٢٠ سنة على رحيل الدكتور الطاهر حليس

وقفة تذكر لخصال شخصية أفنت حياتها من أجل العلم

بقلم : أ . د مسعود فلوسي جامعة الحاج لخضر باتنة

الحلـقـــة الاولى

عقدان من الزمن مرا على رحيل أستاذنا الدكتور الطاهر حليس رحمه الله، كان رحيلا مفاجئا ومفجعا، فالرجل لم يكن قد تجاوز الحادية والخمسين من العمر، ولم يكن يكل أو يمل من العمل والنشاط والحركة، فمن إدارة معهد جامعي، إلى تدريس الطلاب، إلى الخطابة في المساجد، إلى المشاركة في الأنشطة الاجتماعية المختلفة، كل ذلك توقف في لحظة ما من مساء يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر أكتوبر من سنة 1994، حين امتدت الأيادي الآثمة لتغتال هذا الرجل عندما كان عائدا إلى بيته بعد أدائه لصلاة المغرب في المسجد القريب من مقر سكناه.. واليوم، وبعد مرور عشرين سنة على رحيل أستاذنا، من حقه علينا أن نذكره ونُذَكِّرَ بمآثره، ونبرز خصاله ومناقبه. وهذه هي الحلقة الأولى من هذا المقال الذي نكتبه عنه بمناسبة هذه الذكرى.

موجز عن حياته
هو الطاهر بن مبارك حليس، ولد سنة 1943 في بلدة أولاد شليح الواقعة على الطرف الجنوبي لمدينة باتنة، وفي هذه البلدة نشأ وترعرع وحفظ القرآن الكريم في إحدى كتاتيبها. زاول دراسته الابتدائية في مدرسة النشء الجديد بمدينة باتنة، ثم انتقل إلى مدينة قسنطينة أين التحق بالزاوية الكتانية التي حصل منها على شهادة الأهلية سنة 1964. سافر بعد ذلك إلى القاهرة التي درس فيها المرحلة الثانوية وحصل على البكالوريا سنة 1967. عاد إثرها إلى الجزائر واشتغل في التعليم.
لم يقنع بالمستوى التعليمي الذي حصل عليه، فقرر مواصلة الدراسة، ولذلك التحق بمعهد الآداب واللغة العربية في جامعة قسنطينة ليتخرج بشهادة الليسانس سنة 1973. عين بعد ذلك في المعهد التكنولوجي لتخريج الأساتذة والمعلمين بمدينة باتنة أستاذا مكوِّنا..
أتيحت له فرصة مواصلة دراسته، فلم يتردد في الالتحاق بالجامعة من جديد، حيث زاول دراسته التمهيدية العليا، ثم أعد رسالة الماجستير التي تمت مناقشتها في كلية الآداب واللغة العربية بجامعة باتنة سنة 1986، وكان حينئذ أستاذا معيدا بنفس المعهد، فتمت ترقيته إلى أستاذ مساعد.
في سنة 1987، أنشئ معهد العلوم الإسلامية بباتنة، كفرع لمعهد الشريعة في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، ووقع الاختيار على أستاذنا ليكون مديرا له، فتولى المهمة بكل تفان وإخلاص مدة أربع سنوات، ولذلك تم تثبيته في هذا المنصب بعد أن استقل المعهد وأصبح معهدا وطنيا للتعليم العالي للعلوم الإسلامية سنة 1991.
وعلى الرغم مما كان يأخذه المعهد من وقت وجهد أستاذنا، إدارة وتدريسا، وكذلك ما تأخذه خطبة الجمعة إعدادا وإلقاء، إلا أن ذلك لم يمنعه من مواصلة البحث لإعداد رسالة الدكتوراه، فكان دائبا في جمع المادة العلمية وتحريرها حتى انتهى من كتابة الرسالة وحصل على الإذن من مشرفه لطبعها، وكان على وشك تقديمها للمناقشة، لكن حال دون ذلك تعرضه لعملية الاغتيال التي أودت بحياته مساء يوم الجمعة 21 أكتوبر سنة 1994.

معرفتي به
تعود معرفتي بأستاذي الشيخ الطاهر حليس رحمه الله، أو الحاج سي الطاهر كما كان يعرفه الناس في باتنة، إلى أيام المرحلة الثانوية، حيث كنت أزاول دراستي في ثانوية عائشة أم المؤمنين بحي بوزوران في مدينة باتنة (ما بين 1984 و1987)، وكنت عند العودة إلى البيت أسلك طريقي عبر شارع الجمهورية (طريق بسكرة)، وأمر رفقة بعض زملائي أمام مقر محافظة حزب جبهة التحرير الوطني، وكان الحزب الوحيد حينئذ، أين كان الحاج الطاهر حليس يشغل منصب نائب محافظ مكلف بالثقافة. وكانت المحافظة في إطار نشاطها الثقافي تنظم ندوات وملتقيات دورية، وعادة ما تجري فعاليات تلك الندوات والملتقيات في المساء، وكان الأستاذ الطاهر حريصا على حضور الطلبة واستفادتهم مما يُلقى من محاضرات، ولذلك كان يعترض طريقنا عندما نكون بصدد العودة إلى بيوتنا حين نخرج من الثانوية، ويصر علينا أن ندخل إلى قاعة المحاضرات في المحافظة لنستمع إلى ما يقوله المتدخلون من أساتذة وباحثين، ويؤكد علينا أن في ذلك فائدة كبيرة لا ينبغي أن نُضيعها.
وفي تلك المرحلة كانت جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية قد افتُتحت في قسنطينة (1984)، وكان يُدرِّس فيها عددا من العلماء من جنسيات مختلفة، فكان الأستاذ الطاهر حريصا على استقدامهم وتعريف أهل باتنة بهم، وأذكر أنه استقدم الشيخ محمد الغزالي رحمه الله والدكتور عمار طالبي والدكتور جبر الفضيلات الأردني وغيرهم، وكان يطوف على المساجد ويعلن للناس عن هذه المحاضرات ويدعوهم إلى حضورها والانتفاع منها.
وعندما حصلتُ على شهادة البكالوريا، كان في نيتي أن ألتحق بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، وفعلا ذهبت إلى هناك وشاركت في مسابقة الدخول، وكنت من بين الناجحين. ولكني عرفت بعد ذلك أن معهد العلوم الإسلامية بباتنة سيُفتتح في تلك السنة أيضا (سبتمبر 1987)، ولذلك بادرت إلى التسجيل ضمن قائمة طلبة أول دفعة تدخل هذا المعهد.
وأذكر يوم الافتتاح الرسمي للمعهد، لقد كان يوما مشهودا، إذ أن العقيد الحاج لخضر رحمه الله الذي كان يشرف على بناء قلعة الإسلام (مسجد أول نوفمبر ومعهد العلوم الإسلامية)، أبى إلا أن يجمع لحضور حفل الافتتاح كل من يعرف من المسؤولين، ولذلك دعا لحضوره مسؤولي وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ووزارة الشؤون الدينية وإدارة جامعة الأمير عبد القادر، بل دعا إلى الحضور كثير من الشخصيات الوطنية. وكان حفلا بهيجا لا يمكن وصف تفاصيله.
انطلقت الدراسة في المعهد، وتم إلحاقه مبدئيا بمعهد الشريعة في جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة، كما تم تعيين الحاج الطاهر حليس – الذي كان حينئذ أستاذا بمعهد الآداب – مديرا له.

جهوده في إدارة المعهد

كانت صلتنا نحن طلاب المعهد بالشيخ الطاهر دائمة ومستمرة، فقد كان عددنا قليلا، إضافة إلى أن اهتمامه بنا كان مستمرا، فكان يستطلع آراءنا ويستمع إلى انشغالاتنا ويحرص على تحقيق ما أمكن تحقيقه من طلباتنا.
وخلال أربع سنوات من الدراسة، رأينا اهتمامه الشديد بالتحصيل العلمي، وحرصه على انتظام الدروس، وتفانيه في توفير الأساتذة وتهيئة الظروف المساعدة لهم على العمل والإفادة.
وكان من دأبه خلال تلك السنوات أن يدعو أساتذة زائرين من خارج الجزائر لتقديم محاضرات إضافية، وكان ممن حضر وحاضر، جملة من كبار الأساتذة المشهورين في العالم الإسلامي، أذكر منهم: أ.د. مصطفى ديب البغا (سوريا)، أ.د. محمد الزحيلي (سوريا)، أ.د. طه جابر فياض العلواني (العراق)، أ.د. أبو اليزيد العجمي (مصر)، أ.د. سليمان الخطيب (مصر)، أ.د. محمد حسن هيتو (الكويت)، وغيرهم. وأذكر أن محاضرات هؤلاء الأساتذة كان الناس يجتمعون من أنحاء المدينة لحضورها والاستماع إليها، ولم تكن مقصورة على طلبة المعهد وحدهم، وهو ما جعل المعهد حينئذ قِبْلة لأهل باتنة ومركز إشعاع علمي حقيقي.

تتلمذنا على يديه

دَرَّسَنا الشيخُ الطاهر حليس في السنتين الثالثة والرابعة مادة البلاغة، وكان يرجع إلى بعض الكتب المهمة في هذه المادة، ومنها كتاب (البلاغة فنونها وأفنانها) للدكتور فضل حسن عباس رحمه الله، وكتاب (البلاغة العربية) للدكتور عبد العزيز عتيق، وغيرهما. وكان يدرسنا بطريقة متميزة تجمع بين الجد والفكاهة. ومن ذلك؛ أننا كنا نسأله أحيانا عن بعض المسائل المشكلة في البلاغة محاولين فهمها، فيقول مازحا: وما دخلي أنا، اسألوا عنها الجرجاني أو السكاكي أو غيرهما من علماء البلاغة. ثم يبتسم ويجيب.
ولست أنسى في هذا المقام، تشجيع الشيخ الطاهر للطلبة على تنظيم أنشطة علمية وفكرية على هامش الدروس والمحاضرات، وأذكر أنه كلفني مرة بإلقاء محاضرة، عن (منهج المعرفة في ضوء علم أصول الفقه)، وعندما ألقيتها في المدرج حضرها شخصيا رفقة بعض الأساتذة، إضافة إلى مجموعة كبيرة من زملائي الطلبة. كما كلفني مرة أخرى بتقديم أحد الأساتذة الزائرين في محاضرة عامة، وهو الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي، الذي جاءنا من كلية الشريعة بجامعة دمشق حينئذ.
بعد أربع سنوات من الدراسة، وقبل انتهاء السنة الرابعة صدر المرسوم الحكومي بترسيم استقلال المعهد عن جامعة الأمير عبد القادر، وتسميته (المعهد الوطني للتعليم العالي للعلوم الإسلامية)، ومع ذلك فقد تخرجت الدفعة الأولى «جوان 1991″ تحت وصاية جامعة الأمير عبد القادر، حيث حضر الأستاذ الدكتور أحمد عروة رحمه الله مدير الجامعة حينئذ إلى باتنة ووقع شهادات الليسانس وأشرف على حفل التخرج.
وبعد أسبوعين أو ثلاثة من التخرج بشهادة الليسانس في العلوم الإسلامية، التقيت أستاذنا الشيخ الطاهر، وبعد أن سألني عن أحوالي وما أفكر في عمله بعد تخرجي، أخبرني رحمه الله أنه تم اختياري أنا وزميلي صالح بوبشيش وزميلتين أخريين للالتحاق بالمعهد، لمعاونة الأساتذة في التدريس كمطبقين، مع العمل في الإدارة والتكفل بالجانب البيداغوجي، وأوصاني بتحضير ملف التوظيف في أسرع وقت. وفعلا التحقت بالمعهد، وزملائي الثلاثة، في بداية شهر أوت 1991. وفي بداية السنة الجامعية (1991-1992) كلفنا الشيخ الطاهر بتدريس بعض المقاييس كمطبقين.

جهوده لفتح الدراسات العليا
لكن طموح الشيخ الطاهر لم يكن ليتوقف عند هذا الحد، فقد كان هاجسه الأكبر هو دفعنا إلى التكوين العلمي العالي وتمكيننا من ولوج عالم البحث العلمي، ولذلك سعى إلى فتح الماجستير على مستوى المعهد، رغم حداثة المؤسسة وقلة الإمكانات. وقد أثمر سعيه، إذ لم يلبث طويلا حتى تمكن من الحصول على ترخيص من وزارة التعليم العالي بفتح الماجستير، وأجريت حينئذ مسابقة لاختيار الطلبة، نجح فيها مجموعة من المترشحين من طلبة المعهد وطلبة جامعة الأمير عبد القادر، وكنت واحدا منهم.
حرص الشيخ الطاهر على أن يوفر لنا الأساتذة الأكفاء المؤهلين لتدريسنا المواد المقررة، وفعلا تم تكليف الدكتور يوسف حسين أحمد الذي درسنا الأصول والفقه المقارن، والدكتور علي عبد الفتاح المغربي رحمه الله الذي درسنا منهجية البحث العلمي، كما تم استقدام أستاذ من جامعة الأمير عبد القادر، هو أستاذنا في التفسير والحديث الدكتور محمد الطاهر الجوابي رحمه الله.
انتهت الدروس النظرية، وجاء موعد اختيار الموضوعات لتسجيلها على مستوى المجلس العلمي، واخترت أن أبحث في موضوع (مدرسة المتكلمين ومنهجها في دراسة القواعد الأصولية)، على أن يكون المشرف هو الدكتور محمد الطاهر الجوابي (تونس)، واختار زميلي صالح بوبشيش موضوع (الحيل الفقهية ضوابطها وتطبيقاتها على الأحوال الشخصية)، مع نفس المشرف.
ورغم أننا كنا نعمل كإداريين، أنا وزميلي صالح، إلا أن الشيخ الطاهر سمح لنا أن نخصص أكبر وقت ممكن للعمل في البحث، وما هي إلا سنة حتى كنا قد أعددنا رسالتينا، بعد أن أصبح المشرف عليَّ هو الدكتور يوسف حسين أحمد (الهند)، والمشرف على زميلي صالح هو الدكتور حسيب حسن السامرائي (العراق)، وتم تشكيل لجنتي القراءة على مستوى المجلس العلمي. بعد وصول التقارير بصلاحية الرسالتين للمناقشة، كان لابد من الحصول على رخصة المناقشة من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العاصمة، ولذلك سافر الشيخ الطاهر بنفسه مرتين إلى العاصمة وجاء برخصة المناقشة، بعد أن تكبد متاعب مضنية.
وكان اليوم المشهود، يوم المناقشة، 15 جوان 1994م، حيث أقبل الناس من كل حدب وصوب لحضور مناقشة أول رسالتي ماجستير على مستوى المعهد، وقد غصت بهم القاعة الكبرى لمسجد أول نوفمبر، وتمت مناقشة رسالة أخي صالح في الصباح ورسالتي في المساء، وحصلنا على شهادة الماجستير، هو في الفقه وأنا في الأصول.
٬«يتبع»

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19450

العدد 19450

السبت 20 أفريل 2024
العدد 19449

العدد 19449

الجمعة 19 أفريل 2024