بين سبتمبر نيويورك ويناير باريس

دكتور محيي الدين عميمور

فضلت أولا أن أسجل انطباعاتي عن أحداث باريس حال وقوعها باللغة الفرنسية، لأنني أردت أن أواجه، بلغتهم، نفاق القوم الذين يتغنّون بحرية التعبير، بينما يتعاملون معها بمنطق الكيل بأكثر من مكيال.
واليوم أستعرض هنا بعض ما أعتقد أنه يهم القارئ باللغة العربية.

والنقطة الأولى ترتبط بتصريح الكوميدي الفرنسي الكاميروني الأصل ديودونيه مبالا، الذي أقفلت في وجهه معظم مسارح فرنسا استجابة لقرار الحكومة الفرنسية، التي تتهم الفنان الساخر بإهانة ذكرى ضحايا المحرقة النازية وتعريض الأمن العام للخطر بإطلاقه إشارات معادية للسامية في مسرحيته الجدار.
وللعلم هنا، فإن القانون الفرنسي يجرم مجرد التشكيك في عدد من يدعي اليهود أنهم عدد ضحايا المحرقة، ويمكن أن يحاكم المرء إذا قال إن العدد هو أقل بعشرة أشخاص عن الستة ملايين.
هذه المرة أطلق ديودونيه تعبيرا على لوثة «أنا شارلي»، التي عاشتها فرنسا منذ الجريمة التي عرفتها المجلة الفرنسية الساخرة «شارلي هبدو»، وسار على الدرب كل من يرتدون المعاطف إذا تساقط الثلج في باريس.
 قال ديودونيه: أنا شارلي كوليبالي.
وبحثت في القاموس عن الكلمة فلم أجد لها أيّ معنى يمكن أن يعتبر إهانة لأحد أو استهانة بأحد، ثم عرفت منذ لحظات أنها لقب المالي المسكين الذي اتهم بقضية الرهائن في المتجر اليهودي، والذي ترددت شكوك كثيرة حولها، ومنها لقطة مصورة أظهرته وهو يسقط بعد إصابته برصاص الشرطة، ولكنه مكتوف اليدين.
وقامت قيامة القوم الذين يدّعون الدفاع عن التعبير، فنشرت ياهو الخبر على صفحتها اليومية، مشيرة إلى ديودونيه بصفة الفكاهي السابق، أي أنها نزعت عنه صفة الفكاهي، في حين أنه من الغباء أن تطلق صفة السابق على فنان أو رسام أو حتى جنرال، كما تطلق على وظيفة سابقة كالوزير والسفير والمدير، بل إن الوزير يحتفظ بلقب وظيفته ولو تحمل مسؤوليتها يوما واحدا.
ونقرأ لمعلقي الفيس بوك، حيث نشر تعبير ديودونيه، مطالبات بحذف التعبير، المسيئ على حد تعبيرهم، وهذا في انتظار أن نقرأ مقالات ساخنة تطالب بمنع الفنان من تنفس هواء الحرية والعدالة والمساواة، وهو اعتداء واضح على حرية التعبير يطلقه من يدعون الدفاع عن حرية التعبير.
وألقي نظرة سريعة على تظاهرة الأحد، التي تجمع فيها عشرات الآلاف على طول ثلاثة كيلومترات بين ميدان الجمهورية وميدان الأمة، والتي كان الإعلام الفرنسي ذكيا في وصفها، فلم يصرّ على الادعاء بأن المتظاهرين كانوا ثلاثين مليونا أو أكثر، في استهانة مطلقة بمن يعرف مساحة مكان التجمع، بل إن أي معلق فرنسي لم يقطع بعدد محدد، بل اكتفى الجميع بالقول بأنه كان بين مليون وثلاثمائة ألف ومليون وخمسمائة ألف، وهو دليل على قوة التوجيه الإعلامي في بلاد حرية الرأي والتعبير، وإن كنت قرأت فيما بعد أن وزارة الداخلية الفرنسية قدرت عدد المتظاهرين بثلاثة ملايين.
ورحت أتابع اللقطات التي قدمتها أورونيوز على المباشر، متضامنة مع القنوات الفرنسية، وكان واضحا أن هناك عملا منظما مكن عددا كبيرا من المتظاهرين من رفع أعداد هائلة من لافتات سوداء كتب عليه: أنا شارلي ( Je suis Charlie)، وكان هناك من حمل لافتة كتب عليها: أنا يهودي، وبحثت عن أئمة المهاجرين، الذين كانت تصرفاتهم تعبيرا ذليلا عن عقدة ذنب لا مبرر لها، وكنت آمل أن أرى لافتة كتب عليها :»أنا محمد»، أو: «أنا مسلم»، تأكيدا لأنّ المسلم يتظاهر أيضا دفاعا عن حرية الرأي والتعبير.
وكان عميد مسجد باريس، فرنسي الجنسية جزائري الأصل، في طليعة المتظاهرين، لكنه لم يكلف نفسه عناء ارتداء برنوس جزائري، في إشارة لانتمائه، تماما كما وضع اليهود طاقيتهم الرمزية فوق الرؤوس، بل وجعلوا الرئيس الفرنسي يضعها على رأسه في البيعة الكبرى، وبحيث خشيت أن أرى مثيلا لها على رأس بعض العربان الذين تدافعوا للمشاركة في تظاهرة شارلي، وكدت أظن أنهم خلطوا بين شارلي هبدو وشارلي شابلن.
ولقد كان من المنطقي أن يركز المعلقون، انسجاما مع تصريح الرئيس الفرنسي، على ضرورة ألا يُنسب الإرهاب بأيّ حال للإسلام، لكن اجترار هذا بالنسبة لمن يتحدثون باسم الإسلام هو موقف هزيل وتصرف ذليل، لأن المطلوب هو الدراسة المعمقة لكل ما حدث، ووضع النقاط فوق كل الحروف وتحتها (واللغة العربية هي اللغة الوحيدة التي توضع فيها النقاط فوق الحروف وتحتها) والتذكير بأن من بدأ الإرهاب في العالم منذ أربعينيات القرن الماضي هم اليهود، الذين قتلوا اللورد موين في القاهرة والكونت برنادوت في فلسطين وأحمد بودية والهمشري في باريس وعشرات المناضلين السلميين في بيروت وغير بيروت، مع التذكير بكل المذابح التي ارتكبتها الجماعات الصهيونية ضد المدنيين منذ دير ياسين، ومرورا بصبرا وشاتلا وقانا، ووصولا إلى غزة في الألفية الجديدة.
ولأن كثيرين هناك راحوا يقارنون بين تفجيرات نيويورك في سبتمبر 2011 وجريمة شارلي هبدو في يناير 2015، لابد أن نتوقف لتحديد عناصر التشابه والتناقض بين الحدثين.
فجريمة نيويورك نسبت لأجانب ذوي جنسيات غير أمريكية، وهو ما يختلف تماما عن جريمة شارلي هبدو، حيث اتهم فرنسيان، جرى التأكيد المتواصل على أنهما من أصل جزائري، في حين أنهما ولدا في فرنسا وعاشا فيها ولم تطأ أقدامهما أرض الجزائر طوال حياتهما.
ولعلي أذكر هنا أن أصدقاءنا الفرنسيين ينسون ذكر الأصل الجزائري لفنان أو لشخصية محبوبة تحمل الجنسية الفرنسية، ولكنهم يصرّون على ذلك عندما يتعلق الأمر بمتهم في أي جريمة، ولو كانت مجرد تجاوز السرعة القانونية.
وهنا تأتي نقطة المقارنة، فالمتهمون في نيويورك تم التعرف عليهم هناك بفضل جواز سفر بلاستيكي عثر عليه سليما بين ركام المواد المحترقة في أحد الأبراج، فكان باسبورا مباركا كأنه إبراهيم الخليل، أما في باريس فقد تم التعرف على الأخوين كعوش بفضل بطاقة هوية، بلاستيكية أيضا، عثر عليها في سيارة ستروين سوداء قيل إنهما تخلوا عنها بعد قيامهما بالعملية (وسنلاحظ هنا أن المرايا العاكسة التي رأيناها في سيارة الجناة أمام المجلة الفرنسية، والتي تم تصويرها بفضل كاميرا حدث أنها كانت هناك في صدفة خير من ألف ميعاد، تلك المرايا كانت معدنية لامعة، في حين رأينا أنها أصبحت سوداء قاتمة في السيارة التي عثر عليها، وكأنها اسودّت من تأنيب الضمير.
أما نقطة التوافق الآلية بين نيويورك وباريس، فهي أنه لم يبق من المتهمين أحد على قيد الحياة، وهو إن كان أمرا طبيعيا بالنسبة لطائرات تحطمت في البرجين، فإنه أمر يثير التساؤل بالنسبة لشخصين معزولين في مخزن للكتب، وبدون أي رهائن يمكن أن يساوما بهم.
وتذكر كثيرون قضية محمد مراح التي حدثت في 2012، وهو أيضا فرنسي من أصل جزائري، كان فارا في شقة باريسية، وتم القضاء عليه بجيش جرار من رجال الشرطة المجهزين بكل أسلحة القتل الحديثة.
وكان وراء التشابه بين العمليتين سؤال بالغ البساطة عن السبب في عدم استعمال غازات مخدرة أو حقن تطلق من بنادق خاصة، كتلك التي تستعمل في شل حركة حيوانات مفترسة للقبض عليها.
وكانت الإجابة البسيطة أن قتل المتهمين كان ضرورة سياسية، لأن بقاءهم على قيد الحياة يعني المحاكمة العلنية، والاستنتاج هنا يعني اتهاما صريحا بأن القضية مفبركة من أساسها.
ويأتي هنا عنصر تشابه آخر مع نيويورك.
فقد عُرف اليوم على وجه التأكيد أن قيادات أمريكية كانت ترى ضرورة حدوث شيء رهيب مثل بيرل هاربر يؤدي إلى توحيد الأمة وتجنيد كل طاقاتها.
والذين تابعوا خطاب الرئيس هولاند بمناسبة رأس السنة الميلادية، يتذكرون كيف أنه ألح على ضرورة تحقيق الوحدة الوطنية لمواجهة الصعاب التي تعاني منها فرنسا.
هذه الوحدة الوطنية تحققت بعد جريمة شارلي هبدو، ورأينا ساركوزي اليميني يدخل إلى قصر الإيليزيه الإشتراكي للمرة الأولى منذ هزيمته الانتخابية في مايو الماضي، وسمعنا تصريحاته التي أكدت أنه رجل دولة وطني من الطراز الأول، بحيث لم ينتهز الفرصة للتشكيك في الرواية الرسمية، بل أدرك أن واجبه كسياسي فرنسي هو أن ينسجم مع الطرح الرسمي، الهادف لتحقيق أكبر حجم من التجنيد وراء القيادة السياسية الفرنسية.
وتابعنا تظاهرة تقدمها قادة عدة دول، كان الوحيد من بينهم الذي كان يرفع يده لتحية الجماهير في الشرفات بنيامين ناتانياهو، فكانت تظاهرة إسرائيلية بامتياز.
وتم استبعاد السيدة لوبين، رئيسة الجبهة الوطنية، من التظاهرات لمجرد أن أبناء عمّنا غير راضين عنها وعن أبيها، وهو ما يعطي صورة عن دورهم عندما خفت دور دولة كانت تمول الكثير من الأحزاب هناك.
ولعلي أدّعي هنا أن تظاهرات الطلبة في مايو 1968 ضد الجنرال شارل دو غول كانت أساسا عقابا له على موقفه المندد بإسرائيل في عدوان يونيو 1967، ويكفي أن أذكر بأن اسم قائد التظاهرات كان كوهين، والاسم يدل على المسمى.
والمهم في تظاهرة الأحد، والأصابع اليهودية الخبيرة في الحشود الجماهيرية ليست بعيدة عنها، أن النتائج تجاوزت كل طموحات الرئيس الفرنسي، فقد تحققت وحدة أوروبية لم يعرفها العالم منذ انتهاء الحرب الأوربية، وليس العالمية، الثانية، وكان واضحا أن أوربا بأسرها تعيش هاجس الإسلام، ومن هنا أصبحت كلمة الإرهاب هي العملة التي يجب أن تروّج، مرتبطة بغطاء سكري من الشعارات التي تحذر من ربط الإرهاب بالإسلام، وكلها شعارات مهمتها أن توفر الحماية الأدبية لقيادات عربية ومسلمة، تعيش في ظل الحماية الأوربية، وتخشى عدوى الربيع العربي.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024