من أجل دور جديد في التحسيس والمرافقة النفسية

دور المجتمـع المـدني الجزائري أثناء الأزمات

يتعاظم الدور المنوط بالمجتمع المدني شيئا فشيئا أثناء الأزمات المختلفة كالكوارث الطبيعية والصحية والأزمات الاجتماعية، كون المجتمع المدني بكل تركيبته يتمتع بميزة الجوارية في الأداء، أي أن له تواجد يسمح بفهم السياق والعمل ضمنه بالطريقة التي تسمح بضمان الأداء الحسن اثناء حملات التحسيس والإغاثة مثلا، انه قريب من الجماهير، هذا القرب أملته طبيعة المجتمع المدني الذي يتميز بسلاسة الاداء، الشيء الذي اهتمت به الدول منذ الأمد قصد احلال مقاربة الحكم الراشد.

 تستعين الدولة بكل مؤسساتها وأجهزتها بالمجتمع المدني عن طريق تفويض جزء من الصلاحيات والمهام الموكلة اساسا للجماعات المحلية، الى منظمات وجمعيات ولجان ومجموعات تطوعية قصد التكفل بنشاطات كالتحسيس والتنشيط الاجتماعي. نجد هذه المقاربة في الحوكمة الجهوية قد اهتدت إليها بلدان تتميز أصلا بنظام حكم مركزي.
أثناء مرحلة التوجه نحو الحكم الراشد المحلي اهتدت دول مثل فرنسا التي تتميز بنظام حكم مركزي (صلب) إلى التوجه نحو التخفيف من الأعباء على السلطة المركزية والجماعات المحلية بتكريس نظام تفويض الصلاحيات من المركز إلى الجماعات المحلية والأقاليم.
هذا التفويض لا يجب ان يفهم منه نظام اللامركزية وإنما نظام غايته التخفيف على السلطة المركزية من أعباء يمكن ان تتكفل بها الجماعات المحلية. هذه الأخيرة بدورها توجهت نحو نظام شراكة مع المجتمع المدني عن طريق تفويض للقيام بنشاطات للجمعيات المحلية قصد القيام بها كما قلنا آنفا.
أخذنا تجربة فرنسا كمثال، لأنها قانونيا وإجرائيا تكاد تكون قريبة منا. أما مسألة التطبيق فذلك حديث آخر.
في الجزائر، نلاحظ انه رغم تراجع وتقزيم دور المجتمع المدني في المجتمع إلا ان الواقع والرهانات الاجتماعية السياسية الحالية لا تترك مجالا للشك في ضرورة بعث المجتمع المدني من اجل دور جديد يساير التغيرات الاجتماعية خاصة، ليصبح دوره رياديا في التوجه نحو الإصلاح والحوكمة المحلية بما ينعكس إيجابا على أداء المؤسسات والعلاقة بين الحاكم والمحكوم.
الأزمة الوبائية الحالية
أثبتت الأزمة الوبائية الحالية أهمية المجتمع المدني، خاصة في التصدي للأزمة عن طريق المبادرة والانخراط في الحملات التحسيسية الموجهة مباشرة للمواطنين قصد تنبيههم بضرورة المحافظة والاستجابة للإجراءات والاحتياطات للمحافظة على الصحة والنظام العام. لقد تعدت هذه العملية احيانا باللجوء الى المبادرة بإنتاج وتصميم المواد الوقائية كمواد التعقيم الصحي الكمامات والبذلات التي وزعت على الاطقم الطبية.
ان بروز المجموعات التطوعية وأخذها بزمام المبادرة بالشراكة مع الجامعات ومخابر البحث رغم الإمكانيات المحدودة هو من المؤشرات المهمة لدور جديد للمجتمع مدني. أن حس المواطنة الفعالة كان غالبا على أداء هذه المجموعات ولعل أحسن مثال هنا ما قامت به المجموعة التطوعية لمدينة باتنة بالشراكة مع الجامعة، تمكنت المجموعة التطوعية من التكفل باحتياجات المستشفيات على مستوى الولاية وإرسال مساعدات الى عدة ولايات وإلى مخيمات اللاجئين الصحراويين بتندوف.
مثل هذه المبادرات أكسبت العمل التطوعي بعدا مجتمعيا يجب التفكير حول سبل تثمينه وترشيده وعقلنته، لأن الملاحظ انه رغم الأهمية التي يكتسيها التطوع كقيمة تضامنية اجتماعية، إلا انه وجب التخلي عن الشعبوية وفوضوية الأداء، خاصة أثناء توزيع المساعدات، أكانت طبية أم غذائية، أو حتى سبل التواصل مع المستفيدين ومواساة المتضررين، كعائلات المتوفين جراء الوباء أو حتى نظام الاتصال والعمل الجواري.
دور التكوين والعمل الاستعجالي الميداني
نظرا لعدم توفر الخبرة لدى العديد من الجمعيات والمجموعات التطوعية حول كيفية التدخل اثناء فترة الازمات والكوارث لذا وجب التفكير مليا في إعادة النظر في التكوينات التي تقدم اساسا لتقوية قدرات المجتمع المدني اذ ان اطار الازمة او الكارثة يملي على الجمعيات والمجموعات التطوعية التوجه نحو تكوينات عمليه تراعي اطار التدخل سواء للإغاثة أو للتحسيس، ان الأطر الكلاسيكية للتكوينات الجمعوية أصبحت لا تجدي نفعا امام الحالة الاستعجالية التي تتطلب سرعة وجودة في الاداء، خاصة اذا كنا امام جمهور مستهدف ليس بالضرورة واعيا او ملما بالإجراءات الوقائية.
ان لغة الاتصال والتواصل وتوقيت التدخل انسجام وتناغم فريق العمل والشراكة مع المؤسسات الرسمية كمديريات الصحة والحماية الاجتماعية المستشفيات منظمات الإغاثة كلها عوامل يجب ان تؤخذ بعين الاعتبار أثناء التدخل الاستعجالي.
التطوع حركة تفاعلية تضامنية وإنسانية لها دوافع وآليات تشتغل عليها يمكن ان تنتهي ببداية عمل او تدخل الأخصائي في الإغاثة كطبيب الإغاثة او الأخصائي النفساني او يمكن للعمل التطوعي وعمل المتخصصين ان يكون متكاملا متناغما ومنسجما لضمان الأداء السريع والجيد.
إعادة الاعتبار للمرافقة النفسية المتخصصة والتطوعية
تمر الجزائر بمرحلة حساسة جدا وكغيرها من البلاد التي اجتاحها وباء الكورونا لجأت وزارة الصحة الى سلسلة من الاجراءات لمواجهة الوباء كفرض الحجر المنزلي من اجل الحد من ارتفاع اعداد المصابين. هذه الوضعية الجديدة وغير المعهودة فرضت مجموعة من الضغوطات النفسية جراء فقدان الوظيفة، نوبات الغضب والعنف الاسري والخوف المتزايد من ان يصبح الشخص السليم رقما ويضاف الى حصيلة المصابين، أضف الى ذلك انعدام الوعي وقلة التحسيس الكافي، كثرة المعلومات وكثرة اللاعقلانية في التغطيات الاعلامية وتضارب الارقام
خلفت هذه الحالة نوعا من الإجهاد النفسي وتشويش الفكر والشعور بالهلع والتوتر داخل العائلات الجزائرية، خاصة لدى الأشخاص الذين يعانون من فوبيا انتقال العدوى أو من لديهم وساوس حادة والمبالغة في المخاوف ثم ان الالتزام بالحجر المنزلي كان كافيا لزيادة ارتفاع ضغط الدم والسكري والكولسترول حالات الطلاق جراء العنف الاسري ضد النساء والأطفال، خاصة، هناك حالات عنف أسري حادة سببت عاهات وإعاقات مستديمة في الأشهر القليلة الماضية.
يقدم الأخصائيون النفسانيون مجموعة من النصائح من اجل التكيف مع إلزامية الحجر المنزلي وتحقيق التوافق النفسي من بينها:
ــ وضع برنامج يومي منظم لتجنب الروتين.
ــ العمل على تجنب القلق والضغط النفسي.
ــ الابتعاد عن التفكير السلبي والأشخاص السلبيين.
ــ تجنب الإشاعات والأخبار المتضاربة.
ــ نقل العمل الى المنزل ان تطلب الأمر.
ــ المساعدة في الأشغال المنزلية.
ــ اللعب مع الأطفال والتنشيط الأسري لخلق جو من المرح.
ــ المطالعة والاستثمار في الموروث الثقافي كالحكاية الشعبية والألعاب التقليدية.
ــ النشاطات الروحية كالصلاة والذكر.
ــ الاهتمام بالنظافة ترفع المعنويات وتعطي طاقة ايجابية.
ــ تحديد اوقات النوم والاستيقاظ والابتعاد عن شرب المنبهات كالقهوة وغيرها في الساعات المتأخرة.
ــ تجنب الاستلقاء الدائم على السرير لأنه يولد نوعا من الارق.
ــ ممارسة الرياضة والقيام بحركات رياضية تساعد على تشبع المخ بالأوكسجين.
ــ عملية الاسترخاء لتفريغ الطاقة السلبية.
حالات للعبرة...
كانت الساعة متأخرة من الليل، هاتفي كان على الوضع الصامت وجدت اتصالات ورسائل من صديقة من الجنوب، محتوى الرسالة احتاج مساعدتك ابي وامي مصابان بفيروس كورونا دعواتك لي.
لم أعاود الاتصال لأن الوقت قد فات على ذلك.
صباحا أول شيء قمت به اتصلت بها ولما ردت عليّ أجهشت بالبكاء ابي وأمي بهما كورونا التحليل ايجابي، وأنا من نقلت الفيروس، إنها تعمل في الاستعجالات ورغم الاحتياطات والتدابير قدر الله ما شاء فعل.
الحالتان من كبار السن يفوقان الخمسين سنة، الاب يعاني من ضغط دموي ظهرت الاصابة بمجموعة من الاعراض التعب والتقيؤ والغثيان وانقطاع الشهية وحرارة مرتفعة، الاب هو من قام بالتحاليل أولا لتظهر النتائج ايجابية لتظهر نفس الاعراض على الام.
الشيء الايجابي ان الفيروس في مراحله الأولى، اجبر الوالدان على الحجر المنزلي الصحي.
وصف الطبيب للمصابين مجموعة من الفيتامينات ودواء ضد الملاريا... تخيلوا معي ابوين كبيرين في السن يحتاجان إلى رعاية خاصة في بيت لوحدهما لا احد يزورهما لديهما أوقات مخصصة للأكل والفحص فقط. الحالة النفسية سيئة ضغط دموي ونفسي رهاب الموت فقدان الشهية. قدمت لها مجموعة نصائح وبرنامجا غدائيا صحيا يساعد على تقوية المناعة وعملت على الرفع من معنوياتها.
الحالة الثانية تتمثل في محاولة انتحار قبل ظهور الوباء بسبب المشاكل العائلية المتكررة والضغوطات الحادة، الحالة تجاوزت سن 45 ماكثة بالبيت، سلاحها الوحيد في ظل الظرف الذي تعيشه هو الهروب من المنزل والبحث عن متنفس جديد كيف تكون يا ترى حالتها النفسية حاليا وهي في الحجر المنزلي.
نستشف من الحالتين درجة الصعوبة والتعقيد في عملية المرافقة النفسية التي تتم عادة عن بعد وبتدخل طرف اخر قد يكون مرافقا نفسانيا، مما يطرح الإشكال حول ظروف العمل للأخصائيين النفسانيين اثناء هذه الأزمة الصحية وضرورة تثمين وإعطاء الأهمية للدور المنوط بالنفسانيين والتفكير في التوجه نحو استحداث نشاط المرافقة النفسية التطوعية مستقبلا.
ان المرافقة النفسية التطوعية هي أحد فروع المرافقة التطوعية عموما وهي امتداد عقلاني لمفهوم التطوع كأحد ركائز التدخل للمجتمع المدني في مواجهة الأزمات او حتى خارج اطار الأزمات.
تعمل جمعية الزيتونة للمرافقة النفسية التطوعية جنوب فرنسا، وبالشراكة مع المستشفيات والجمعيات الأخرى التي لديها نفس التدخل، على انتقاء متطوعين وتكوينهم في المرافقة النفسية التطوعية ولمدة 9 أشهر تتخللها خرجات ميدانية وزيارات وعمل جواري مكثف لاكتشاف حالات نفسية والإبلاغ عنها قصد التكفل النفسي بها من قبل أخصائيين نفسانيين. هذا العمل الميداني يتكفل به المتطوعون الذين يكونون حلقة الوصل القوية بين المجتمع او المجتمع المستهدف والأخصائيين النفسانيين في المستشفيات. تعتبر هذه التجربة رائدة، كونها تأتي استجابة لطلب ملح من المستشفيات ومؤسسات استقبال العجزة والارتفاع المذهل للوفيات في أوساط المسنين إبان موجة الحر التي ضربت فرنسا في العشرية الماضية.
تبين الأزمات والكوارث الدور المتنامي الذي يجب أن يضطلع به المجتمع المدني وضرورة التوجه نحو مراجعة هذا الدور بصورة منتظمة واستشرافية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19432

العدد 19432

الأربعاء 27 مارس 2024
العدد 19431

العدد 19431

الثلاثاء 26 مارس 2024
العدد 19430

العدد 19430

الإثنين 25 مارس 2024
العدد 19429

العدد 19429

الأحد 24 مارس 2024