نهضة أمة وإعادة تأسيس دولة

د. محمد العربي ولد خليفة

استخلصت النخبة الثورية من شباب الحركة الوطنيّة الدرس الأول من التجربة التاريخية للجزائر العميقة أن المواجهة الحاسمة هي طريق الخلاص من الاستبدادية الكولونيالية والإذلال المقنن فيما يسمى قانون الأنديجينا الذي أقتبس منه نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا قانون الفصل بين البيض والسود Group areas act، ولذلك إذا كان نداء الثورة في الأول من نوفمبر 1954 مفاجأة لسلطات الاحتلال ومخابراته ولفيف المرتزقة والأعوان المحليين، فإنه لم يكن مجرد صدفة أو حماسة عابرة فالصدفة وحدها كما يقول فيلسوف التاريخ ف.بروديل F.Braudel ليس لها ذاكرة seul le hasard n’a pas de mémoire، فقد تضمن نداء نوفمبر استراتيجية للتحرير الدائم وإعادة بناء الوطن ونظرة مستقبلية لجمهورية شعبية وديموقراطية في إطار الدين الإسلامي الحنيف وروحانيته النقيّة والأكثر تقدمية تحت لواء وحدة وطنيّة للأرض والشعب لا تقبل التجزئة والتفكيك إلى أعراق ومذاهب ولا تدين بالولاء لأية ايديولوجية من الشرق أو الغرب، وبينما كان الصراع على أشدّه بين المعسكرين تميّز بيان نوفمبر المؤسس بمنهج وفلسفة وطنية صافية ليس فيها أية شبهة من النظريات والولاء للأحلاف والتبعيات الشائعة بعد الحرب العالمية الثانية، ولذلك كان مبدأها الأول الاعتماد على النفس والاستعداد للطريق الشاق والطويل لتحقيق الهدف وهو هزيمة الكولونيالية الفرنسية بكل الوسائل وقبول التضامن من كل الشعوب والهيئات المعنية والأحرار بما فيهم الفرنسيون، بدون تدخل أو توجيه أو استخدام لكفاح الجزائريين لأغراض داخلية أو جهوية أو دولية.
مرجعية ثورة ودلالاتها
لا نجد في بيان نوفمبر التاريخي كلمة واحدة تدعو الجزائريين إلى حرب دينية أو عنصرية ضد العدو، وكلمة مجاهد وشهيد تختلف تماما عن استعمالاتها المشبوهة في السنوات الأخيرة من طرف فئات ليس لها مشروع اجتماعي وليس لها قضية جديرة بالتضحية، وقد فشلت الدعاية الكولونيالية في الجزائر وفي فرنسا نفسها في وضع قناع الإرهابي والخارج عن القانون والفلاقة ولم تتمكن أبدا من عزلهم عن غالبية الشعب في الأرياف والمدن، وبين الأغلبية من النساء والرجال في المهجر وفي فرنسا بوجه خاص وقدموا تضحيات كبيرة عجّلت من هزيمة الكولونيالية الفرنسية.
لقد تضمن النداء في بدايته دعوة إلى حلّ سلمي يعيد الحقوق إلى أهلها، ولكم اللوبي الاستيطاني المتنفد وأصحاب القرار السياسي والعسكري والأغلبية من النخب العالمة والسياسية ردوا على ذلك النداء السلمي بالطائرات والأساطيل ومئات الآلاف من العسكر وإمدادات الحلف الأطلسي والأرض المحروقة إلى آخر لحظة قبل 05 جويلية 1962 عن طريق إرهاب المنظمة السرية OAS التي لم تكن في الحقيقة سرية.
لم يمنع التقتيل الجماعي والتعذيب والحصار الجزائريين من الصمود والالتحام بجيش التحرير فقد كان جنود جيش التحرير في أحضان الشعب يحمونه ويحميهم ويثقون في أنه سينتصر حتما مهما طال الزمن، فهم أبناؤه الذين قبلوا التضحية في سبيله بأثمن ما يملك الإنسان وهو حياته.
اعترفت الإدارات الفرنسية أو انكرت فستبقى في ذاكرة الأجيال وفي محكمة التاريخ وحشية الاحتلال وما قام به من مذابح وتفقير وتجهيل باٌستثناء تحضير احتياطي من المتعلمين، وقد خسرت فرنسا الكولونيالية هذا الرهان، على العكس مما يدعيه البعض، فالأغلبية الساحقة من تلك الفئات المتعلمة مدنية أو عسكريّة بقيت وفية إلى اليوم  لتطلعات الشعب في الحرية والعدالة، وبرهنت على ذلك أثناء المقاومة الشعبية وبعد تشكل الحركة الوطنية في حزب الشعب الجزائري PPA الذي تحول بعد حلّه إلى انتصار الحريات الديموقراطية MTLD وظهر ذلك التلاحم خاصة أثناء ثورة التحرير التي ساهمت فيها النخبة المتكونة في المعاهد الفرنسية أو جامعات البلدان الشقيقة بكفاءة والتزام إلى جانب قوات جيش التحرير الوطني ومؤسسات الثورة الأخرى، لقد اٌستجابوا جميعا لنداء الثورة في وقت مبكّر، وقاطعوا مقاعد الدراسة عن اقتناع ومن الاستهتار بحقائق التاريخ توزيع التهم بأثر رجعي على النساء والرجال الذين اٌجتهدوا في النضال والكفاح في صفوف الثورة أو بعد الاستقلال سواء أصابوا في اجتهادهم كل الاستحقاق والشرف أو قسما منه، فالحكم هو ذاكرة الشعب الجزائري ووثائق التاريخ الموضوعي.
ينبغي التأكيد على أن أفضل النساء والرجال من جيل الثورة وما بعده من أجيال ما بعد التحرير هم شهداؤنا الأبرار، فهم الجديرون بكل تعظيم واعتزاز ورعاية لعائلاتهم وسواء أكانوا من القادة الكبار أو من الجنود والفدائيين فإنهم تاج الثورة والقدوة للأبناء والأحفاد من أجيال المستقبل.   
مهما كان موقع الأشخاص على الخريطة السياسية لما بعد التحرير، فإن هناك ما يشبه الإجماع كما نراه لدى العاديين من الناس ومن خطابات الأغلبية الساحقة من المنظمات والأحزاب أن الجزائر الحرّة هي جزائرنا نحن، جزائر تحتاج إلى كل مواطنيها لحمايتها والمشاركة المخلصة في ازدهارها وتقدمها والوقوف إلى جانب جيشها الوطني الشعبي وريث تراث الإخلاص والتضحية، فهو العين الساهرة على أمن واستقرار الوطن والقوة المسالمة لمن يسالمها، ولكن هي تقف بالمرصاد لمن يسعى للتحرش بها أو يحاول الاعتداء على أي جزء من ترابها.
لقد حمل بيان الأول من نوفمبر خلاصة الوطنية الجزائرية بدون تعصب أو شوفينية ورسم خريطة الطريق للدولة والجمهورية الجزائرية التي تعتز بتراث الجزائر منذ العصر النوميدي إلى مجتمع اليوم والغد، بما فيه من خصوصيات وتنوع، فلم تكن في بلادنا على مرّ التاريخ أعراق متناحرة ومذاهب متصارعة وقد فشلت أساطير الايديولوجية الكولونيالية في تشتيت وتقسيم الجزائريين وفصل جنوبهم عن شمالهم.
أعظم مكاسب الجزائر
لقد تحقق النصر بفضل إرادة وصمود الأغلبية الساحقة من الجزائريات والجزائريين، وهذا النصر هو من أعظم مكاسب الجزائر في العصر الحديث.
وقد عبر المرحوم الرئيس فرحات عباس عن بعض ما جاء في البيان المؤسس بقوله: “إن الوطن هو ميثاق يوحّد بين الموتى والأحياء والذين سيولدون يوحدهم جميعا على هذه الأرض... الجزائر وطن الجميع، إن أعداءنا الوحيدين يتمثلون في الهيمنة الكلونيالية والتفرقة العنصرية والبؤس والمهانة”.
على الرغم من مضاعفات عشرية الإرهاب التي أضاعت على بلادنا وقتا ثمينا وعطلت ركب التنمية وكبدت الجزائر خسائر فادحة بعشرات الآلاف من الضحايا من النخبة والأبرياء من المواطنين، على الرغم من تلك المحنة، فقد كانت مبادرة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالوئام ثم المصالحة الوطنية محطة لانطلاق تنمية متكاملة وتضميد الجراح وإحياء المبادئ التي تضمنها نداء أول نوفمبر الذي توجّه إلى كل الأحزاب ولم يسأل أي فرد عن حزبه أو ايديولوجيته السابقة باستثناء أعوان الاحتلال الذين اعتبرهم الشعب خونة وعملاء للعدو الكولونيالي.
ووفاء لمبادئ البيان المؤسس شرع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وهو المجاهد في ثورة التحرير والوفي لرفقاء السلاح  والقائد الحالي لركب البناء والتعمير، شرع في الإصلاح السياسي والتشجيع على التعددية الحزبية، وترقية المرأة وتمكينها من أعلى المسؤوليات في الدولة، وتحديث الهياكل الاقتصادية والاجتماعية ورفع مستوى المعيشة للمواطنين، وتكفي مقارنة أولية مع بلاد أخرى قريبة أو بعيدة للتعرف على الأشواط التي قطعتها الجزائر خلال السنوات الأخيرة، وقد تمت المصادقة على دستور توافقي عن طريق حوار مفتوح وديموقراطي شاركت فيه أغلب فعاليات المجتمع، دستور يرسخ دولة القانون والعدل ومزيد من تعزيز الحقوق الأساسية للمواطن بما فيها حرية التعبير وحقوق غير مسبوقة لأحزاب المعارضة في الغرفة الأولى للبرلمان، وحق أي مواطن في التوجه للمجلس الدستوري في كل ما يراه لا يتوافق مع أحكام الدستور، إنها ديموقراطية قلّ نظيرها في العالم الثالث.
إن التوافق حول قضايا الوطن المتعلقة بحاضر ومستقبل الجزائر، هي المسعى الحكيم والناجح الذي بدأ به بيان الأول من نوفمبر، وسار على نهجه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بعمله الدؤوب على المصالحة مع الذات ومع التاريخ، فمن النادر في عالم الأمس واليوم أن يجمع رئيس الدولة المنتخب من الأغلبية الساحقة من الشعب سابقيه، وهو يمسك بيد عدد من الرؤساء السابقين في كل المناسبات الوطنية في أول نوفمبر أو خمسة جويلية.
إن تقدم الجزائر ومكانتها بين الأمم لا تبدأ بجيل واحد ولا تنتهي بجيل، وإذا كان جيل نوفمبر من السابقين الأولين ومن الشهداء والمجاهدين قد دفعوا ضريبة الدماء والآلام، فإن على الأجيال الراهنة والمستقبلية أن تثمن تلك الضريبة بالعلم والوطنية والحضور الفاعل على الساحات الجهوية والدولية وإحياء وتفعيل ثوابت القوة الدائمة لبلادنا
Les constantes de puissanceالمعنوية والمادية والوفاء للبيان التاريخي وملحمة الثورة التي يرى فيها المظلومون في كل أنحاء العالم نموذجا وقدوة، بل مدرسة كما قال لي كل من الرئيس الكوبي “رؤول كاسترو” و “لولا دي سلفا” الرئيس السابق للبرازيل،  وما يعترف به القادة المنصفون في كثير من بلاد العالم. وقد تجسّد هذا الوفاء في نصرة الشعب الفلسطيني وشعب الصحراء الغربية لإنجاز حقهما في تقرير المصير، وهي من المواقف المبدئية التي التزمت بها الجزائر تجاه القضايا العادلة في المنطقة العربية وإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بدون أن تطلب مقابلا أو تبحث عن ولاءات إيديولوجية، وهذه المواقف المبدئية ليست طوباوية أو إشهارية، بل هي صورة طبق الأصل من السيرة الذاتية لثورة أول نوفمبر من بدايتها إلى أن كلّلت بالنصر المبين.
مثل ومبادىء إنسانية
لقد جاءت تجربة الشعب الجزائري في سياق سياسي تاريخي اتسم بالهيمنة الكولونيالية وحرمان الشعوب من ثرواتها وطمس وانكار هويتها، فكان لها بذلك صدى كوني وستبقى على الدوام مصدر الهام لكافة الرجال والنساء التواقين للحرية والعدالة والتقدم ولكل الشعوب المضطهدة عبر العالم.
لقد حقق نداء أول نوفمبر وملحمة الثورة ما وعد به الأمير عبد القادر في رسالة وجهها إلى الجنرال لامورسيير سنة 1847: كما نقلها الأستاذ المرحوم محفوظ قداش كتب الأمير: “ستزحف فرنسا إلى الأمام ولكنها ستجبر على التقهقر، وسوف نعود...” لقد حقق الأحفاد وعد الأمير في نداء الأول من نوفمبر وما تحقق بفضل الشهداء والمجاهدين من نصر مبين.
نقول بعد اثنين وستين عاما من ذلك اليوم المشهود: ألا تولد الأمم العظيمة من المحن الكبيرة؟!.
إن الإعلان التاريخي لأول نوفمبر 1954 بُنيَ على مُثل ومبادئ الحرية والعدالة والتقدم التي تصبو إليها الإنسانية جمعاء.

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024