مسارات الصّعود والنّزول في المتّصل الحضاري

نحو تصحيح مغالطات «علم» الأهالي عن التنوع الثّقافي والتّجانس المجتمعي في جزائر الأمس واليوم

بقلم: د ــ محمد العربي ولد خليفة

بعد الاستقلال لا نجد سوى عدد قليل من الدراسات العلمية المؤيدة بالاستقراء الميداني للوضع اللساني واللهجات في عموم الجزائر، بمنأى عن التوجيهات السياسية والمطلبية الحزبية، وعلى أي حال إذا تسيس العلم، وخاصة في قضايا حساسة فقد الكثير من التبصّر بالمخاطر والموضوعية الكاملة الصعبة المنال في علوم الانسان والمجتمع.
في فترة الحركة الوطنية وبعد الاستقلال، اهتم عدد من الباحثين بمسألة اللسان الأمازيغي في منطقة القبائل، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الأديب مولود معمري صاحب رائعة الربوة المنسية، الذي اهتم بإثراء وتحيين القاموس الأمازيغي الذي يعد اليوم من المراجع الأساسية في فقه اللسانيات الأمازيغية، غير أن إغفاله أو عدم اطلاعه على الثروة الكبيرة من المؤلفات بالعربية لعلماء تلك المنطقة قبل وبعد مملكة بجاية الناصرية والتخويف من مزاحمة الامازيغية للعربية عند البعض الآخر سهّلت من تبادل التهم والإقصاء المتبادل، وهو خدمة بأثر رجعي لما خطط له منظرو الكولونيالية الفرنسية.
واصل جهود معمري تلميذه سالم شاكر الأستاذ في معهد INALCO، الذي توجّه اهتمامه إلى العالم الأمازيغي بوجه عام داخل وخارج الجزائر ومن أبحاثه في هذا الاتجاه دراسته المنشورة في المجلة الدبلوماسية Diplomatie – Magazine سنة 2003 وكذلك الأطروحة الجامعية التي قدمها لحسن مرموري من ولاية إليزي بعنوان:»التوارق» سنة 2010، عن التنظيم الاجتماعي والسلطة عند توارق، وهي من الدراسات العلمية المؤيدة بالبحث الميداني القليلة باللغة العربية في الجزائر في علم الاجتماع السياسي، وقد قمنا بوضع مقدمة لها بطلب من الباحث.
كما خصّص هوغ روبرتز H. Roberts من معهد لندن لعلوم الاقتصاد L.S.E عدة أبحاث للمسألة الأمازيغية في المنطقة المغاربية، نشرت تباعا في مجلة معهد الانثروبولوجيا البريطاني تعرض فيها لنظريات علماء الانديجينولوفيا الفرسيين، كما يقوم علماء جزائريون معاصرون مختصون في علوم التاريخ وفقه اللغة واللسانيات بدراسات ومناظرات واستجوابات كلما أثيرت مسألة الهوية ومعالمها الأساسية نذكر منهم على سبيل المثال عبد الرزاق دوراري وأرزقي فراد أو من منطلقات مختلفة أو مضادة تماما مثل عثمان سعدي وابن نعمان.
إن الإسلام والعربية والأمازيغية كلها منا ونحن منها، بلا فواصل ولا مزايدات، ونعجب أن دولة من أكثر دول أوروبا جاكوبينية jacobine أو مركزية تنصب نفسها وتحث مؤسساتها السياسية والعلمية للدفاع عن لغات الأقلية Langues minorisées  والمذاهب الدينية المضطهدة كيف سيكون رد الفعل لو تمّ التعامل بالمثل فيما يخص الكورس ولألزاس لورين والنورمانديوالبروطون.
رصيد الثقافة الفرنسية على درجة كبيرة من التنوع والإبداع تروّج له فرنسا بمثابرة وذكاء من خلال الفرانكوفونية،وهذا الاستثمار الثقافي الاقتصادي ولصالح النفوذ السياسي من حقها، ولكنه يعاني من هيمنة العمـلاق الأمريكي ويدافع باستماتـه عن حضوره حتى داخل حدوده تحت عنوان الاستثناء الثقافي l’exception culturelle ، ونحن نعرف مدى انتشار ونفوذ اللغة الإنكليزية في المحافل الدولية وفي العلوم والفنون والآداب، ولكن من غير المفيد تعويض لغة أجنبية بأخرى، بل بالعناية بالإنكليزية وغيرها مثل لغات حوض المتوسط والتركية والروسية والصينية، وبعض اللغات الإفريقية مثل الهوسة والسواحيلي وخاصة بين المبعوثين والدبلوماسيين، إلى جانب اللغة العربية الرسمية والأمازيغية التي هي أيضا لغة رسمية. ومن الحكمة أن لا تكون الجزائر ساحة للصراع اللساني والمنافسة المنفعية بين الدول الكبرى والمتوسطة، والأولى أن ننمّي رصيد العربية والأمازيغية في العلوم والفنون والآداب بغض النظر عن البلاد الأخرى في المنطقة التي تنتمي إلى الجذع الثقافي المشترك.
ويجري اليوم جدل بين النخب حول مسألة الهوية في علاقتها باللسان والاجتهادات حول اللسان الأقرب إليها في المدرسة ووسائل التعبير والتواصل الأخرى هل هو الفصحى أو العامية،وهو في رأينا نقاش مفتعل، فلا توجد أي لغة بدون عامية شائعة بين عامة الناس كما هو الحال في الإنكليزية والفرنسية والألمانية، يختلف مستواها باختلاف المستوى التعليمي والثقافي للأشخاص، ولغة التي تدرس في تلك البلدان هي اللغة المعيارية standard، الحاملة لروائع الفنون والآداب إنها ملهاة فيما يعرف بمسرح الظل تبتعد عن الرهانات الحقيقية ألا وهي تطوير مناهج التربية والتكوين وإعداد أجيال من الجزائريين لدخول العصر الراهن بالذكاء والمعرفة والوطنية.
فيما يتعلق بالأمازيغية فقد حسم التعديل الدستوري الأخير الذي بادر به رئيس الجمهورية الجدل في مكانتها بعد ترسيمها لغة وطنية ورسمية وعلى العلماء المختصين في مختلف فروع المعرفة إثراء قاموسها وإحياء تراثها ونقل العلوم والتكنولوجيات الحديثة إليها وهو ما ينطبق أيضا على العناية بالعربية وتوطين علوم العصر في لسانها بالترجمة والإبداع.
لا نجد في التاريخ المدوّن أي صراع مسلح بين الشاوية والقبائل أو بين التوارق وأهل ميزاب أو بينهم وبين العرب، أقول العرب لأن خبراء الكولونيالية وقياداتها السياسية تزعم أنهم دخلاء في الجزائر بالذات، بهدف الترويج للتمايز العرقي والدفع للعداوة بين أعراق مزعومة، ولعل من المفارقة أن كل التقارير التي أرسلها العسكريون والسياسيون والجواسيس إلى المسؤولين في باريس أثناء المقاومة البطولية للأمير عبد القادر كانت تتحدث فقط عن العرب، وقد كان أنصار الأمير ومؤيّدوه من مختلف أنحاء الجزائر، كما هي في جغرافيتها الحالية، ومن المعروف أن الحكام في العهد العثماني نظموا الجزائر في صورة ولايات (بايلك) إدارية بحتة: غرب شرق وسط...، وكانوا مع حاشيتهم وحراسهم معزولين في أبراجهم وقصورهم عن عامة الشعب.
لم تحدث في جزائر الأمس واليوم أي حروب أو رفض لشريحة من المجتمع بسبب العرق، والحقيقة أن هناك نزاعات داخل تلك المجموعات السكانية في الشمال والجنوب لا علاقة لها بالعرق واللسان، وترجع غالبا إلى مشاكل التسجيل في  الشهر العقاري cadastre أو الميراث داخل العائلة الواحدة، والعرش، وما تركته الإدارة الفرنسية من قنابل موقوتة في عالم الأراضي الفلاحية والسهوب، وينبغي أن نلاحظ أن مسألة العروشية بمعناها الخلدوني وبمعناها السلبي، أي تجاوز المواطنة التي هي الرابطة السياسية الحقيقية في المجتمع الحديث، وهي مؤكدة في كل الدساتير الجزائرية وخاصة التعديلات الأخيرة في السابع من فيفري 2016. ولا شك أن المواطنية citizenship  هي أفضل نهج لتحرير مجتمعنا من الرواسب الأركائكية والذهنيات والسلوكات العشائرية، وترسيخ دولة الحقوق والواجبات والتخلص من مقولات مغلوطة مثل «حمارنا خير من عودهم (فرسهم)» و «إميس ن عميس» إلخ...

إن الانتساب إلى عائلة أو جهة والاعتزاز بتلك العلاقة طبيعي، بل مرغوب ومصدر للانتماء للوطن، فالذي يكره عائلته أو ينفر من جهته الجغرافية، من المحتمل أن يحتقر وطنه، وقد يتحول إلى لا مواطن أصلا Apatride، كما أن نسبة شخص أو جماعة إلى جهة من الجزائر مثل تاركي – شاوي – قبائلي – ميزابي لا يختلف عن وصف فرنسي بأنه نور مندي من منطقة نورمون Normandie أو كوسيكي.
ولا حاجة لذكر أمثلة أخرى للانتساب إلى الجهة التي قد تتحول لأسباب سياسية أو صراعات تاريخية أو دينية أو أخطاء في التدبير والتسيير إلى مطالب بالانفصال عن الدولة الأم، وهو ما يحدث اليوم في بلدان كانت إمبراطوريات شاسعة كما هو الحال في المملكة المتحدة (بريطانيا) في حالة اسكولنده وقبلها في الأولستر (إرلنده الجنوبية) الكاثوليكية وكاتالونيا في إسبانيا، وما حصل في يوغوسلافيا التي تحولت إلى عدة دول مستقلة. ومن المفارقة الجيوسياسية والتاريخية أن ألمانيا التي تمّ تقسيمها بين الحلفاء والاتحاد السوفياتي المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، عادت من جديد إلى وحدتها وأكثر قوة واستقرارًا عما كانت عليه في خمسينيات القرن الماضي.
إن الأمثلة كثيرة للتشتت والوحدة في العالم ترجع كلها إلى عوامل مشتركة. نجدها على سبيل المثال في قوة واستقرار الدولة وقدرة نخبها المثقفة والمسؤولة في مختلف المؤسسات على احترام الخصوصيات الجهوية وتحقيق درجة من التمايز والتآلف والتنمية المتوازنة وعدم الاستهانة بالتحريك من الخارج الذي قد يجد في أشخاص أو جماعات حصان طروادة للإضعاف من الداخل وتفكيك المجتمع إلى كيانات متصارعة، وقد تطلب الدعم والتأييد من الخارج، كما هو الحال بالنسبة لحركة المغني فرحات مهني التي لا تقدم لمنطقة القبائل ولا للجزائر أي مشروع سوى إزعاج الدولة وتضليل أعداد محدودة من الناس، والأغلبية الساحقة من أبناء منطقة القبائل على يقين بأن منطقتهم جزء لا يتجزأ من الجزائر التاريخية والمعاصرة، وهي تتجه إلى اللامركزية الإدارية في بلد تزيد مساحته على مليوني كلم مربع.
أدرك الرئيس عبد العزيز بوتفليقة منذ بداية عهدته الأولى أن إنقاذ الجزائر من مخاطر الصراعات الأثنية وإشعال الصراعات بغطاء ديني الذي أدى إلى الاقتتال بين أبناء الشعب الواحد، هو البداية بالوئام وإقناع الجميع بأهمية وضرورة المصالحة الوطنية، وقد حصل هذا المشروع المبتكر والشجاع عن طريق الاستفتاء على أغلبية ساحقة مهّدت لانطلاق برامجه للتنمية والتحديث في كثير من قطاعات ومرافق الدولة.
ومن الانصاف أن نذكر بأن الخطاب السياسي في نهاية التسعينيات توزّع معظمه إما على تبادل التهم أو وصف الأزمة ومضاعفاتها على الدولة والمجتمع بينما لم تدرك الفعاليات السياسية أن المفتاح الحقيقي يتمثل في المصالحة مع الذات ومع التاريخ، ومع الراغبين في السلم والعيش المشترك بين كل الجزائريين، فمن النادر أن نرى في بلاد العالم الثالث وحتى المتقدم ديموقراطيا رئيس دولة يصحب جنبا إلى جنب أربعة رؤساء سابقين، وتحمل مطارات وجامعات ومعالم أخرى أسماء قادة كبار كانت أسماؤهم وعهودهم موضوع جدل سياسي واصطفاف بين تيارات في المجتمع، منذ ما يزيد على ستين عاما، وهذا التصالح مع ماضي لا يمكن أن يحذف من مسيرة شعب وذاكرته موقف حضاري ينبغي أن يكون قدوة للآخرين.
لقد كانت محنة الإرهاب خلال عشرية التسعينيات أكبر تهديد لتجانس وتلاحم ثقافي عريق بين الجزائريين، بعد كارثة الاحتلال الاستيطاني الكولونيالي الذي كان التهديد الأخطر لبقاء الجزائر على خريطة العالم، كانت تلك المأساة في نظر أغلب دول العالم، وحتى بعض دول الجوار مجرد مشاهد درامية للفرجة في انتظار الانهيار النهائي للدولة الوطنية وأسس الجمهورية، كما وضعها البيان المؤسس في الأول من نوفمبر 1954، جمهورية لا مكان فيها للأثنيات والطوائف والتطرف الديني فالإسلام في صورته الشعبية رابطة روحية ثقافية نقية من العنف والكراهية للآخرين من أديان وثقافات أخرى، فأثناء المقاومة الشعبية وثورة التحرير لم يحدث إطلاقا تدمير لأماكن العبادة الخاصة بالمسيحيين واليهود أو محاربة الفرنسيين لأنهم مسيحيون، إن كفاح الجزائريين عبر التاريخ كان دائما ضد المعتدين ومطلبهم الدائم الحرية والعدالة والتقدم، كما نجد مبادئها في بيان الأول من نوفمبر 1954، وهو خلاصة التجربة التاريخية للجزائر ومنهاج صالح اليوم وللمستقبل.
٢٠١٦ / ١٠ / ١٦
«انتهــى»

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19450

العدد 19450

السبت 20 أفريل 2024
العدد 19449

العدد 19449

الجمعة 19 أفريل 2024
العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024