نقاش متواصل حول المسألة

ملاحظات حول الفصل والوصل بين الدين والدولة

د.محمد العربي ولد خليفة

 

الجزء الأول تمهيد:


تتصدّر العلاقة بين الدين والدّولة المشهد الإيديولوجي في المنطقة العربية والإسلامية، وفي الجزائر يدور نقاش متواصل حول هذه المسألة بين قيادات سياسية و نخب ثقافية لها إمدادات اجتماعية قبل وبعد التعددية الحزبية.
ونحن الآن بصدد وصف خارجي للتعارض بين التيارين من موقف فكري لا ينتمي إلى العلمانية ولا للإسلام السياسي، مع العلم أنّ الإسلام اٌقترن بالوطنيّة في التجربة التاريخية للجزائر، وخاصة خلال النصف الأوّل من القرن التاسع عشر 1850-1900، كما سنوضّح ذلك في هذه المقاربة.
يعرف المتابع المحايد من خلال الخطاب المتبادل بين أنصار اللائكية وخصومهم الموصوفين بالتيار الإسلامي أن الحوار بينهما هو  في النهاية مجرّد تبادل للتهم مثل الفرانكوفونية أو الشيوعية الإلحادية في مقابل الإسلاموية والوهابية، وفي رأي المتشدّدين من التيارين أن المطلوب هو أن تكون مع هذا أو ضدّ هذا، وما سوى ذلك مجرّد «تفلسيف»، ولذلك اخترنا الابتعاد عن المصطلحات والمفاهيم المشحونة بالتأثير الإيديولوجي وتفضيل جملة الوصل والفصل بين الدين والدولة، إذ لا يوجد فصل كامل في الخيار العلماني، ولا وصل كامل حتى لدى الكرسي البابوي في الفاتيكان ولا في الجمهوريات التي تصف نفسها بالإسلامية، ولم تكن داعش سوى وباء لخدمة مصالح قوى كبرى في المنطقة على المدى الطويل.
أيّا كانت النوايا والأحكام المسبّقة على كلّ من يقترب من هذه المسألة، فإنّنا ننطلق من نص و رورح بيان الأول من نوفمبر 1954 الذي وضع المعادلة الصحيحة التي تجمع بين الإسلام والوطنيّة وهي: الجزائر جمهورية ديموقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية، وحسب إطلاعنا المتواضع لم يعترض على هذه المعادلة أي قيادي في الثورة في اٌجتماعات القيادة وفي مؤتمر الصومام وبعده.
ينتمي أنصار العلمانية إلى صفوف اليسار ومن بينهم مفكرون من أعلى طراز نذكر منهم على سبيل المثال المؤرخ محمد حربي المهاجر إلى فرنسا منذ عدّة عقود.
يظهر التيار اليساري على الساحة الوطنيّة للدفاع عن حقوق العمال ومطالبهم النقابية، وينتقد النظام كلما لاحظ أنه على مسافة قصيرة من الأحزاب الموصوفة بالإسلامية، وتقترب من التيار اليساري العلماني بعض النخب من الإطارات في الإدارات والجامعات والمؤسسات الخاصة وعدد من المبدعين في فنون المسرح والسينما والقصّة والرواية، ومن بينهم كاتب ياسين وطاهر وطار الإطار السابق في حزب جبهة التحرير الذي يمكن اٌعتباره على يسار هذا الحزب، فقد أشرف في ثمانينيات القرن الماضي على إذاعة القرآن الكريم، يمكن إضافة أنصار جدد للعلمانية من الأدباء الذين أكملوا دراساتهم العليا في الجامعات الفرنسية بعد التخرّج من جامعة جزائرية أومشرقية، وبعضهم نشأ في عائلات محافظة والأب قد يكون إماما.
لا نستهدف تصنيف الساحة السياسية وتقدير الاٌنتماءات بالنسب المئوية فذلك يحتاج إلى دراسة مسحية واٌستفتاءات يمكن أن تقوم بها مراكز البحث في الجامعات والمخابر المتخصّصة في العلوم الاجتماعية وهناك اٌهتمام بهذه القضايا في مركز البحث في علوم المجتمع في وهران CRASC غير أن شروط الدراسات المسحيّة عن طريق الاٌستبار وقياس الرأي العام لا تزال في بلادنا في بداياتها، وتكتفي بعض المنشورات مثل الصحف بالإجابة على أسئلة وتقدير الاٌتجاهات ولا يعرف أحد منهجية البحث الميداني ومن هي الشرائح التي تجيب بنعم أو لا، أو بدون جواب ؟ (صحيفة مساء الجزائر Soir d’Algérie ) على سبيل المثال.
هناك بين التيارين السابقين جموع كبيرة غير مأدلجة أي ليست مهيكلة نظاميا في أي إيديولوجية سياسية، ولكنّها تظهر الاٌحتجاج على ما تعتبره قيودا على الحريات الشخصية مثل تعاطي الكحول علنا والعلاقات مع المرأة خارج الزواج والإفطار في نهار رمضان والحجاب، وتركز الحركة النسوية اٌحتجاجاتها على قانون الأسرة الذي ترى فيه اٌنحيازًا كبيرا للذكورية أي للرجال، على حساب حقوق المرأة قبل وبعد الزواج.

الخوف والتخويف من الإسلام أو الاسلامومانيا
وقد يستعمل ذلك الاٌحتجاج لاٌنتقاد الدولة أو النظام وبعض مؤسساته، ولاٌنتقاد تنظيمات أخرى تسميها موالية أو مؤيدة مثل الأسرة الثورية، لقد تركت مغامرة الفيس الحزب المحلّ والاٌنحرافات الخطيرة لما يسمى القاعدة وما وصل إليه التوحش والسقوط الديني والحضاري في أفعال وخطابات داعش تأثيرا سلبيا على صورة وحقيقة الإسلام والأغلبية الساحقة من أتباع هذا الدين ألا وهو الخوف والتخويف بالإسلام أو الإسلامومانيا
(l’Islamomania) وأحيى في بعض أوساط اليمين المتطرّف الأوروبي الأمريكي ما بقي في الذاكرة عن الحروب الصليبية وأناشيد التربادور وهو ما أدى إلى تشديد الخناق على الجاليات الموجودة في الهجرة، واٌعتبار البعض منهم مشبوهين بالإرهاب ويتحينون الفرص لأعمال العنف والتخريب، إذ تكفي جملة الله أكبر يقولها من ينزل من القطار أو الميترو، وهو يحمل حقيبة يد للشك فيه ومتابعته.
كما ظهر دعاة للكراهية ضد المسلمين يحضون باٌهتمام بعض وسائل الإعلام الخاصة والعمومية التي تصنّف في تيار اليمين على مختلف درجاته في سلّم التطرّف من الأمثلة على ذلك بن لادن الفرنسي المسمى «إريك زمّور» (E.Zémmour) الذي ينشر خطاب الحقد والكراهية ويدفع الرأي العام في فرنسا لرفض الجالية من المسلمين والجزائريين بوجه خاص، واٌعتبارهم السبب في كلّ مشاكل فرنسا، بينما يتعرّض الفنان الفرنسي من أصل إفريقي «ديودوني»
(Dieudonnée) للإقصاء والاضطهاد النفسي والمعنوي، لأنّه يقول في أغانيه الهزلية ما لا يرضي إسرائيل ولوبياتها المتنفذة.
حلم وحدة الإنسانية والمواطنة العالمية
من الخطأ الذي لا يغتفر الدعوة لتأجيج الصراع بين الأديان والقوميات، فليس من الحلم والمثالية أن يأمل العقلاء في شتّى أنحاء العالم في وحدة الإنسانية في مبدأها الأول وفي معادها الأخير، كما جاء في الذكر الحكيم «كلّكم من آدم وآدم من تراب» «وخلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم» وهناك عبر تاريخ الإنسانية الكثير من الفلاسفة والعلماء والمجتهدين في النصوص الدينية ومن الأدباء والفنّانين يؤمنون ويدعون لاٌحترام كرامة الإنسان وحقّه في الحياة الكريمة حيث ينعم بالعدل والسلام مهما كان جنسه ذكرا أو أنثى ومهما كانت عقيدته الدينية أو اٌنتماؤه الإثني ومهما كان لون بشرته أبيض أو أسود أو أصفر.
قد تنتظر الإنسانية طويلا قبل أن تتصالح التكتلات الدولية وتوجّه ميزانياتها بآلاف الملايير من الدولارات والعملات الأخرى إلى التنمية المشتركة وإزالة الأوبئة والفقر والجهل، بين ضفتي المتوسط والأطلسي والمحيط الهندي.
من الممكن أن يقتنع الساسة وقادة الرأي العام بوسائلهم الواسعة الانتشار بأن العالم لا ينقسم إلى فرسان الله (Les cavaliers de dieu) وحرّاس المعبد Les Templiers ، فمن الممكن تحقيق التعايش السلمي في حدّه الأدنى الذي خاطب بها الرسول محمد (ص) قومه بالآية القرآنية: « لكم دينكم ولي ديني»، على الرغم من اللوحة القاتمة الآن والانهيار الأخلاقي في نظام القوة العالمي وأدواته الاستبدادية، لا ينبغي أن لا نفقد الأمل في ميلاد المواطن الإنسان (Le citoyen du monde) الذي عبر عنه مونتسكيو بقوة ووضوح في مؤلفه روح القوانين (L’esprit des lois) في السطور التالية: « إذا عرفت بأنّ شيئا يكون مفيدا لأمتي قد يكون مدمّرا لأمّة أخرى، فلن أقدم عليه لصالح أميري، لأنّني إنسان قبل أن أكون فرنسيا، وإذا كنت بالضرورة إنسانا فإنني لست فرنسيا إلا بالصدفة»
« Si je savais une chose utile à ma nation qui fut ruineuse à une autre, je me garderais bien de le faire à mon prince, parce que je suis homme avant d’être français et que si je suis nécessairement homme, je ne suis français que par hasard ».
العلمانية وتأميم الكنيسة
ينبغي الآن رفع اٌلتباس شائع حول مصطلح اللائكية منذ إعلانه سنة 1905 من طرف جول فيري سنة 1905 في فرنسا وليس في بلدان مسيحية أخرى فهو يعني فصل الدولة عن الكنيسة وليس عن الديانة المسيحية إذ أنّ من المؤيدين للعلمانية أو اللائكية مسيحيون شديدو التدين، بل أن جول فيري نفسه كان كاثوليكيا مطبقا للتعاليم الدينية ومواضبا على قداس الكنيسة
 (N.marouf : Quotidien d’Oran
27-07-2020).
لهذه العلاقة مع المؤسسة الكنيسة تاريخ طويل يعود إلى الانفصال عن البابوية في روما التي كانت سلطة أشبه بسلطة الخلافة في التاريخ الإسلامي، وقبل وبعد هذا التاريخ بقيت الكنيسة حليفة الإقطاع والملوك والأمراء في أروبا الغربية، وقد حافظت على التراث الهليني الروماني قبل المسيحية باٌعتباره مرجعية عامة للكنيسة، إذ نجد في مدينة أفلاطون وخاصة في محاورة فيدون وهي من روائع الأدبيات الفلسفية، أن المجتمع الأثيني يتكوّن من ثلاث طبقات يوجد الحكماء أو الفلاسفة في القمة ويحتكرون وحدهم العلاقة بالآلهة يأتي بعدهم المحاربون وفي الأسفل العبيد.
وقد اٌعتمدت الكنيسة ما يشبه التصنيف الطبقي السابق فالمجتمع يتكوّن من طبقة رجال الدين بمختلف درجاتهم في الكنيسة، يأتي بعدهم النبلاء والمحاربون، وفي الأسفل الأجراء (Cerfs) الذين يعملون بالسخرة للتكفير عن ذنوبهم.
تسارعت التحولات بعد اٌنتشار الفتوحات العلميّة واٌنطلاق الثورة الصناعية في غرب أروبا التي رافقها تزايد الطبقة العمالية وبروز الطبقة البورجوازية أعطت تلك التحولات صلاحيات للسلطة المدنيّة، وقلّصت تدريجيا من سلطات الكنيسة وأصبح اٌتباع توجيهاتها والمشاركة في طقوسها اٌختياريا وليس ملزما لأتباعها.
غير أن التقليل من السلطة المباشرة للكنيسة لم يؤثر على العقيدة المسيحية بكلّ مذاهبها ولا على النفوذ المعنوي للكنيسة في المجتمعات الأروبية فقد أخذت صورة أخرى هي المسيحية الاٌجتماعية
(Le christianisme social) الذي فتح المجال للأخوات والإخوان البيض والقساوسة للعمل في الحياة العامة بطريقة تطوعية تمولها الجمعيات الخيرية بإشراف الدولة وتشجيعها عن طريق التنويه بمساهمتها في مساعدة الآخرين.
لقد اٌستمرّ نفوذ الكنيسة اجتماعيا وثقافيا وإلى حد ما دينيا، فقد بقي على سبيل المثال الحرص على مباركة رجل الدين لعقد القران بين الزوجين وهو المقابل لما يسمى الفاتحة في مجتمعنا، وتواصل الجدل حول الإجهاض وعدم التوقف عن العمل يوم الأحد، كما بقي في الذاكرة الجماعية عند الكثير من الفرنسيين بأن بلادهم هي «البنت البكر للكنيسة» (La fille ainée de l’église)، ويردد عامة الناس عندما لا يعجبهم رأي أو سلوك مقولة «هذا ليس كاثوليكي» (C’est pas catholique)، وتجذب الكنيسة اللوثرية للبروتستانت الشباب لحضور القداس في صورة حفلات موسيقية ترتّل فيها مقاطع مختارة من الإنجيل وهو ما يشبه مجالس الذكر وتجويد القرآن فيالمساجد والزوايا، ومن الشائع في الولايات المتحدة إظهار جملة «نثق في الله (In God we trust) وهو المقابل عند المسلمين لجملة «لا حول ولا قوة إلا بالله».

في الجزائر إسلام التعبئة والمقاومة

هذه لمحة سريعة عن تطور العلاقة بالبابوية والكنيسة قبل وبعد القرن 19 تتطلب في الحقيقة أبحاثا عن التاريخ الاجتماعي والسياسي لأوروبا الغربية التي اٌنطلقت منها الحداثة المعاصرة، فما هو مسار هذه العلاقة في بلاد المسلمين التي تفوق ساكنتها عدديا المليار، ومن الحقائق التي لم تكن معروفة في الأوساط الشعبية في بلادنا أن المسلمين من غير العرب هم أضعاف عدد الساكنة من العرب في ما بين المحيط والخليج، ولعل من أسباب ذلك الحصار والغلق المطبّق على الجزائريين طيلة ليل الكولونيالية الطويل.
نحن لا نزعم لأنفسنا الكفاءة لتوصيف أو التعريف بالعلاقة بين الإسلام ومؤسساته والدول والأنظمة في عهود الخلافة وما بعدها، فقد حظي هذا الموضوع باٌهتمام باحثين كثيرين من داخل المنطقة ومستشرقين من زوايا ولأهداف متباينة، وقد خصّص إدوارد سعيد الفلسطيني بجنسية أمريكية دراسة للاٌستشراف (Orientalism) في علاقته بالإمبريالية أغضبت دوائر في الغرب الأوروبي الأمريكي وحلفائه في المنطقة.
إنّ الذي يهمّنا في هذه المقاربة هو الإجابة على السؤال التالي:
هل هناك ما يميّز العلاقة بين الدين ومؤسساته في تاريخ الجزائر الحديث؟ فإذا كانت الكنيسة ومازالت في علاقة مباشرة وودية مع الدولة عن طريق تبادل الأدوار في المجتمع كما هو الحال في المسيحية الاجتماعية والتعاون مع الدولة لغزو وتنصير العديد من شعوب العالم الثالث عن طريق المدفع والإنجيل الذي أسفر عن إبادة شعوب واٌستئصال ثقافاتها العريقة (كل القارة الأمريكية والأسترالية وعدد من الشعوب الإفريقية...)، إذا كانت هذه هي العلاقة بين الدولة والكنيسة والمسيحية بوجه عام، فإن الإسلام ومؤسساته التقليدية مثل الزوايا والمعمرات تحول إلى قوّة للتعبئة والمقاومة منذ بداية العدوان على الجزائر سنة 1830 وأصبح بالمصطلح الحديث قوّة وطنيّة شعبية وثورية.
حقا في بداية الهجوم الاٌنتقامي الإسباني البرتغالي على الجزائر باٌسم إعادة الفتح (Reconquista) بعد سقوط آخر معاقل الأندلس طلب الأعيان ورجال الدين الكثير منهم من ولاية تيزي وزو، وعين الحمام بالذات العون والنجدة من الباب العالي، ولا شكّ أن لصمود الشعب الجزائري ودعم الزوايا دور في هزيمة الغزو الإسباني في آخر معاقله في وهران، وأيا كانت العلاقة بالخلافة العثمانية،
 (.. يتبع)

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024