قصيدة الشاعر علي مناصرية تحت المجهر

قراءة تأثرية على ما تقرّره المدرسة الانطباعية لنص “صورتي”

الأستاذ الدكتور: محمّــــد كــراكريّ

1 .في بَضعِ بَضعِي، صُورتي! أمْ صُورتي؟ / وَهْــم يُحاكــي ما حَكَتْـــهُ حقيقـــتي!
2.أم ما زرعتُهُ في الغَياهِـــبِ جَاهِــــــــلاً / لونـي وجنسـي فـي مُخَلَّــقِ نُطفَـتي!
3.أم ما تَواتــــرَ مــن حـديــثِ مُخالِــــــــلٍ / أثــنى علـيَّ بمـــا طَوَتَـــــهُ طويَّـتي!
4.أم ما تــــــــردّدّ مـن كــــلامِ مُكابِــــــــرٍ / أعيـــاهُ أنّـي قـــدْ وَفَيْــتُ لِفِطـــرتي!
5.هــــلْ آدمُ لمّـــا تَمثّــــــــلَ شَكلَــــــــــها! / قـــدْ كانَ أولَ مْـنْ تهيّــــأَ هيئتـــــي!
6.أم زَوجُــــــهُ! أمْ بِنتُــــــهُ! أم نَجلُــــــــهُ! / قـــد نُسِّخــتْ أنسـاخُـــهُ مِنْ نُسخـتي!
7.هل كنـتُ جَـــدّي أم تُــرى قــدْ كانَـــني! / أم أنَّـــهُ فـي كُنهِــــــهِ مِــن طينـتِــي؟
8.أم أنّنــــي أُسطــــــتتـورةٌ أطيـافُـــــــــها / فــي مَلمَـــحٍ أو مَشهـدٍ من صِبـيـتي!
9.أم أنّنــــي في صَحــــوةٍ لــم أستفــــــــقْ / من موقفٍ قـد عِشتـهُ في غَــفـوتـي!


هلْ حقّق الأتستاذ “مناصريّة” رسالته في الإبداع ؟؟؟ أعني هلْ تجاوزت قصيدته حدّ الإبلاغ إلى الإبداع ؟؟؟ أو بشكل آخر: هلِ ارتقى الأستاذ “مناصريّة” بالنصّ درجة عن الإبلاغ ليرقى إلى الإبداع ؟؟؟ هلْ وُفّق صاحب النصّ في تركيب شيء من الكيمياء السحريّة التي تتحقّق معها شعريّة النصّ؟؟؟
الرأي أنّ الأستاذ “مناصريّة” قد لامس حدّ الإبداع في هذا النصّ الموجز، حين حلّق بنا إلى عوالم التجرّد من التّراب ليرتفع بنا إلى عوالم العقول المحضة ... نتصوّر أنّه حقّق شيئاً من هذه الرسائل التي يبعث بها الشّعراء مُلغزين غير مُجاهرين إلى قُرّائهم، وإنّا نشهد أنّنا وَجدنا شيئا من اللذة العقليّة ونحن ننظر في أبيات القصيدة، والحقّ أنّ الأرواح إنّما تلتقي على لغة الإبداع، وليس الإبداع في نظرنا إلّا شَحْنَ الشاعرِ القارئَ بشُحن الرّوح والنّفس والوِجدان، ثمّ لا يهمّ بعد ذلك وسيلة الشّحن، لأنّها ربّما قد يَتفاوت في أدواتها ومقاييسها وقوالبها الشعراء، وهلْ يتفاضل الشّعراء إلّا في القدرة على التبليغ؟؟؟
الخيالُ في النصّ يوشك أنْ يغيب، وهذا أنسب به، فالخيال هو أليق بحديث الوصف لا حديث الأرواح، وليس نرى بأساً إذا خلا النصّ منه والذي يتأمّل شعر الماضين في هذا الصنف ليدرك أنّ قلة الخيال فيه سُنّة من سُننه، وقد نجد لذلك تأويلا قريبا إلى طبيعة هذا النوع من الشّعر وهو أنّ المرمى منه إنّما هو قائم على التحقيق لا التّخييل... وربّما يقول القائل: وهل كان الشعر إلّا ضرباً من التخييل ؟؟؟ ونحن نجيب هو ضرب من التخييل حين كان الشّعراء ينصرفون في عصور البداوة إلى وصف الديار والدِّمَن والرّحلة إلى الممدوح وأيّام العرب ومدْح الأشراف ... أمَا والحال أنّ المجتمع العربيّ في عهد بني العباس قد اتّصل بغيره من الأمم التي قهرها فقد هذّب من ذوقه وبدّل من طريقة عيشه وجدّد في إبداعه، ونحن نزعم أنّ هذا اللون من الشّعر الفلسفيّ – كما يسمّيه النّقاد المحدَثون - لا يتوكّأ على الخيال بقدر ما يتوكّأ على القدرة على التبليغ ...
لُغةُ النصّ لا غبار عليها ... ألفاظٌ فصيحة نزل بها صاحبُها عن الحوشيّ، وارتفع بها عن السوقيّ، فهي بيْن بيْن، ولكنّها تنضح بمُعجم لغويّ ينمّ عن قراءات واسعة من التراث الأصيل أصالةَ تلك الألفاظ، وربّما نمّ بعضُه عن تراث إسلاميّ دفين عند صاحب النصّ، ولعلّ اختياره لبعض هذا المُعجم أغناه عن كثير من التراكيب والكلمات التي لم يكن في حاجة إليها، ونعني بذلك لفظة (بَضْع) بالفتح، وتعني القطعة من اللحم، وقد أحسن صاحب النصّ في اجتباء هذه الكلمة التي لها من الدلالات ما يغني عن الكثير، وهي كلمة تحمل من الشُّحن البلاغيّة الكثير، والأولاد بِضعٌ منّا، وقد ورد في الحديث الصّحيح “ فاطمة بِضْعة منّي ... “ ومنه أيضا لفظة (مُخلّق) وهو من مادة (خلق)، والمخلّق هو التامّ الخِلقة، وفي السيرة أنّ أبا جهل عُثر عليه مقتولا كالجمل المخلّق أي التامّ الخَلْق، واللفظة بما تحمل من معنى من مُعجم القرآن الكريم وهي من قوله تعالى: ﴿مِن مُضْغَةٍ مُخَلَّقةٍ وغَيْرِ مُخَلَّقةٍ﴾ الحجّ 5 ، وهذا انتقاء يناسب مقام الخليقة لأنّ ما تمّ منها بالرّحِم مُخلّق، وما لم يتمّ منها غيرُ مخلّق أي خديج ...
تراكيب النصّ رصينة، سليمة البناء، ليس فيها معاضلة ولا رَكِب بعضُها بعضاً، وهي من قبيل النّظم الذي يدعوه النّقاد السّهل الممتنِع، وفي التراكيب عذوبةٌ التّساوق حتىّ كأنّ كلّ عبارة تأخذ بعُنُق العبارة التي تليها من غير توسّل بكثير من أحرف المعاني، وهذه طاقة في التركيب نشهد بها لصاحب النصّ تكشف عن مِراس قديم وذوقٍ سليم ...

ولكنّـا مع ذلك أخذْنا عليه شيئا من الشّذوذ في التركيب عند قوله:

هَل كُنتُ جَدّي أمْ تُرى قدْ كَاَنني

فقد أخبر عن النّاسخ (كان) بالضمير (الياء)، وهو أمر غير معهود في فصيح الشّعر إلّا ما ورد منه في عصور التّقليد المقيت حين ركَن الشّعراء إلى السّوقة يتحدّثون إليهم بلغتهم، فلا يحتكمون إلى قدامى الشّعراء في النظم، ونضرب لذلك مثلاً مِن قصيدة يمدح بها الشاعر محمّـد العيد آل خليفة الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس بمناسبة ختمِه تفسيرَ القرآن الكريم، مَطلعها:
بِمِثـــلِكَ تَعْــتزُّ البــلادُ وتَفخـــرُ وتُزهِــرُ بالعِلم المُنيرِ وتُزْخِــــرُ
جاء في بيتٍ منها:

وأشْبهْتَ في فِقه الشّريعةِ “عَبْدَهُ” فهَلْ كُنْتَهُ أمْ عَبدُهُ فيك يُنشَرُ

وهو من سقَطات الشّعر الحديث، والسّليم أنْ يخبر بضمائر الرفع مثل: كنتَ هو، أو كانوا همْ ...
روحُ القديم في لغة النصّ حاضرٌ بقوّة نجد ريحَه في البناء الداخليّ والخارجيّ، أمّا عن الداخليّ فقد أشرنا إلى ذلك باقتضاب، وأمّا البناء الخارجيّ ففي موسيقاه وإيقاعه، ونحن لا نذهب مَذهب المتحمّسين من الباحثين في صلة الإيقاع بالرّوح في النصّ، حتّى زعموا إنّ الإيقاع لَيَشي في كثيرٍ من الإبداع بجوّ القصيدة ... نحن لا نُنكر ذلك كلّه كما لا نقرّ ذلك كلّه، ولكن نرى أنّ الموسيقى في الشّعر أشبه بالعزْف على الآلات في الأصوات ... ولكلٍّ منّا ذوقُه ومذهبُه فيما يَسْتمرئ من أنواع الموسيقى، غير أنّه لا يفوتنا أنْ نذكر أنّ بحوراً بعينها عدّها النّقاد ممّا يصلح للأغراض الشعريّة الجادّة ونعني بذلك البحور الطّويلة، في حين أنّ بحوراً أخرى يراها النّقاد أنسبَ بالأغراض الشّعريّة الهازلة كالبحور المجزوءة أو ما يسمّيه بعضهم البحور الراقصة.
اختار صاحب النصّ إيقاعَ الكامل ذي التفعيلات الطويلة، وقد رأيناه لا يَحيد عن خُطى بعض من نظَم في الأغراض الفلسفيّة من القدامى، فقصيدة ابن سينا في “النّفس” نُظمتْ على الكامل ومَطلعها:

هبطَتْ إليك من المَحَلِّ الأرفعِ ورقـاءُ ذاتُ تعّـــزُّزٍ وتَمَنُّــعِ
وقد عارَضَه أحمد شَوقي بقصيدة مَطلعها:
ضُمِّي قِناعَك يا سُعادُ أوِ ارْفَـعي هَذي المحاسِنُ ما خُلِقْنَ لِبُرْقُعِ

واختيار هذا النّوع من البحور إنّما يكون لفساحتِه وأريحيّته وسَعتِه أطْولَ التّراكيب، فالموقفُ هنا موقفُ تأمّل وتدبّر ولا يكون معه تلك العَجلة التي نراها في المجون وغيره، فالمقام إذنْ يحتاج إلى شيء من الفُسحة في التركيب، ولا يتهيّأ ذلك إلا مع البحور الطويلة...
سَلِمَ بناءُ النصّ في العروض من الكسْر وفي البناء من اللّحن، وهما أمران يشهدان لصاحبه بجودة قريحة ومتانة تكوين ورسوخ قدم، وهي مسائل ليس فيها مهادنة بين المبدِع والناقد، وقد رأينا الشاعر قديما – على فصاحته – يُعترَض عليه إذا لَحن في لفظٍ أو خَرج عن وزْن، فكيف الحال بمن نقرأ لهم اليوم؟
الحقّ ... لقد نأى الأستاذ “عليّ مناصريّة” بلغته من أنْ يدنّسها اللّحنُ، كما نأى بمُعجمه من أنْ يكدّره الدّخيل، كما نحسَبُ له جراءته على ولوج هذا النمّط من الشّعر الذي لم تعُد بقيّة في الآخرين إلّا مع النّزْر القليل منهم.
أمّا بعد: فإنّ سمة الإبداع عند الأستاذ “عليّ مناصريّة” لتخطو خُطاها بشيء من الثّقة والتؤدة، ونخالُ أنّه من قلّة قليلة تسعى بالشعر إلى الكمال محافِظةً على أصوله، لا تُساوم على ذلك بشيء قلّ أم كثُر، وللأستاذ “مناصريّة” أيضاً فضلٌ في بعْث الشّعر الأصيل من مَراقده سيّما وقد تقلّبت العصور وتبدّلت المفاهيم، لكنّه مع ذلك حضَر بهذا الكيان الذي يبعَث في النّفس نشوات الماضي ونفحات الأصيل.

جامعة عنابة
جامعة قالمة

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024