العهدة الجديدة للسيد الرئيس:

استمرارية استقرار.. وتحـديات التجديد

بقلم د. اسماعيل دبش كلية العلوم والعلاقات الدولية جامعة الجزائر

في بداية عهدة الرئيس (1999) لم يكن سهلا تبني برامج سياسية واقتصادية طموحة عقب وضع مأساوي عاشته الجزائر وعاشه الشعب الجزائري،(1990 ـ 2000). وضع ضرب فيه عمق الجزائر الاقتصادي والاجتماعي والإنساني (أكثر من 100 ألف قتيل) وشلت فيه البرامج والمشاريع التنموية وخلف آثار مأساوية مازال المجتمع الجزائري يعاني منها. إضافة إلى حصار دولي ممنهج بهدف عزل الجزائر إقليميا ودوليا.

والأصعب من ذلك أن ترسم خطة سياسية قائمة على الوئام المدني والمصالحة الوطنية بعد عشرية دموية، وفي نفس الوقت تبني برنامج إقتصادي قائم على البعد الاجتماعي، في الوقت الذي كانت فيه الجزائر بحاجة إلى إعادة تأهيل وتعمير ما تم تدميره للبني التحتية الاقتصادية والعمرانية، والاجتماعية، والتربوية والصحية (قدرت بأكثر من 40 مليار دولار).
ولكن الإرادة السياسية كانت أقوى، بداية بالوئام المدني فالمصالحة الوطنية فرسم وتنفيذ سياسة اقتصادية قائمة على الإنعاش الإقتصادي متبوعة بتوفير الشروط وأسس البنية التحتية لتنمية اقتصادية مستدامة ومضاعفة انجاز منشآت تربوية وثقافية، وعلمية وصحية خلال الفترة 2000 ـ 2014: من 49 كلم طريق سيار إلى أكثر من 3 آلاف كلم (بما فيها 1200كلم طريق شرق ـ غرب والباقي طرق سيارة رابطة بين الولايات والمدن)، ومن 1769 كلم طريق سكة حديدية إلى 4286 كلم، ومن 30 سدا إلى 70 سدا مائيا، ومن 120 ملعب ومسبح لمختلف الرياضات إلى 695 ملعب، ومن 8125 مستشفى ومرفق صحي إلى 14429، ومن 20800 مؤسسة تربوية إلى 26012 مؤسسة، ومن 52 جامعة إلى 100 جامعة، ومن 54 مركز تكوين مهني إلى 101 مركز. إضافة إلى دفع المديونية المقدرة بـ26 مليار دولار سنة 2000.
رفقة هذه المشاريع والانجازات كانت سياسة التضامن الاجتماعي المتمثلة في بناء أكثر من 2 مليون سكن اجتماعي، وانخفاض نسبة البطالة من 30 بالمائة إلى أقل من 10 بالمائة بفضل سياسة التشغيل والدعم للشباب للاستثمار الاقتصادي والخدماتي، والرعاية صحية مجانية في المؤسسات والمراكز الصحية والاستشفائية العمومية، ودعم الطبقات المعوزة والهشة.
سياسيا أسست المصالحة الوطنية استرجاع اللحمة والتعايش بين أبناء الوطن الواحد، واسترجاع الاستقرار والأمن الوطني. فكان ذلك مكسب دفع بالإصلاحات السياسية وفي مقدمتها تمكين الشباب والمرأة من التواجد بكثافة في مؤسسات الدولة، والمجالس المنتخبة ليصبح الشباب الأكبر نسبة في المجالس المحلية والوطنية، وتصبح المرأة بأكثر من 30 بالمائة في هذه المجالس نسبة تتجاوز فيما يتعلق بالمرأة حتى دول عريقة في الديمقراطية ناهيك عن الدول العربية والإفريقية.
سياسيا كذلك وبفضل الاستقرار الذي تعيشه البلاد تم توسيع المجال السياسي التعددي لتأسيس الأحزاب الجديدة، وتنظيم المجتمع المدني ليرقى إلى مستوى التنشئة والمشاركة السياسية في التعبئة لتنفيذ البرامج وضبط التعامل والعلاقة المسؤولة بين الشركاء في المجتمع المدني والسلطات العمومية، بهدف تفعيل البرامج والخطط الإنمائية.
إعلاميا الجديد أكثر هو فتح الوسائل السمعية البصرية للقطاع الخاص الذي أثرى الساحة الإعلامية رفقة القطاع العمومي.
دوليا لم يتم فقط تكسير الحصار الذي فرض على الجزائر بل أصبحت الجزائر قوة اقتراح إقليميا ودوليا، لتصبح الجزائر عضو بمجلس الأمن ومجالس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان والسلم والأمن ومتواجدة في أعلى مستوى قمم الرؤساء والدول مثل مجموعة الثمانية للدول الكبرى. وتصل لعقد اتفاقيات شراكة إستراتيجية مع الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين كما استطاعت الجزائر بحنكة سياسية وأمنية أن تبعد التحديات التي زعزعت استقرار الشعوب وأمن الدول المجاورة في السنوات الأخيرة.
إنها مكاسب وانجازات سياسية واقتصادية أهلت لجزائر جديدة أن تواكب الحداثة والتطور الذي وصلت إليه الشعوب والأمم المتقدمة في ظل هذه المكاسب تأتي العهدة الجديدة لرئيس الجمهورية التي تعزز استمرارية الانجازات بمختلف مجالاتها في إطار البعد الإجتماعي وتدفع للتجديد من أجل اقتصاد صناعي وتكنولوجي واقتصادي تنموي خارج المحروقات.
سياسيا سوف نشهد مشهدا سياسيا جديدا متمثلا في إشراك جميع الفعاليات السياسية من مختلف التوجهات والقناعات، ودعم مجتمع مدني فعال وشريك في تطبيق الانجازات والمشاريع التنموية المبرمجة. يأتي في مقدمة ذلك دعم معارضة مسؤولة تنطلق قوتها من قواعدها النضالية، وقدرتها في المشاركة والتعبئة في الاستحقاقات والبرامج والنشاطات المرتبطة بمختلف فئات المجتمع. ولا تبقى المعارضة والأحزاب السياسية ظرفية النشاط والذي عادة ما يتزامن أكثر مع الاستحقاقات المحلية والوطنية. يجب وضع شروط محددة وإصلاحات قانونية تدفع الأحزاب إلى التعامل بموضوعية ومنطق ديمقراطي ناتج عن المشاركة والتعبئة من القاعدة. وليس عن إرادات وخطابات سياسية فوقية تصطدم لاحقا بالواقع على غرار ما حدث للمطالبين بالمقاطعة ليوم 17 أفريل. على الأحزاب والشخصيات السياسية أن ترجع إلى القواعد والشعب الجزائري هو الذي يقويها أو يضعفها من خلال المشاركة والتنشئة السياسية والتزكية في الاستحقاقات.
على الطبقة السياسية وخاصة الأحزاب السياسية ألا تضيع وقتها في انتقادات فوقية وأحكام المتفرج. عليها أن ترتب وضعها الداخلي وتنظمه في إطار تنشئة وتعبئة سياسية موضوعية قائمة على الإقناع والحجج والبرامج التي تتفاعل معها الجماهير ميدانيا كل حسب قناعاته السياسية واختياراته الحزبية.
غير ذلك قد يرقي العمل السياسي السطحي لمستوى التهرب من الواقع وربما حتى التهرب من المناضلين والجماهير التي قدمت لها وعودا أثناء الحملات الانتخابية وتنتظر تجسيد ذلك ميدانيا.
على الأحزاب السياسية أن ترقى إلى مستوى الإصلاحات السياسية المقدمة باختيار الكفاءات في المشاركة السياسية على مستوى الهيئات المنتخبة.
الدولة أو السلطة ليست مسؤولة عن اختيارات الأحزاب لمرشحيهم لمناصب انتخابية محلية أو وطنية. يجب أن توضع شروط وآليات خاصة في اختيار القوى المشاركة سياسيا في أجهزة الدولة ويترك للشعب الحرية في اختيار الأحسن أو الأمثل.
إعلاميا حرية التعبير أعلى ما يصل إليه الحكم الرشيد وتصل إليه الحكامة السياسية، ولكن ذلك له ضوابط ومحددات أخلاقية ومهنية معترف بها عالميا وتطبق على الجميع. المساس برموز الدولة والقيم الاجتماعية والأخلاقية وحتى التهم والأحكام غير المؤسسة يعاقب عليها القانون واختراقها يمس الجميع واحترامها يحمي الجميع. الإعلام السمعي البصري أسرع وسيلة اتصال وتواصل وأكثر تأثيرا لأنها بالاستماع والمشاهدة المباشرة. وهنا المهنية والأخلاق المثلى تأتي على رأس الرسالة الإعلامية الموجهة. الجميع مسؤول على حماية حرية الإعلام والهيئات الإعلامية المسؤولة. ضوابط واضحة ودقيقة في المشهد الإعلامي الجزائري لعهدة الرئيس الجديدة سوف تعزز إعلام لخدمة المجتمع والدولة والمعارضة معا، لأنه يفترض أنه لهم لغة وهدف واحد وهي المصلحة العليا للوطن والأمة.
في الأخير إن الإصلاحات السياسية في الجزائر بمحتواها الحالي الديمقراطي والدستوري هي في مقدمة الدول الجمهورية والديمقراطية في عالم الجنوب. الخلل ليس في المحتوى بل في التطبيق لهذا فان التعديل الدستوري والقانوني القادم والإصلاحات السياسية القادمة يجب ان تضع في الحسبان آليات التنفيذ وتأتي في مقدمتها وضع الكفاءات في المكان المناسب. وهذه مهمة يجب أن تعطى للكفاءات لأنها هي القادرة في مختلف المجالات على التطبيق والذهاب لبناء دولة حديثة وعصرية. الإدارة والسلطة موجودة والكفاءات موجودة ولكن الجمع بينهما هش ومحدود ولا يرقى إلى مستوى تجسيد مشاريع وبرامج الرئيس الطموحة والواعدة لجزائر جديدة متطورة صناعيا وتكنولوجيا.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024