ولايات مجاورة.
وتتركز الهتافات بالطبع على شيطنة «قايد صالح»، بحيث يكاد السامع يظن أن أغلبية المتظاهرين هم أقارب وجيران من «تستضيفهم» الدولة في سجون الحراش وبوفاريك من قدماء المسؤولين وكبار المترفين.
ويتابع رجال الأمن المبعثرين هنا وهناك المارة بدون اهتمام ظاهر، وينصرف كل مواطن لشؤونه اليومية وهوعلى يقين من أن الحراك قام بواجبه، وبأن ما بقي إنجازه هوالانتخابات الرئاسية.
ومن هنا، وعلى ضوء التصريحات والتصريحات المضادة والاستقالات والعودة عن الاستقالة، ينادي كثيرين رئيس الدولة بتكليف المجلس الأعلى للقضاء بعملية تنظيم الانتخابات الرئاسية بدون تدخل من إدارات الدولة التي يشكك كثيرون في نزاهتها، وللمجلس أن يستعين بمن يريد، عسكريا كان أم مدنيا..
ويبقى على المواطنين مراقبة كل ما يحدث على مستوى لجان الأحياء، التي يجب أن تراقب كل شيئ يوم إجراء الانتخابات بشكل يمكن تنظيمه بالتنسيق مع البلديات الـ 1541.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19432

العدد 19432

الأربعاء 27 مارس 2024
العدد 19431

العدد 19431

الثلاثاء 26 مارس 2024
العدد 19430

العدد 19430

الإثنين 25 مارس 2024
العدد 19429

العدد 19429

الأحد 24 مارس 2024