إشكالية مطروحة عبر العصور

الحداثة ليست مجرد التشبه بالأقوى وتقليده لكن تـوفـير شـروط إنتاج التقدم

بقلم: د. محمد العربي ولد خليفة


في الجزائر كانت الحداثة ولا تزال مطلبا لدى شريحة من المجتمع وخاصة بعد صدمة الاحتلال الاستيطاني وما أعقبه من مقاومة ثقافية ومسلحة طويلة، كان الأمير عبد القادر من روادها الأوائل فقد أدرك هول المسافة التي تفصل بلاده عن العدو الذي جاء من وراء البحر، بما وصل إليه من فنون وعلوم وقوة صناعية في بداية القرن 19، هوة لا يمكن تجاوزها بقرارات وفي سنوات قليلة، فالتقدم والحداثة يكونان نتيجة لتراكم المعرفة والخبرة ولمدة طويلة تقودها إرادة سياسية وما يسميه الأستاذ غريد المثقف الجمعي الذي يأخذ من الآخرين ما ينمي رصيد وطنه المعرفي والجمالي، ولا يكون مجرد صدى باهتا لإبداعات أخرى، أي لا تضيف شيئا يذكر للتراث العالمي في العلوم والفنون والآداب، تحمل خصائص حضارته بما فيها من أصالة وتنوع.

2)  إشكالية الحداثة  وصدمة الاحتلال

في الجزائر كانت الحداثة ولا تزال مطلبا لدى شريحة من المجتمع وخاصة بعد صدمة الاحتلال الاستيطاني وما أعقبه من مقاومة ثقافية ومسلحة طويلة، كان الأمير عبد القادر من روادها الأوائل فقد أدرك هول المسافة التي تفصل بلاده عن العدو الذي جاء من وراء البحر، بما وصل إليه من فنون وعلوم وقوة صناعية في بداية القرن 19، هوة لا يمكن تجاوزها بقرارات وفي سنوات قليلة، فالتقدم والحداثة يكونان نتيجة لتراكم المعرفة والخبرة ولمدة طويلة تقودها إرادة سياسية وما يسميه الأستاذ غريد المثقف الجمعي الذي يأخذ من الآخرين ما ينمي رصيد وطنه المعرفي والجمالي، ولا يكون مجرد صدى باهتا لإبداعات أخرى، أي لا تضيف شيئا يذكر للتراث العالمي في العلوم والفنون والآداب، تحمل خصائص حضارته بما فيها من أصالة وتنوع.
انقسمت النخب طيلة الحقب التالية إلى فئات تتقبل استيعاب مظاهر الحداثة الوافدة والسعي للوصول إلى منابعها ومحاولة الاندماج في نمط الحياة الخاص بها، وفئات أخرى تحذر من عمليات الاحتواء والاستقطاب التي أعقبت وتواصلت مع القمع والاستئصال الكولونيالي، وفئات ثالثة عملت على الاستفادة مما يمكن الحصول عليه من مناهج وعلوم من جهة وإحياء تراث الجزائر العربي الإسلامي والاهتمام خاصة بعلوم التاريخ والتعليم، وهو ما نجده في أطياف الحركة الوطنية من الفترة ما بين الحربين حتى خمسينيات القرن الماضي، خصص لها الباحثان المرموقان أبو القاسم سعد الله ومحفوظ قداش وتلاميذهما دراسات مستفيضة.انطلقت بعد التحرير موجة جديدة ظهرت خلال سبعينيات القرن الماضي وخاصة في مجالات القصة والرواية والشعر وفن المقالة والدراسات الأكاديمية، وتواصلت في خط تصاعدي حتى نهاية القرن والعقد الأول من هذا القرن، حيث ظهر كتاب يبدعون باللغة الفرنسية تكونوا في جامعات في داخل الجزائر وخارجها أو عصاميون، وآخرون يبدعون بالعربية وتكونوا في معاهد تستعمل اللغتين أو إحداهما، ولكل دوافعه وأهدافه، وفيما يتعلق بالعلوم الاجتماعية، فقد نشرنا سنة 1985 خلاصة تجربتنا وملاحظاتنا حول المدرسة والجامعة الجزائرية كما تعرفنا عليهما عن قرب في معهد العلوم الاجتماعية وعندما أسندت إلينا كتابة الدولة للتعليم الثانوي والتقني، كما قدمنا دراسة أخرى للأستاذ علي الكنز عن وضعية التدريس والبحث العلمي في جامعات المشرق العربي مرفوقة بتحليل وتعقيب في مجلة المجلس الأعلى للغة العربية (معالم) عدد (4) سنة 2011، وعلى أي حال فإن التراكم الابداعي والبحثي في حاجة إلى دراسات نقدية ومقارنة لقياس المسافة التي قطعتها النخب نحو تأسيس الحداثة ومدى تأثيرها في المجتمع ومؤسساته.  
ولا شك أن ثورة التحرير كانت أكبر تحول شهدته الجزائر فقد شملت كل طبقات المجتمع، وكان الخلاص من ظلام الكولونيالية هو المفتاح نحو الدخول إلى طريق الحداثة الطويل أي تأسيسها المعرفي، وقد بذلت جهود ناجحة وأخرى أقل نجاحا نستثني منها العشرية السوداء التي هي سبب ونتيجة لكل التفاعلات التي عرفتها الجزائر في تاريخها من العهد النوميدي وبعده، و أثناء ليل الاحتلال والمخاض العسير الذي واكب ثورة التحرير وميلاد الجمهورية والتطورات اللاحقة خلال الخمسين سنة التالية، وهو ما يدعو نخبنا المفكرة والسياسية إلى التوافق حول مشروع للمجتمع يستنطق تاريخه ويقرأ بعمق ما فيه من نجاحات واخفاقات، ويلبّي تطلعات أجياله، فنحن نسائل أنفسنا عما وفرناه في صندوق الادخار والاستثمار من معرفة وخبرة واكتفاء نسبي في حاجاتنا الأساسية وقد خصصنا للمسائل السابقة دراسة بعنوان: دروس من الماضي وآفاق المستـقبل نشرت في خمس حلقات في صحيفتي الخبر و مساء الجزائر (Soir-d’Algerie) بتاريخ 27 حتى 31 من شهر جويلية 2013، والثقافة في الجزائر من الاقتلاع إلى الاستقطاب ( الجزائر والعالم ملامح قرن وأصداء ألفية 2007).
من الواضح أن أثر التأسيس المعرفي للحداثة يظهر في التيارات الفاعلة في المجتمع السياسي وفي حوار الأفكار ومستوى الخطاب المتداول داخل الطبقة السياسية والموجّه لعامة الناس، ولا يتوقف عند مع هذا وضد ذاك بسبب التوزيع على الخريطة الجغرافية أولمصالح آنية وهو أمر شائع في منطقتنا وعلى درجات متفاوتة في أغلبية بلدان العالم قديما وحديثا فالتخلف هو قبل كل شيء سياسي ثقافي.  

3) التشرد الحضاري
لم يكن بالإمكان وضع أساس معرفي (ابستمولوجي)، سلوكي للحداثة بسبب الحرب الشعواء التي شنتها قيادات غير مستنيرة على حرية الفكر، والفكر الحر بالمعنى الهيغلي أي جدلية الأطروحة ونقيضها ثم التركيب بينهما باعتبارهما فرضيتين أو وجهتي نظر يتضمنان ذهنيا ما يقربهما من الحقيقة، وهي غير نهائية لأن جدلية هيغل تعيد المركب إلى مجرد أطروحة أخرى قابلة بدورها للجدل، ولذلك عندما حانت الفرصة وانهزمت الانظمة العربية في مجابهاتها غير الجادة مع اسرائيل سنة 1948  ثم سنة 1967، ثم الهزيمة – انتصار سنة 1973 انطلق النقد اللاذع من عنانه واعتبر الكثير من المثقفين أن الديكتاتورية هي أم التخلف وأبوه، فقد أدى كبت الحريات وتدجين الفكر وسيطرة ثقافة البلاط، الى التشرد Vagabondage الحضاري لقسم من النخب والهزائم المتلاحقة والتبعية المتزايدة للنظام الدولي وضغوطاته التي يتقبلها الكثير ممن يسمّون أهل الحل والعقد طوعا وليس كرها.
 أدى هذا الاقرار بالإخفاق والعجز عن تقديم البدائل، وخاصة في ميدان التنمية والبناء الديموقراطي إلى موجة من رثاء الذات أو جلدها كما يقول شعراء النكبات، ولم يعد أمام شرائح واسعة من الشعوب العربية والإسلامية ومن بعض النخب سوى التفتيش في مواقف وأوراق السلف عن إكسير لإنقاذ ما يمكن انقاذه، اي أن خيبة الانظمة هو أيضا اخفاق لحداثتها القشرية والمغشوشة، ويبدو لنا أن هذا الفشل هو من أهم عوامل ظهور البديل الإسلامي وتأثيره الكبير منذ عقد الثمانينيات بعد أن تشكك جيل السبعينات والثمانينات في الاطروحات الليبيرالية لمفكرين سيطروا على الساحة مثل زكي نجيب محمود وقسطنطين زريق وعبد الله عبد الدائم، فإنّ الجيل اللاحق لا يرى بوضوح البدائل التي يقدمها فكر آخر يتردد بين الليبيرالية وسيادة السوق ومقياس العرض والطلب والاشتراكية الماركسية التي أسفرت في نهاية المطاف عن طبقة من أرباب الحزب باسم العمال، بدل أرباب العمل من الرأسماليين وحرق قسم من التراث المخالف فيما يعرف بالثورة الثقافية التي قام بها ما يعرف بعصابة الأربعة في نهاية حكم الزعيم الصيني ماوتسي تونغ، وينبغي أن نشير إلى أن العودة إلى القيم- الملجأ Valeurs refuges وخاصة في التراث الديني، لا يخص المجتمعات الاسلامية قديما وحديثا فهو يصاحب الازمات الاجتماعية والصراعات الناجمة عنها عندما تعجز الأطراف المتقابلة عن تقديم بدائل للتجديد والتحديث لا تؤدي إلى فراغات أي قطيعة مع الاستمرارية التاريخية للأمة.
نقول إن العودة إلى القيم - الملجأ لا تخص المجتمعات الاسلامية فقط فالمجتمعات التي توصف بالمسيحية تواجه نفس المأزق بسبب الأزمات الاقتصادية حيث تتصاعد النزعات اليمينية المتطرفة والعنصرية وكراهية الآخر (الاسلاموفوبيا والزينوفوبيا) والانطوائية الوطنية إلى حد الشوفينية والمطالبة بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وفي الولايات المتحدة الامريكية يتوسع تيار «حفل شاي» (Tea party) الذي يذهب أبعد من الايديولوجية البوشية في بداية العقد الأول من هذا القرن.
والكنيسة نفسها تعاني من معضلة التوفيق بين مبادئ القديسين الأوائل وأمواج الحداثة التي تحاصرها، وقد أوضح هذا الحصار الأكاديمي الألماني هانز كرونح من جامعة توبنغن المتخصص في اللاهوت في دراسة بعنوان: العقيدة المسيحية مشروحة للجمهور طالب فيها مثلا بإصدار فتوى لإنهاء العزوبية المفروضة على القساوسة في زمن لم يعد فيه أهمية لعقد الزواج الديني أو المدني، ويسعى البابا الحالي القادم من أمريكا اللاتينية إلى انفتاحات محسوبة، وخاصة على الشباب للتقليل من آثار الأزمة الاجتماعية والاقتصادية وتقديم اجابات عامة وحذرة عن التحديات التي تواجه المجتمعات والدول في العالم المسيحي والموقف تجاه بقية العالم للتخفيف من آثار الحرمان والإحباط وسيطرة رأس المال المتوحش ومن المعروف أن الحبر الأكبر اختير من جنوب أمريكا التي انطلق منها لاهوت التحرير منذ سبعينيات القرن الماضي.


4) البحث عن الذات في الآخر
 لقد شغلت قضايا الحداثة والمعاصرة والأصالة عددا من
النخب في المشرق والمغرب نذكر منهم على سبيل المثال: علي احمد سعيد (أدونيس) في دراسة من مجلّدين صدرت بين 1974 و1978 بعنوان الثابت والمتحول والطيب تيزيني في كتابه من التراث إلى الثورة ومحمد عابد الجابري في دراسته بعنوان الخطاب العربي المعاصر سنة 1982 وزكي نجيب محمود في كتابه بعنوان: ثقافتنا في مواجهة العصر وقسطنطين زريق الذي نشر سنة 1977 دراسته بعنوان نحن والمستقبل وقد قام م. هيدسون M. Hudson من جامعة واشنطن (دي. سي). بدراسة استشرافية مقارنة ونقدية صدرت سنة 1979 بعنوان: مستقبل العرب، مصاعب المخرج، وقد تنبأ فيه بأزمات عقدي الثمانينيات والتسعينيات في العالمين العربي والإسلامي، كما قدم الأستاذ جاك بيرك ( وليد فرندة بتيارت) محاضرة عندما استضفناه في معهد العلوم الاجتماعية مستشهدا بملاحظاته الميدانية في كل من المغرب ومصر وبإحالات كثيرة على مقدمته للترجمة التي وضعها للقرآن الكريم ومن الدراسة التي أعدها بعنوان «العرب» وأرجع أزمة العالم العربي إلى النخب التي تراوح مكانها بين العجز والحيرة، والبحث عن الذات من خلال الآخر، ومن أحدث الدراسات الهامة تلك التي أصدرها الأستاذ اللبناني جورج قرم عن أزمة التحول في العالم العربي 2012، عن التنمية بلا نمو Growth والحداثة التي ينبغي أن تنقل المجتمع من الانقسام إلى طوائف وأعراق وسيطرة الكمبرادور إلى المواطنية القادرة على التحديث داخل المجتمع، ويقدم الباحث اللبناني جورج قورم كلا من كوريا الجنوبية واليابان ونمورها كنموذج لتوطين المعرفة والتحديث.
 ويمكن القول بان ذلك ممكن دون أن ننسى أن تلك البلدان تتمتع بنخب تجمع بين التفكير وحسن التدبير وأن حضارة العالم كله تتجه نحو جنوب شرقي آسيا والمحيط الهادئ قبل منتصف هذا القرن، كما تنبأ بذلك «فوكوياما» وهو يحث أمريكا الشمالية بالتوجه نحو ذلك العالم القديم الجديد وتمتين أواصر التحالف معه أكثر من أروبا القارة العجوز التي تتجه نحو الأفول والكساد.
وقد أدت أزمة التسعينيات الخطيرة إلى ظهور نخب فكرية وسياسية واجهت موجة التدين المسلح للاستيلاء على السلطة بمواقف وخطابات يمتزج فيها الأدب بالإيديولوجية على طريقة المنشقين عن الكرملن في العهد السوفياتي، وتحظى تلك النخب في أوساط أروبية وأحيانا أمريكية باهتمام، وحتى بالإشهار والجوائز الأدبية، نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر الكاتب بوعلام صنصال وبن تشيكو وياسمينة خضرا والباحث في التاريخ محمد حربي وبعضهم يقول ما يرضي أوساطا من اليمين واليسار في الغرب، وهم أحرار في التعبير عن السخط أو الرضى عن درجة الفتح أو الغلق في مجتمعهم والنظر في ماضيه القريب والبعيد، والجزائر ليست استثناء، فالحرية مسألة نسبية في كل الأنظمة واتساعها أو تضييقها يختلف من بلد إلى آخر ويرتبط أساسا بقوة أو ضعف دولة القانون والمؤسسات والإعلام واحد منها فقد منع  الممثل الفرنسي الأسود ديو دوني Dieudonné من تقديم عروضه المسرحية بتهمة معاداة السامية  قبل بضعة أسابيع، وأسدل عليه ستار الرقابة، ومن السهل إيجاد المبررات.
 إن الكثير من ضحايا عشرية الدماء والتدمير ينتظرون ومعهم أهل الفكر والتدبير، ينتظرون أبحاثا معمقة تجيب عن التساؤلات التالية: كيف وصلت الجمهورية الجزائرية إلى تلك المأساة وهي وليدة ثورة شعبية أصيلة، ومن أكثر ثورات العالم الثالث تقدمية، فلم تكن ضد دين أو مذهب أو عرق؟ وتبحث كذلك عن أجوبة عن الأسباب التي أوصلت بلادنا إلى ذلك الهوي السحيق؟ وما هي مضاعفاته في الحاضر والمستقبل على الدولة والمجتمع؟ كيف نعالجها؟ وما هي سبل الوقاية منها؟ إن النخبة هي التي تعرف لماذا هي مع أو ضد تيار سياسي، في عصر يصعب التمييز فيه بين الأصلي والمستورد، وأين يبدأ التأثير وأين ينتهي التأثـر وخاصة في الأنظمة الهشة في عالمنا التابع.
 هناك أيضا قائمة طويلة من المنخرطين في أحزاب والكتاب في بعض الصحف الوطنية تملي علينا الوضعية الحالية واجب التحفظ، فنحن نحترم المواقف المبدئية وحرية الرأي التي لا توجد نخبة فاعلة بدونها، وفي انتظار التشكل المنتظر للمجتمع المدني ومقاييس التقييم للإبداع، فإننا نرى أن العالمية تبدأ من تقدير أثار الابداع العلمي والفني والأدبي في المجتمع الأصلي لتصل بعد ذلك إلى العالمية وليس العكس، وهو ما يبرّر تساؤل الكثيرين عن التوظيف السياسي للجوائز المخصصة للسلام وللآداب، ولماذا من النادر أن يحصل عندنا مختصون في علوم المقدمة على تلك الجوائز؟ هل هو الفجوة الحضارية؟ ولماذا تكثر عندنا التكريمات الطقوسية المتبادلة وأحيانا لمن هبّ ودبّ ؟.
«يتبـــــع»

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19450

العدد 19450

السبت 20 أفريل 2024
العدد 19449

العدد 19449

الجمعة 19 أفريل 2024