تصحيح مفاهيم ومغالطة آيديولوجية

اللغة ليست مجرد أداة تواصل وتبليغ

بقلم: نبيل كحلوش باحث في الدراسات الإستراتيجية وبناء السلم.

 مضمون فكري ووعاء حضاري



شاع في الوسط الاجتماعي والسياسي والإيديولوجي قول بعضهم أن اللغة ليست سوى أداة للتواصل وأنها محصورة فقط في وظيفتي «الإرسال والاستقبال». ولا يخفى على الفكر المنطقي أن هذا الطرح يعني بالضرورة العقلية إقصاء للبعد الفكري للغة ، بكل ما يحمله هذا الفكر من ميراث وبكل ما يحتويه هذا الميراث من عناصر معنوية، وحصره بطريقة اختزالية في مجرد ذبذبات صوتية تُرسَل وتُستَقبَل، فتصبح حينها اللغة إذن مجرد أداة للتعبير البيولوجي مثلها مثل طريقة التواصل الحيواني حيث أن أفقها محدود بالحتمية البيولوجية لا بالإبداع العقلي الحر.
يقول الفيلسوف «جورج غوسدورف» في كتابه (الكلمة): «تضطلعُ اللغة في جوهرها بوظيفة تمتين عُرى التواصل وتعزيز العلاقات بين الأفراد في سعيها إلى الاستمرارية والتطور» ، في إشارة منه إلى الوظيفة الاجتماعية للغة في تعزيز الروابط الانسانية بحيث تتجاوز مجرد التبليغ والاستقبال. فبغضّ النظر إذن عن التبرير الإيديولوجي الخفي الذي تستعمله بعض الدوائر المُؤَدلَجة التي تريد  غصبا عن العِلم  فرض هذه المغالطة أحادية الرؤية، فإن السؤال هو كيف يمكن تصحيح هذه المفاهيم وتأسيس طرح مفاده أن اللغة أكثر منها مجرد أداة للتواصل فإنها متعددة الأبعاد وليست أحادية، فهي أداة للحفظ الثقافي والإبداع العقلي والتأثير الاجتماعي والتطوير الفكري وأن لها وظائف أخرى أكثر من مجرد التواصل البيولوجي المحدود؟

اللغة الإنسانية ليست مجرد أداة مثل رموز

في البداية ننطلق من محاولة تحديد معنى اللغة في حد ذاتها ثم نعرف حينها إذا كانت وظيفتها منحصرة في أن تكون مجرد أداة  للتواصل أم تتعداها إلى كونها أداة إبداعية. فيعرفها «أندري لالاند» وكذلك «إدوارد سابير» بالقول: «إن اللغة هي كل نسق من الإشارات والرموز يصلح لأن يكون أداة للتواصل»، ولكن هنا سيتساوى الحيوان والإنسان في تعريف واحد لأن كلاهما يتواصلان بنسق معين من الإشارات والرموز.. فأضاف الفيلسوف الجزائري «محمود يعقوبي» إلى هذا التعريف جملة أخرى وهي مع القصد إلى إنشاء تلك الرموز وتوظيفها. فالقصد والإنشاء هنا عملية عقلية حرة تتميز بالإرادة والإبداع، مما يجعل اللغة حينها خاصية إنسانية.
يقول اللغوي «إيميل بنفنيست»: « إن الإنسان يبدع الرموز ويفهم معانيها خلافا للحيوان»، ومنه فلو كانت اللغة مجرد أداة للتواصل فحتى الحيوان له أدوات للتواصل، فكيف نفسر قدرة الإنسان على إبداع الرموز والمعاني والمصطلحات والمفاهيم وتغييرها باستمرار لو كانت هذه الأداة موجودة فقط للغاية التواصلية؟!  فضلا أننا لو كنا محصورين فقط في هذه الغاية لوُجِدَت إذن لغة  واحدة مشتركة بين البشرية وليس لغات متعددة ما دامت الوظيفة الأصلية للغة هي فقط التواصل بإرسال واستقبال الإشارات التي تبلّغ الحاجيات الطبيعية للإنسان! فإذا كان مثلا اختلاف أصوات ورموز الحيوانات في طريقة تواصلها يختلف من نوع إلى نوع بسبب اختلاف خلقتها، فلا يوجد أي تبرير لذلك بالنسبة للإنسان لأن الكل لديهم نفس الحبال الصوتية والمجاري التنفسية والأجهزة العصبية.
وأيضا كحجّة أخرى، فإن التواصل عند الحيوان لا يستهدف استجابة لغوية بل استثارة سلوك لاستجابة بيولوجية لا يحمل دلالة لغوية على الإطلاق. فلا توجد محادثة حرة بين الحيوانات مثلما هو الحال بين الإنسان وإنسان آخر أو حتى بين الإنسان ونفسه، بل استجابة لتنبيهات وحاجيات معينة فقط.فهل يعلم إذن دعاة أطروحة أن «اللغة أداة للتواصل فقط» ، أنهم يتناقضون علميا مع جوهرها؟

أبعاد متعددة للغة تتجاوز وظيفة التواصلية

يقول «جورج بيركلي» في كتابه «مبدأ المعرفة الإنسانية»: « إن تبادل الأفكار عن طريق الكلمات ليس الغاية الأساسية ولا الوحيدة للغة مثلما هو مشاع. بل هناك غايات أخرى مثل إثارة هوى والدفع إلى عمل معين أو منعه، أو خلق استعداد ذهني معين».
تعتبر اللغة متصلة اتصالا وثيقا بالفكر بغضّ النظر هنا عن الجدلية الفلسفية للغة والفكر بين الأحاديين والثنائيين، وإن الفكر متصل بكل من الروح،  والمجتمع ، والتاريخ ، والشخصية ، وعليه فإن الكلمة يمكنها أن تحمل كل تلك الدلالات الثقافية والتاريخية والروحية والاجتماعية التي يستهدفها المتكلم ثم يحدث بها تأثيرا على محيطه. ولنقِس ذلك على المستوى الأكبر في خطابات الدول والشعوب والمؤثرين على الشؤون العامة، كيف يمكن تفسير كل ذلك التأثير سواء بالسلب أو الإيجاب، لو كانت وظيفة اللغة محصورة في (التواصل) فقط تماما مثل الحيوان؟
يقول الفيلسوف «دو لاكروا»: «حينما تغيب الكلمة عن أذهاننا، كل شيء سيضطرب»، وهذا يشير إشارة صريحة إلى الدور الفعال للرصيد اللغوي والأدبي في تنظيم وترتيب الأفكار ومساعدة ذلك في عملية التعلُّم، وهنا من هذه الزاوية أيضا يمكن فهم سبب تركيز بعض النخب الحاكمة أو المتوغلة في منظومات التعليم على إفساد وتحطيم منهج تعليمية اللغة منذ الصغر حيث يعلمون جيدا مدى تأثير ذلك على الفكر وجعله في فوضى مفاهيمية شديدة.
ومن جهة أخرى أيضا، فإنه لا يمكن معالجة قضايا علمية وفلسفية واجتماعية وثقافية ثم تفهيمها ونقدها وتعليمها دون وجود لغة غنية وقوية قادرة على استيعاب كل تلك المفاهيم والأفكار المرتبطة بها، إذ لا يمكن مثلا للهجة محلية فقيرة لغويا لا تحتوي على أبسط المصطلحات الفكرية والعلمية أن تعالج وتحلل مسائلا عميقة ودقيقة سواء إنسانية أو طبيعية دون أن تحتاج لاستعمال لغة أغنى وأوسع، وهذا مما سيؤثر على عملية التعلم سلبيا فضلا على فتح باب كبير لسوء الظن والجدال السلبي بسبب سوء الفهم الذي ارتبط بسوء التبليغ والذي بُني على رداءة اللغة والتي تكرست بسبب استبعاد وظائفها المافوق تواصلية. وهنا تظهر النتيجة الخطيرة جدا لذلك الطرح السطحي والمُميَّع لجملة «اللغة مجرد أداة للتواصل».. فهل يدرك بعض الحاملين لهذا الطرح ضعفه ورداءته المتماشية مع خطورته على المستوى الثقافي والتعليمي أيضا؟
بل ذهب البعض قديما إلى ما هو أبعد من ذلك واعتبروا أن هناك لغات معينة هي فقط الكفيلة بمعالجة بعض المسائل الفلسفية، ونأخذ جملة الفيلسوف الألماني «مارتن هايدغر» حينما قال: «إنّ الفرنسي حينما يفكر فإنه يتكلم باللغة الألمانية»، وهذا كإشارة إلى أن المعاني والمفاهيم الكبيرة التي أبدعها الفكر الألماني والتي لا تستطيع اللغة الفرنسية أن تستوعبها، يجعل الفرنسيين ينقلون تلك المفاهيم حرفيا لأنهم لا يجدون حقيقة ما يتوافق معها في لغتهم.
إذن فيمكن القول أن اللغة لها وظائف متعددة منها:
1- الوظيفة الاجتماعية: حيث تقوم بالربط بين الأفراد والمجموعات البشرية ليتمكنوا من التفاهم فيما بينهم ومبادلة مشاعرهم وأفكارهم والتأثير في بعضهم البعض.
2- الوظيفة الثقافية: حيث أن اللغة تعزز الميراث الثقافي، وبالأخص أن مجال الأدب سواء نثرا أو شِعرا يعزز البعد الفني ويرفع الذوق الجمالي للإنسان ويجعله يتعرف على أذواق الغير والاستفادة منها.
3- الوظيفة التاريخية: حيث أن تجارب الأمم الماضية تُحفظ عن طريق تدوينها، وأحسن طريقة تدوين هي اللغة لأن الرسومات قد تجد مشكلة في التأويل والتفسير بسبب محدوديتها في التعبير مقارنة بالتحرر الذي تتمتع بها الكتابة اللغوية، ولهذا فإن التاريخ بكل تجاربه ودروسه وعبره يُحفظ عن طريق اللغة وهي توصله إلى الأجيال المقبلة من أجل الاطلاع عن ماضي أسلافهم وأسلاف البشرية جمعاء، وهذا ما يفسر سبب تلاعب الكثير من النخب بمناهج تعليم اللغة في مدارسنا أو محاولة تدوين كل ذلك بلغة أحادية فقط ثم تجهيل الناس فيها، حيث أن ذلك سيؤدي إلى ضعف في الاطلاع على التاريخ والبحث فيه بمنهج علمي حقيقي، مما يجعلهم عرضة للتزويرات والتزييفات التاريخية.
في الأخير إذن، نقول بأن ما شاع بين بعض الأوساط السياسية والإيديولوجية من كون أن اللغة مجرد أداة ووسيلة للتواصل ليس سوى جهلا بجوهر اللغة أو تمهيدا لمواصلة التجهيل حتى تكون الطريق معبّدة للغة معينة حتى يجعلونها أداة حقيقية ليس للتواصل بل أداة لتحقيق وظائفها الثقافية والتاريخية والاجتماعية التي يرضونها هم. في حين أن علم اللسانيات وعلم النفس والفلسفة وغير ذلك، يجعل أي باحث يحكم بأن اللغة أداة متعددة الأبعاد وليست أحادية، وأنها متعددة الوظائف وليست فقط تواصلية مثل تواصل الحيوان، وهذا لأنها إبداع للنشاط الفكري الإنساني بحق..
بذلك فإن الممهّدين لمشروع الفرنسية في الجزائر وباقي الإقليم المغاربي، لا يستخدمون حجة أن اللغة مجرد وسيلة للتواصل إلا من أجل تمهيد الطريق لما يأتي بعدها من أبعاد وما تترتب عنها من وظائف إيديولوجية وسياسية بحتة لا تتماشى مع العمق الحضاري للدولة الجزائرية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024