عندما يعيد التاريخ نفسه

وثائقي القناة الفرنسيــة « تــي. في 5 مونـــد» عقــد وأوهـام

بقلم: حاجي يحيى . كلية الأدب العربي والفنون جامعة عبد الحميد بن باديس- مستغانم .

 نوستالجيا الفكر الإستعماري


« مخدرات ،سجائر، فتيات، التحرر الجنسي للمساواة  بين الجنسين ،حماية الشذوذ والمثلية، التحرر من ضوابط المجتمع والدين وتحذير مما سمي بالتطرف الإسلامي ،  مطالبة بما يسمى بالحرية خارج الأطر الإجتماعية « تلكم كانت أبرز نقاط الوثائقي الفرنسي الذي بثته قناة  TV5MONDEالتي روت من خلاله قصة الحراك الجزائري الذي أطاح بالنظام السابق في شهر فيفري من العام المنصرم. حيث حاول معظم الجزائريين ممن تتبع تلك المادة الوثائقية أن يلتمس وطنه الجزائر لكنه فوجئ بجزائر لم يألفها الجزائريون. جزائر مغايرة لا تمت للواقع بصلة، سواءا من ناحية مطالب الحراك التي طمست عمدا واختزلت في مطالب مبتذلة ، أو من خلال ممثلي تلك المطالب الذين تصدروا  معظم أطوار ذلك الوثائقي.عينات ونماذج نشاز لا تمثل الفتاة الجزائرية ولا الشاب الجزائري ولا المجتمع الجزائري حيث قدمت في واجهة  المشهد لتتحدث نيابة عن مجتمع أصيل ومتجذر في القيم والأخلاق . تلك المادة تضمنت كما معتبرا ومدروسا من الرسائل البصرية المحملة بأيديولوجيات سياسية اخترقت كبرياء ووجدان وكيان كل من تابع ذلك الوثائقي. حيث حاول معدوه تشويه ونشر صور مغايرة لما أسسه وبناه حراك سلمي أدهش العالم، أصبح يضرب به المثل من قلب حراك السترات الصفراء في فرنسا...فقد حاول الواقفون من ورائه  تمرير رسائل كاذبة مفادها أن هناك أقلية مضطهدة في الجزائر في رسالة واضحة للأمم المتحدة من أجل تفعيل لوائحها وبنودها مثل لائحة البند السابع لحماية الأقليات ،ومن خلاله حاولوا تشويه محتوى الحراك الشعبي الذي قضى على آمال المزايدين على حرية وكرامة الشعب الجزائري ، خاصة بعد أن قرر الجزائريون فك سياسة الارتباط والعمل على تفعيل قوة البعد الحضاري والتاريخي للجزائر من خلال الطرح التحرري القوي الذي يعد أحد السمات المميزة للشعب الجزائري. ومنه إعادة بث تلك الروح في الكثير من الشعوب المضطهدة ومنها دول افريقيا التي لا تزال معظمها تعاني وتجتر أوجاعا ومآسي الماضي الاستعماري .
إعلام موجه ..
كم هي كبيرة  الرسائل البصرية التي استاء لها الكثيريون خاصة العارفون منهم بخبايا السياسة الإعلامية الفرنسية ورهانها الدائم على الأساليب والتقنيات البعيدة تماما عن الممارسة الإعلامية والتركيز على آليات تخاطب الإثارة الجنسية والعاطفة وذلك بتوظيف المرأة كأنموذج مبتذل وتركز على مواضيع تعتبر من الطابوهات في دول أخرى. مثل الشرف، التحرش الجنسي ، العذرية ، تعاطي الخمر والممنوعات ،التمييز الجنسي والعلاقات الجنسية خارج الزواج وحالات الحمل الناتجة عنها. وحاولت التسويق لها على أنها من أكبر ما يطالب به شعوب تلك البلدان ومحاولة توصيفها على أنها نوع من القمع والحرية الغائبة في تلك البلدان ، في صورة لا تتماشى وما توصلت إليه فرنسا ومن ورائها أوربا من طفرة في كافة المجالات المعرفية والعلمية ولكن يبدو  أن النسبية في القيم لم تأخذ لها طريقا في تصرفات الغرب تجاه الآخر.
أتى الشريط الوثائقي أمام النضج العام والنخبوي للمجتمع الجزائري  تجاه مخططات التقسيم والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد مما جعل تلك الآلة الإعلامية في حالة من الهستيريا بدعم من دوائر سياسية  توجه جام غضبها على الحراك السلمي محاولة تقزيمه واختزاله في مطالب فئوية بعيدة تماما عن طموح الشعب الجزائري. في محاولة لنشر الفوضى واللاأمن وكل ذلك بعد فشل محاولة تطبيق سيناريوهات النموذج الأمريكي المعروف ب»الفوضى الخلاقة» التي أتت على الأخضر واليابس في كل من العراق وسوريا وليبيا وغيرها من البلدان.بينما يرى النفر الكبير من الدارسين والمتمعنين في واقعة الوثائقي أنها ليست إلا امتداد لذلك الصراع الحضاري الأزلي وتمثله في عقدة الغرب تجاه الشرق في نوع من الحنين و»النوستالجيا» لمستعمرات العالم القديم مثلما هو حاصل مع النموذج الفرنسي،حيث أن كل ذلك التعالي والإنتقاص من الآخر كان منطلقا من هيمنة عسكرية وساسية واقتصادية مرعبة مرفوقة بمبادئ وأفكار خاصة تعتمد مبدأ الشك والريبة. وعلى ضوئها حدد الغرب موقفه تجاه ذاته و الآخر .
الإستشراق ذلك القديم المتجدد ..
 أدت حرب الخليج الثانية  إلى تنامي دور الباحثين والمفكرين الكبار ومن ورائهم مراكز البحوث والجامعات مدعمة بترسانة قوية من وسائل الإعلام  في صياغة وعي وإدراك المواطن الأوربي والأمريكي تجاه الأخر وتكريس تلك الصور النمطية عن الآخر ، فشيطنة مجتمعات بأكملها ووضعت أخرى في دائرة محور الشر فأصبحت في دائرة المغضوب عليها ، نظرة الغرب للشرق ما زالت ترتكز على نظرة المتقدم إلى المتخلف، وأن الغرب لا زال ينتج صورا عن الشرق كما يريد ويتخيل، من دون البحث عن الصورة الحقيقية أو القريبة إلى الواقع ومن الأمثلة الحية عن تلك النماذج نذكر أحد                                                    عرابي هذا التيار  وهما  الأمريكيين برنارد لويس و صمويل هنتنغتون صاحب كتاب «من نحن»  الذي صدر عام  2004 والذي حذر فيه من خطر المسلمين في نوع من الغلو والشوفينية في التعدي على خصوصيات الآخر، ومن ورائهما ترسانة إعلامية قوية فقد مهدا بفكرهما ، في ما يعرف ب»الإستشراق الجديد» إلى تدمير وتخريب مقدرات الكثير من الشعوب ومنها الكثير من الدول العربية.
خطورة تكمن في تلونه في صور ناعمة وأدوات شتى تعتمد التمويه  حتى لا يقابل بالرفض والمواجهة  فتارة يرتدي ثوب الإعلام وتارة اخرى يرتدي ثوب الاقتصاد وغيرها من النماذج التضليلية. أصبح ماثلا للعيان أنه لا يمكن الفصل بين الإستشراق الفكري النظري والإستشراق في الإعلام أو في الفيلم الوثائقي وغيره من الحقول المعرفية الأخرى ، لأن الشروط التي حكمت ظهور الفكر الإستشراقي التنظيري والمكتوب هي الشروط نفسها التي حكمت ظهور السينما التسجيلية والوثائقية  ، كمثال حي لدراسة فلم القناة الفرنسية،حتى أصبحت الأفلام الوثائقية أحد العلوم التي تأخذ مسارا تاريخيا وسياسيا، ولها تأثير كبير على مدركات  المجتمعات وتوجهاتها.
سهلت مختلف الوسائط الإعلامية المهمة للإستشراق الجديد في التجريح والتشكيك في الآخر ولا أفضل مثالا سوى تلك الهجمة الشرسة التي تشن ضد الإسلام والمسلمين في أوربا حتى أصبح الإسلام فوبيا صنيعة إعلامية بامتياز. حيث أعطت تلك الوسائط الإعلامية  أنموذجا سلبيا عن المسلمين وعالمهم فأصبح يصور العربي في صورة المتخلف البعيد عن الحداثة والتحضر في استراتيجية ممنهجة لغسيل دماغ للمواطن الغربي،  ومنه محاولة الترويج للأنظمة الغربية على أنها الأنموذج الأنسب والأصلح لتسيير شؤون الدول العربية ومنه العمل على وصول الإسلام السياسي إلى سدة الحكم والترويج لللأحزاب الديمقراطية الحاكمة في أوربا كأنموذج جيد للحكم .
إرهاصات وبدايات
تلك الصور النمطية تعيدنا إلى الوراء لبدايات الإستشراق وخاصة في القرن 17 ، فعلى سبيل المثال الرومنسية الأوربية استلهمت مواضيع شتى من الشرق خاصة بعد بحث البعض في أوربا عن التجديد  في الفنون والآداب الأوربية بعيدا عن النموذجين اليوناني والروماني في المحاكات. وبالرغم من هذا الفضل الكبير للشرق على الغرب إلا أن الكثيرين من المشتغلين في حقل الإستشراق  سعى إلى تقديم الشرق  في نماذج سيئة لا تزال ترتسم معالمها إلى اليوم .أصبحت نساء العرب في تلك الفترة تصور  في مثال وإسقاط حي على حادثة الشريط الوثائقي ، على أنها مثال للجنس وأن الرجل العربي مثال للتخلف والإضطهاد كما صورت ذلك كتابات وأعمال الفنانين المستشرقين الذين قدموا المرأة العربية في صورة غلب عليها محاكات نموذج الجارية وهذا من خلال إبراز مفاتنها وتصويرها في موقف الخادمة التي تكد يوميا من أجل تلبية غايات الرجل الشرقي . حدث هذا دون التطرق إلى مساهمتها الحضارية والمعرفية والفكرية في مختلف مناحي الحياة...أما الرجل العربي فقد صور في أسوأ صورة ممكنة في الكثير من المناسبات.فعلى سبيل الذكر الصورة النمطية للرجل العربي في كثير من لوحات الرسامين المستشرقين  تراهن على طغيان اللون الأسود على لون البشرة مع تصويره بأنه صاحب ذلك الشعر الأشعث المغبر والذي قد توسط غرفته وأحاط نفسه بالكثير من النساء والجواري وفي مواضع أخرى صور وهو يحمل سيفا أو خنجرا أو رمحا مضرجا بالدماء  كناية على همجيته وبربريته .
دولاكروا رومنسي الإستشراق الفرنسي

اجوين دولاكروا المستشرق الفرنسي الرومنسي يضل مثالا حيا على حالة اختراق الحياة الشرقية أيما اختراق بدءا من نقل مظاهر الحياة العامة وانتهاءا بغرفة المرأة  في  إشارة رمزية توحي بكسر تلك الحدود المألوفة لدى غالبية الجزائريين آنذاك. إشارة أبرزت تلك العلاقة المتواطئة للفن بالإيديولوجيات الاستعمارية، وكسابقيه جسّد دولاكروا في لوحاته الإستشراقية المواضيع التي كانت تشغل المخيلة الأوروبية  خاصة تلك ذات الطابع الغرائبي  Exotique، مثل تصوير حياة الحريم، والجواري، ورحلات الصيد في البراري والفروسية ، وكمثال حي على ذلك وعند زيارته إلى الجزائر في سفريته التي كانت تحت غطاء المؤسسة الإستعمارية والتي تزامنت ومرور عامين على احتلال الجزائر، نزل دولاكروا بقصر الداي بوهران،حيث قدم لنا لوحته «نساء الجزائر في جناحهن»  وهو عمل فني تظهر فيه أولئك النسوة مستلقيات وهن في مظهر من الإثارة.وكانت تلك أولى عمليات اختراق الصورة للأماكن الحميمية بحيث أنه لم يبال  بخصوصية المرأة الشرقية المحافظة، بل صوّر لنا نماذج من النساء بوضعيات ذات إيحاءات جنسية، جالسات في حالة من الرضوخ والهدوء و الصمت.
تلك الصور مهدت في ما بعد إلى استقطاب أولئك الشباب الأوربي الحالم والعاشق للجمال والخمر والنساء والجواري اللاتي يعزفن، وذلك بعد تلقيهم نظرة وفق نماذج مصطنعة عن الشرق والحياة فيه،  ونتيجة تلك الصور النمطية تهافت الكثير من الشباب من شتى بلدان أوربا على  الشرق وبالتالي أصبحت تجنيد الشباب الأوربي أكثر سهولة من ذي قبل وكل ذلك طبعا كان وفق أجندات مدروسة مهد لها من خلال تلك الأعمال الفنية و الأدبية والتنظيرية والتي كللت فيما بعد إلى احتلال الشرق عسكريا.
معظلة «المركزية الأوروبية « وفق منظور جاك ديريدا
القضية الأساسية هنا، تكمن في معظلة «المركزية الأوروبية « التي انعكست على مختلف المجالات ومنها الإعلام حيث يرى الفيلسوف الفرنسي «جاك ديريدا « أن تلك المركزية مبنية على ما يسمى بـ «ميتافيزيقا الحضور» ، بمعنى حضور اللوغوس الأوروبي عقلا وكلمة،  حيث أن تلك المركزية أقامت نظرتها إلى العالم وفق منظور ثنائي، يكون فيه الأبيض هو نموذج المتفوق والعاقل ومن خلالها تعمل تلك النظرة على تضخيم الذات الأوروبية وتثبيت أركانها، وها هو الفن والأدب والإعلام الأوروبي قد تحول إلى مسرح للتعبير الرمزي عنها، بل والتأكيد عليها. وهنا تظهر في نوع من المثال، تلك العلاقة المتواطئة للفن والإعلام والأدب بالإيديولوجيات الإستعمارية .
وفي المختصر فان كلّ تلك العناصر التأويلية التي سبق ذكرها في الوثائقي الفرنسي وتلك الإحالات التاريخية التي ذكرناها لا يمكن قراءتها في بعدها الفني أو التقني التخصصي المحض ، بل أيضا ينظر إليها كعناصر إيديولوجية تهدف إلى إبراز الصورة النمطية للشرق ، و التي أبرز مقدمها فيها توفّر فرص اللذة والفساد الأخلاقي والثورة على الأعراف والتقاليد والأنظمة الحاكمة .
ونرى أن أهم شيء في هذا المقام، هو ضرورة العمل على أخلقة هذا الحقل الحساس ، ومحاولة حصره في إطاره التسجيلي وبعده الجمالي الناقل للحقيقية بعيدا عن الأجندات السياسية  ومحاولة التأسيس لصناعة إعلامية متكاملة تقف كحائط ردع ضد الهجمة الشرسة التي نتعرض لها. فالدعاية الإعلامية التي سبقت المعركة الأخيرة لسقوط بغداد ونظام صدام حسين،على سبيل المثال، ليست ببعيد عنا وكان لها الأثر المهم في سقوط جيش العراق آنذاك . أما ما تقدمه بعض القنوات الغربية بحجة الإعلام والحرية ماهو في الأساس إلا وحشية ورجعية بعيدة تماما عن التحضر كما أشار إلى ذلك أحد العاملين في مجال السينما بقولة خالدة « ما هو خارج حضارة الصورة هو خارج حضارة القرن 21 « فهي في المنتهى سياسات وإيديولوجيات وتوجهات عميقة ترتدي في نوع من المغالطة ثوب الرقمنة والتقنية وحاملة شعارات زائفة من شاكلة الحرية المساواة و العدالة لذا وجب الوقوف عند معانيها ودلالاتها بحذر شديد،وفي نوع التصالح مع الذات فإن عدم وجود هكذا صناعة إعلامية قوية في بلدنا  لن تجعلنا في مأمن. بل وجب التسريع في وضع استراتيجيات مهمة و خاصة في الحقل الإعلامي كونه أصبح أحد الأسلحة المهمة في المجتمعات المعاصرة كون وظيفته أصبحت متعددة المهام فمن الإعلام إلى التغيير في الرأي إلى التغيير في السياسات والتوجهات السياسية مرورا بتقويض الأمن وانتهاءا بالدمار والخراب.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024