..لكي لا يموت سي الشاذلي أكثر من مرة

بقلم: الدكتور محيي الدين عميمور

تتوافق الذكرى الثانية لوفاة الرئيس الشاذلي بن جديد (6 أكتوبر 2012 ) هذا العام مع الاحتفال بعيد الأضحى، الذي كان الشّغل الشّاغل لمعظمنا فيه تناقل الأخبار المتعلقة بارتفاع سعر الأغنام، ونسي كثيرون الترحم على الرئيس الرابع للجزائر، وهو ما ليس أمرا جديدا، فقد مرّت أكثر من ذكرى لوفاة من سبقه ولم يتوقّف عندها أحد فيما أعرف.

وأنا لا أستطيع السكوت في مناسبات كهذه لأنّها تتعلّق بجزء مجيد من تاريخنا، وأرى أنّ من واجبي التذكير ببعض ما عرفته عن رجالاته، وأعرف أن كثيرين سينتهزون الفرصة للقول بأنّني أمارس الذاتية في ما أكتبه، وكأن المطلوب منّي، كشاهد، أن ألغي وجودي وأنا أتناول ذكرياتي.
وقد قلت مرارا أنّ هذا هو ما أقدر عليه، وعلى من يستطيع أن يقدم أحسن من هذا أو أكثر منه أن يتقدم الصفوف، وأن يشعل شمعة بدلا من أن يلعن الظلام.
ولأنّني أعرف أن سي الشاذلي ظلم كثيرا، أواصل تفنيد بعض ما نسب له أو حسب عليه، مع الاعتذار لمن سبق لهم أن قرءوا بعض هذا في كتابات سابقة لي.
وأهم ما أذكر به ذكاء الرجل، وهو ما لاحظته خلال أول زيارة رسمية قمنا بها خارج الوطن، وكانت إلى سوريا.
بدأت رحلتنا في الأسبوع الأخير من شهر مارس 1980 بقضية طريفة كانت لها أهميتها البالغة في تعرّفي على أبعاد شخصية الرئيس، فقد كنت أتساءل خلال الرحلة عمّا إذا كان مدير التشريفات قد أبلغ الرئيس بتفاصيل الاستقبال في مطار دمشق، المحطة الأولى في الجولة العربية.
كنت أذرع الطائرة جيئة وذهابا وأنا أبحث عن فرصة أتأكّد فيها من أنّ الرئيس على علم بأسلوب استعراض حرس الشرف السوري الذي يعزف عادة موسيقى ثلاثية الإيقاع (تشبه الفالس) وتختلف عن الإيقاع المألوف لدينا، ممّا جعلني أخشى أن يتعثّر الرئيس خلال الاستعراض لأنه لم يألف هذا الأسلوب، وجاءت الفرصة وأنا أمرّ، للمرة الثامنة أو التاسعة، أمام المائدة التي كان الرئيس يجلس إليها وبجواره الأخ محمد الصالح يحياوي وأمامه العقيد عبد الله بلهوشات، الذي ناداني ليسألني عن الفترة الزمنية المتبقية للوصول إلى دمشق.
ووقفتُ أمام منتصف المائدة متّجها للعقيد بكل جسمي، وبحيث كان الرئيس خلفي من ناحية اليمين، وقلت له ردا على سؤاله بأنّنا سنصل في حدود نصف ساعة، ثم واصلتُ محاولا، بصوت عالٍ، شرح أسلوب السوريين في الاستقبال، والموسيقى المُستعملة والتي تختلف عن أسلوبنا.
وأجابني بلهوشات بغمغمة غير متكاملة، وعاجلته بإعادة شرح أسلوب استعراض حرس الشرف عند السوريين والشرقيين عموما، وقضية تحية العلم الموجود في وسط الفرقة التي تقدم التحية الشرفية و....، ولكنه قاطعني بالقول...العرب دائما....ولم يكمل جملته لأن الرئيس تدخل قائلا له بهدوء: يا عبد الله...الدكتور يوجه الحديث لي وليس لك.
وهناك اتجهت له بكل جسمي واستكملت شرح الفكرة، التي لم أشعر أنه كان يعرفها.
وكان موعدنا في اليوم التالي مباشرة للمشاركة في لقاء جماهيري في العاصمة السورية بمحضر الرئيس الأسد الذي سيلقي خطابا للترحيب بالزائر الكبير.
كان اللقاء في بلد عُرف بأنه قلب العروبة، وقد ألف رجالا طوال الباع في الخطابة، من بينهم الرئيس الأسد نفسه، وكانت للأشقاء في سوريا فرصة الاستماع للرئيس الراحل هواري بو مدين، الذي كان تدخله في مؤتمر قمة الصمود في سبتمبر 1978 حدثا لا ينسى.
وكان القرار الذكي أن يلتف الرئيس الشاذلي حول الجماهير ويأتيها من حيث لا تنتظر، وهكذا كانت النقاط التي قمت بإعدادها تتسم بالتواضع الكبير، وكان من بين ما قاله الرئيس: “ما جئت هنا لأتكلم بل جئت لأعيش مع إخواني دروس الصمود العربي الذي يتمثل في سوريا، وتاريخها كله تاريخ بطولات وتضحيات، وجئت لأؤكد لكم تمسكنا بالالتزامات التي قطعها لكم الرئيس الراحل بو مدين.
ولم تكن الجماهير تنتظر هذا التواضع وهذه البساطة الأخوية من زعيم بلد عظيم مثل الجزائر، ولعلها كانت تتوقع خطابا يستعرض ما قدم لسوريا من دعم أو يُعطي توجيهات ثورية تدعو لتحرير الأرض العربية السليبة، إلى آخر تلك الأدبيات التي برع فيها بعض الزعماء العرب.
وانفجرت الجموع في الملعب الرياضي بحماس هائل لعله تجاوز حماسها للرئيس الأسد، وأتصور أن الرئيس سُعد بحسن بتجاوب الجماهير الرائع مع كلماته، لكن ردود الفعل على مستوى أعضاء وفدنا كانت السخط على من أشار على الرئيس بإتباع هذا الأسلوب، وتجاهل كثيرون، بخلفيات المواقف ضدي، أن الهدف المطلوب تحقق كاملا.
أما الموقف الثاني فهو يؤكد أن الرئيس الشاذلي كان قادر على اختيار أحسن البدائل التي تطرح أمامه، وهذا ما قد يفسر عملية التصفيات التي عرفتها الجزائر مع منتصف الثمانينيات، والتي كان هدفها احتكار فكر الرئيس بحيث لا يكون أمامه أي اختيار إلا ما يقدم له من اتجاه معين.
حدث ذلك خلال الاستعداد لعقد المؤتمر الخامس لحزب جبهة التحرير الوطني في ديسمبر 1983، والذي عرف تصفيات كانت، على ما أظن، بداية الطريق نحو أحداث أكتوبر 1988.
وتمّ استبعادي من اللجنة التحضيرية للمؤتمر التي (طبخها) الجنرال العربي بلخير، الذي طلب مني أن أقوم، كالعادة، بإعداد سيناريو تدخل الرئيس في الجلسة الافتتاحية، لأنه لم يكن قادرا على تجاهل خبرتي في هذا الميدان.
ويستدعيني الرئيس إلى مكتبه ليسألني عن أحوال المؤتمر فقلت له بأنني لا أدري، ونظر لي بدهشة فأكملت حديثي قائلا بأنه، على غير العادة، تم استبعادي من لجنة إعداد المؤتمر، وبالتالي فأنا لا أعرف على وجه التحديد مجريات الأمور.
كنت أعني بالطبع كل كلمة قلتها، ولم يُعلق الرئيس، ثم واصل حديثه قائلا بأنه سيفتتح المؤتمر وسوف.. وقاطعته متسائلا: بأي حق تفتتح المؤتمر؟ وأجابني بمزيح من الدهشة والغضب: أليس من حقي أن أفتتح مؤتمر الحزب وأنا أمينه العام؟ وأجبته بسرعة: لا..ليس من حقك.
وساد صمت ثقيل، وكنت قررت ألا أتستر على أحد، وأن أتحمل مسؤولياتي النضالية إلى أبعد مدى ممكن، وأقول رأيي بكل صراحة، وبكل أدب بالطبع.
وعاد الرئيس يقول: اشرح لي الأمر.
وقلت: النظام الداخلي يضع تنظيما خاصا لافتتاح المؤتمرات العادية للحزب، ينصّ على أن المؤتمر يفتتحه أكبر الأعضاء سنا يرافقه أصغر الأعضاء سنا، ثم يتم تشكيل مكتب المؤتمر بالانتخاب، ويعطي الكلمة للأمين العام ليقدم تقريره.
وعاد الرئيس يسأل: أهذا هو القانون؟ وهززت رأسي بالإيجاب.
وقال لي الرئيس بهدوء: إنك لم تعطن هذا التصور من قبل، وقلت له بصراحة أنني لا أتطفل، ولم أعد أتحدث إلا عندما يُطلب مني الحديث.
ويرفع الرئيس بنفسه سماعة الهاتف ليأمر الجنرال باستدعاء الموجودين من أعضاء اللجنة التحضيرية للمؤتمر، وهكذا جاء محمد الشريف مساعدية وبشير رويس ومولود، حتى تجمع في مكتب الرئيس أكثر من عشرة أشخاص على ما أذكر، وطرح الرئيس عليّ السؤال من جديد بحضور الجميع، فأعدت الإجابة باختصار.
وتوتر الجنرال وهو يقول إن النظام الداخلي وُضع في ظروف خاصة، وليس هناك فراغ يبرر اللجوء إلى غير الأمين العام لافتتاح المؤتمر، وقلت بهدوء أن النظام واضح، ويمكن أن يتم تغييره ولكن إلى أن يحدث ذلك لا بد من احترامه حرفيا، ولم ينطق أحد من الحاضرين بكلمة واحدة.
ويستدعيني الرئيس ثانية ليبادرني بالقول: “كيف ترى سيناريو الافتتاح؟”.
وقلت: دخول الأمين العام للحزب الذي يتخذ مقعده في مواجهة المنصة، ثم عزف السلام الوطني، ثم صعود أكبر الأعضاء سنا يرافقه أصغرهم إلى المنصة، ثم انتخاب مكتب المؤتمر الذي يُعطي رئيسه الكلمة للأمين العام ليلقي خطابه.
ويعطي الرئيس التعليمات باتباع السيناريو كما رأيته، وأثبت قبوله لوجهة نظري ضد قرار كبار القوم، إن صح التعبير، أن مراهنتي على حكمته كانت صائبة، فهو يملك واحدة من أهم مميزات القائد وهي المقدرة على فحص البدائل المطروحة أمامه واختيار أحسنها وأكثرها قانونية، مع التذكير بأن هذا حدث والرئيس مشحون تماما ضدي من قبل كثيرين، داخل الرئاسة وخارجها، ولكن هذا لم يمنعه من قبول رأيي، وهو، في تصوري، قمة الشعور بالمسؤولية وتعبير واضح عن الذكاء.
وهكذا دفعتُ كثيرين إلى تكثيف محاولات التخلص مني، وكان عليّ أن أتوقع بأن الرئيس سيتعرض، بشأني، إلى ضغوط جديدة متزايدة، لا أعرف إذا كان سيتمكن من مواجهتها.
ولم يعد هذا الأمر يعنيني، فقد أصبح يقيني أنني مذبوح في العيد أو في عاشوراء.
وينهي الرئيس مهمتي الرئاسية في الشهر التالي للمؤتمر، الذي أخرجت فيه من اللجنة المركزية للحزب، وأجتاز الصحراء نحو خمس سنوات، ولكنه يستدعيني ثانية في 1989، وبمبادرة منه أكدها لي وزير الخارجية بو علام بسايح، أكدت إحساسه بأنني ظلمت، وهكذا أصبحت سفيرا في باكستان لنحو ثلاث سنوات، إلى أن أرسلني الرئيس محمد بو ضياف ثانية للصحراء، ولأكثر من خمس سنوات هذه المرة.
ورحم الله رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
آخر الكلام
اليوم، تحية لرجال 6 أكتوبر 1973 في مصر وسوريا، ولقادة الحرب المجيدة، التي لم تكن نتائجها السياسية في مثل عظمة أدائها العسكري، وفي مقدمتهم الفريق الشاذلي، وللزعماء الذين وقفوا صفّا واحدا وراء المقاتلين، وفي مقدّمتهم هواري بو مدين، وللشعوب التي وضعت ثقلها لدعم أمل أجهض فيما بعد مع سراب اتفاقية سلام لم يتحقّق بكل معطياته.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19449

العدد 19449

الجمعة 19 أفريل 2024
العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024