أحمد طالب يتذكّر

بقلم: الدكتور محيي الدين عميمور

لعلّ صدور الجزء الثالث من مذكّرات الدّكتور أحمد طالب الإبراهيمي هو أهمّ انطلاقة للاحتفالات الثّقافية بالذّكرى السّبعين لثورة نوفمبر الثورة الخالدة.
والكتاب ترجمة جيّدة لمذكّراته بالفرنسية، حيث أنّه يقتصر كتاباته على استعمال لغة فولتير، برغم بلاغته في استعمال اللغة العربية، وسيكتشف القارئُ المُتمعّنُ الأصل الفرنسي في تعبيرات كثيرة، برغم حرص الترجمة على الموازنة بين صدق التعبير وجمال العبارة.
«مذكّرات جزائري» صدرت بعنوان أريد متواضعا ليَدخل إلى القلوب ببساطة، والجزء الثالث من نحو 700 صفحة، وهو استعراض شبه حصري لنشاطات المؤلّف عبر مراحل زمنية متتالية، وهي نشاطات بالغة التنوّع والثّراء والفعالية، حرص المؤلف في استعراضها على تسجيل تواريخ الأحداث، بحيث بدا أنّه اعتمد على برقيات وكالة الأنباء الجزائرية وما نشر عنها ومنها في الصحف الوطنية.
غير أنّني أشهد أنّني ما دخلت يوما على طالب في مكتبه إلاّ ووجدته منهمكا في ملء سجل كبير الحجم، ممّا يذكّرني بالمرحوم الجنرال حجريس.
والكتاب ردّ عملي على الكسالى الذين لا يكتبون، ثم يتّهمون من يتحمّل عبء الكتابة بالذاتية بل وبالنرجسية، في حين أنّ الحديث بصيغة المتكلم هو جزء أساسي من أي شهادة يقدم بها الكاتب ما عاشه من أحداث، ولم يعرف استعمال صيغة الشخص الثالث بالشكل الدائم إلاّ في قصص أغاثا كريستي وعلى لسان بطلها البلجيكي هيركول بوارو، كنوع من الغرور والتعالي.
وتتّسم مذكّرات طالب بالوفاء للرئيس هواري بو مدين، فهو يقول عنه: [على امتداد 13 سنة صاحبتُ شخصية استطاعت أن تكوّن نفسها، خلف ملامح قاسية ومتقشّفة، بصبر وأناة، عبر اتصالها أولا بسهول «قالمة» الوعرة، ثم بمركز العلم والوطنية في قسنطينة، فالقاهرة التي تشبع فيها بالعروبة والروح الأزهرية (..) لقد هامَ بالجزائر وتعلق بالعدالة الاجتماعية وعاش بسيطا مثالا في النزاهة، لا يفرّق في الشأن العام بين القريب والبعيد، فلم يقبل أن يدنو ذووه من السلطة أو يستفيدوا منها، وعندما جاء أجله غادر هذه الدنيا دون ذرية أو ثروة (..) إن بو مدين لم يكن الزعيم الوحيد في العالم الذي تعرض لمعاملة غير لائقة بعد وفاته (..) غير أنّنا، في هذه الحالة بالذات، لسنا أمام مسألة بسيطة تنحصر في كيفية التعامل مع إرث أو ضمان خلافة سياسية أو تغيير نظام، فالعملية أبعد من ذلك لأن أصحابها يستهدفون محو ماضٍ بأكمله، وسياسة بعينها] (ج 2 / ص 8).
والواقع أنّ هذا الكلمات هي ردّ مُفحم على بعض من يدّعون أنّ طالب كان يحمل للرئيس الراحل بعض البُغض، بخلفية تتعلّق ببعض صراعات السلطة أو تداعياتها (لجنة الميثاق الوطني في 1975 ومغادرة الحكومة في 1977).
والحجم الضخم للمذكرات يجعل من الصعب على القارئ المتعجّل استيعاب كل الصفحات، وقد يُحسّ أنّها خلت من أدوار شخصيات كانت جزءا من المراحل التي تناولها الكاتب، ولا أذكر أنّني قرأت أسماء محمد أمير وإسماعيل حمداني وحاج يعلا وأحمد حوحات وعبد المجيد أعلاهم وآخرين...وربما تمّت الإشارة للبعض بشكل عارض قد يتناقض مع أهمية دورهم آنذاك.
ولعل هذا هو ما جعل المؤلف، وهو يتحدث عن حاجة القائد الناجح إلى فريق عمل كفء، يقول بكل نزاهة: (وإذا تبين أنّ أسماء بعض هؤلاء الجنود البناة قد سقطت فذلك لم يكن عن قصد وإنما لخلل في الذاكرة) (ج 2 / ص11).
ولا بد من التذكير بأنّ قيادة الإعلام في السبعينيات تحمّلتها أربعة مؤسسات تتكامل مهامها، أولها وزارة الإعلام والثقافة، ويتولاّها الدكتور طالب، والثانية لجنة الإعلام والتوجيه بالحزب ويرأسها محمد الشريف مساعدية، ثم المحافظة السياسية للجيش الوطني الشعبي ويقودها الرائد (آنذاك) الهاشمي حجريس، وأخيرا مديرية الإعلام بالرئاسة التي كنت أديرها بصفتي مستشارا لهذا القطاع.
لكن القائد الأعلى لكل النشاطات كان الرئيس، وهذه نقطة أصرّ طالب على توضيحها بالنسبة لكل القطاعات.  
وأستكمل هذا التعليق البرقي بالإشارة لوقائع كنتُ جزءا منها، وآمل أن يتداركها الكاتب في الطبعات التالية، حيث أنّ نقصا في استكمال صورة الحدث قد يؤثر على النظرة الإجمالية لهذا العمل المتميز.
ومن الأحداث التي أعنيها خطاب الرئيس هواري بو مدين التاريخي في مؤتمر القمة الإسلامية بباكستان، حيث قال المؤلّف من أنّ بو مدين تخلّى عن الخطاب الذي أعدّ سلفا، لكنه لم يُوضّح السبب.
وواقع الأمر، فيما أعرفه، أنّ الخطاب الرسمي الدّسِم، الذي أعدّته مجموعة ربما كان طالب من بين أعضائها، بدا للرئيس شحنة من البلاغة الديبلوماسية أراد تجنّبها في حديثه لقادة المسلمين، الذين كان يخشى أن يُلوّث أفكارَهم تزايدُ وارداتِ النفط وتجاهلُ ما تعانيه دول إسلامية كثيرة من سوء الحال، ومن هنا ارتجل خطابا تحدث فيه بتناغم هائل بين العاطفة والعقل.
وتولّت مجموعة مديرية الإعلام بالرئاسة، بمن فيهم حمدادو، إعداد النص الرسمي انطلاقا من التسجيل الصوتي، ولم يتدخل في عملية الإعداد أي فرد من خارج المديرية، بمن في ذلك المرحوم مولود قاسم.
وكان الدكتور طالب قد زارنا في مقر إقامتنا ونحن نعدّ الخطاب، وبدا مرهقا، فعرضت عليه أن يستريح في غرفتي، وعند استيقاظه من النوم كان أول من أطلع على النص المُعدّ، بعد أن أكمل سكرتيري جبايلي طبعه على الآلة الكاتبة، وسلّمته بنفسي نسختين، إحداهما للرئيس.
ولقد أردت بهذا التوضيح أن أؤكّد مسؤوليتي الكاملة عن أي نقد يُوجّه لنص الرسمي، حيث كنت حذفتُ من الخطاب جملة يقول الرئيس فيها: (لن أدعو الناس لدخول الجنة وبطونهم جائعة)، وخشيت أن يُساء تأويل التعبير من قبل بعض المتأسلمين (وهو ما حدث فعلا عندما أذيع النص المتلفز كاملا انطلاقا من التسجيل الباكستاني).
ولم أستشر أحدا فيما قمت به، بمن فيهم الرئيس نفسه، حيث تصورتُ أنني أعرف رأيه، الذي أكده طالب عندما روى مقولة  بومدين:(إنّني إذ أنظر إلى هذه الأفواج من المؤمنين أتساءل ما إذا كان الأمر سينتهي يوما بهذه الجموع الإسلامية إلى أن تعثر على رجال أو حركات تقودها نحو تحقيق السعادتين في الدنيا والآخرة، أو أنها ستكون فريسة للمجانين أو المشعوذين).
ولم يصلن أي تعليق سلبي من الرئيس قبل حفل العشاء الرسمي، فأمرتُ بتوزيع النص، بعد أن ترجمَه محمد عبد اللطيف إلى الفرنسية ومحمد طاع الله إلى الإنجليزية.
وبمناسبة الخطب، كنت أتمنّى أن يخصّص طالب حيزا لاستعراض خطاب الرئيس بو مدين في دمشق سبتمبر 1978 عن التوازن الإستراتيجي مع العدوّ، والذي كان استعراضا رائعا قدمه الرئيس متغلّبا على مرضه الذي لم نكن نعرف عنه شيئا، والذي أجهز عليه في نهاية العام.
ولعلّي أسجّل أنّ ممثّل مصر في جنازة الرئيس
بومدين كان السيد إبراهيم شكري، رئيس حزب العمل المعارض، في حين أن بومدين شارك في جنازة عبد الناصر، بل وكان في طليعة الواصلين.
والواقع أنّ حجم المذكرات الكبير والاعتماد أحيانا على الذاكرة كان لا بد من أن يؤدي إلى بعض الثغرات، كحديث الدكتور عن تكليفه بإعداد خطاب الأمة الذي يلقيه الرئيس الشاذلي بن جديد أمام المجلس الشعبي الوطني في مارس 1979 (ج 3 / ص 42).
وواقع الأمر أن الرئيس لم يكن مُعَدّا أو مستعدا لإلقاء خطاب في الدورة الربيعية، واتفقتُ معه على أن يؤجل الخطاب إلى الدورة الخريفية، وهو ما حدث بالفعل، وتكفل طالب بكتابة الجزء الدولي من الخطاب، وكان إثراء متميزا ما زلت أذكر جملته الافتتاحية: كان 1979 عام انتصار الحقائق على الأكاذيب، بينما كتبتُ أنا الخطاب كبقية خطب الأمة الأربعة.
وعلى ذكر الخطب لا بد من التوقف ببعض التفصيل عند خطاب الملك الحسن الثاني في اجتماع نيروبي، الذي قال المؤلف أنه قبل فيه الاستفتاء (ج 3 / ص 98).
وواقع الأمر أنّ الأمر لم يكن كذلك، إذا قال الملك باللغة الفرنسية أنه يقبل استفتاء يؤكد (مفهوم) المغرب لحقوقه المشروعة في الصحراء، وكان رأيي أن هذا لعب بالألفاظ [وهو ما كنت تناولته في كتابي: أنا وهو وهم، الذي صدر في 2007 وأرسلت به للرئيس الذي لم يعترض على ما أوردته].
ولأنّ مهمّتي كانت إعداد مداخلات الرئيس فقد سألته بعد الظهيرة عن توجيهاته بالنسبة لإعداد مشروع الردّ، فقال لي بأن (سي أحمد يُعدّ شيئا في هذا الصدد).
وفوجئت في الجلسة التالية بأن الرئيس قرأ، وللمرة الأولى، ردّا مكتوبا بالفرنسية، مضمونه أن اقتراح الملك هو خطوة إلى الأمام.
كان الردّ قد أعدّ بدون مشاركتي، وظننت، وبعض الظن فقط هو الإثم، أنها محاولة لتجاوزي، رأيا أو دورا، وكانت النتيجة مؤسفة، فقد تعثّر الرئيس عند تلاوته، وأسرّ لي بعد انتهائه بوجود أخطاء مطبعية في النص الذي قرأه، ولم أخفي عنه أنّني لم أطلع عليه إطلاقا.
ويبقى أنّ طالب بذل في كتابة مذكراته جهدا مشكورا، كان الوحيد الذي سبقه إليه المرحوم أحمد توفيق المدني بمذكراته ذات الأجزاء الثلاثة، وآمل أن تجد من مجموع السياسيين والدبلوماسيين التفاعل الإيجابي الذي يخرج بنا من وضعية ركود الفكر السياسي.
فطالب رصيد وطني هامّ، وأنا أشعر بحسرة كبيرة لأن الوطن لم يستفد في العشرية الأخيرة من كفاءة رجل بحجمه، خصوصا فيما يتعلق بتنظيمات حزب جبهة التحرير الوطني أو بتسيير بعض المؤسسات الوطنية المركزية، وهو ما كنت قلته عندما سجّلتُ رفضي لمنطق انسحاب المرشّحين للانتخابات الرئاسية في 1999، والذي ربما كان وراء عملية التّهميش.
ويبقى لطالب فضل المجتهدين.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19432

العدد 19432

الأربعاء 27 مارس 2024
العدد 19431

العدد 19431

الثلاثاء 26 مارس 2024
العدد 19430

العدد 19430

الإثنين 25 مارس 2024
العدد 19429

العدد 19429

الأحد 24 مارس 2024