حياة بركاني من مواليد مدينة عين البيضاء، ترعرعتُ في أحيائها العتيقة المعبّقة بنفحات الماضي، تتلمذت على يدي أساتذتها الأفذاذ كونها مدينة العلم والعلماء، وهي المدينة التي صقلت روحها فسالت منها اعترافات بحقائق مؤلمة خطتها بأنامل متعبة، وبلغة ربما لا تزال في مرحلة بكورتها الأولى، وفضلا عن كونها عاشقة للقلم فهي محبّة للرسم بالفطرة، وكأن تلك الهواية انْطقت حبرها ليمارس هو الآخر لعبة البوح بلغة غامضة متخفية وراء ستار التشفير.
ولمزيد من الفضول، استغلينا تواجدها بمعرض الكتاب الدولي في طبعته الـ 25 لنجري معها هذا الحوار علّنا نفك تشفيرة ذلك الستار.
- الشعب: ما قصتك مع الكتابة التي زاحمت الرسم، وجعلت منك عاشقة حائرة بين القلم والريشة؟
الكاتبة حياة بركاني: الكتابة لم تكن من أولوياتي على القدر الذي كانت به ريشتي وألواني، فعشقي الأبدي للرّسم كان منذ الصغر، أين كنت أمارسه على لوحات وخزائن أمي العتيقة ليكبر معي وتكبر الأحلام بأن أحذو طريق الفن التشكيلي، ولكن جرت رياحي بما لا تشتهي سفني لأتوجّه إلى المجال الأدبي، بعد أن تحصّلت على شهادة الدكتوراه تخصص أدب عربي قديم. هنا أين دمجت بين موهبتي للرسم والكتابة في رسالة الدكتوراه الموسومة بسيميائية اللون في الشعر الأندلسي في القرن الخامس الهجري، ليكون «باكور البنفسج» أول مولود لي ولد من رحم المعاناة.
- في نظرك، هل بإمكان الكتابة أن تغيّر الوعي العربي؟
أكيد، إذا كانت الكتابة هي اللسان الناطق بحال الإنسان، فهناك الكثير من الروايات العربية مثلا أو الكتب التاريخية، التي كانت لها دور فاعل في صقل الوعي العربي شريطة توفر تربة خصبة ومناخ ملائم يساهم في ولادة هذا التغيير، وهذا الأخير الذي يحتاج بدوره إلى ثلة من الشروط المهمة في بناء وعي عربي يتقبل معنى التغيير الحقيقي، فلا كتابة دون وعي ولا وعي دون كتابة، ويبقى الوعي العربي متصل أشدّ الاتصال بطبيعة الذات، وما تتوفر عليه من درجة الوعي، لأن الوعي في حدّ ذاته يشمل دلالات ذات أبعاد فردية واجتماعية، وكما صدح فذ الأفذاذ مالك بن نبي قائلا: «غيّر نفسك تغيّر التاريخ».
- إلى ماذا يعود هذا الرّكود الإبداعي؟
نعم سؤال وجيه، يحتضن علامات استفهام عدّة يمكن أن نجيب عنها في نقاط أهمها: بداية أنّ العالم العربي توجد به أزمة متجذّرة وواضحة في الكتابة الإبداعية نفسها، وهي أزمتي نشر وكتابة، كما أنّ هنالك عزوف للقراء، وكل هذه المشاكل خلقت أزمة حقيقية خطيرة جدا تحتاج إلى فترة لمناقشتها، كي لا تنهمر العملية الإبداعية بشكل يؤدي إلى إقصائها على أرضية الساحة الأدبية إلى الأبد، فظهرت هذه الأزمة وتطفو بمظاهر كثيرة متمثلة في ركود وقلة في الإنتاج الجيد، كما أنّ هناك مشاكل مسابقات وبرامج ثقافية، مشاكل نشر، ومشاكل نفسية ومجتمعية صارخة أثّرت على حركة الكتابة الإبداعية، وذلك بتغييب بعض الأسماء اللامعة، وطمس الأسماء الواعدة التي كان لها حق البروز.
ومن رأيي الخاص أنّ القراءة التي لا تكون في مراحل بكورة الشاب، أي حتى يكون لدينا جيل يقرأ لابد من تعليمه وتطويعه على القراءة في مراحله التعليمية الأولى، وكلّما ابتعد جيلنا عن القراءة كلما أصبحت الكتابة الإبداعية ذبيحة العزوف، الذي يؤدي بدوره إلى ركود إبداعي قاتل.
- كيف بإمكانك تحديد العوامل التي من خلالها قد يتدارك الأدب العربي نقصه؟
أهم العوامل التي يمكن للأدب العربي أن يتدارك نقصه، علينا أن ننجب جيلا محبا للقراءة واللغة العربية، لا جيل مدمن على الأنترنت، جيل يحاكي رفوف المكتبات، لا جيل يختلي في زوايا الفايسبوك والانستغرام والتويتر..لأنّ هذه الأخيرة بإمكانها أن تكون فضاءات تسجّل لنا وسيلة اتصال ونشر ما نكتبه ونبدعه، لكن لن تعطينا روح الإبداع كما الورقة والقلم، الذي يفتضُّ عادة بكارة بياض الورقة، فينجب منها مولودا أدبيا غاية في الروعة يناغي كل متطلبات الحياة، لا يهدأ أن يتسرّب في كل مجالاتها الثقافية الفكرية والاجتماعية والتاريخية والحضارية، وهكذا نكون قد فتحنا الباب أمام الكفاءات المبدعة وأمنّا لها الطريق نحو الإبداع، وذلك بفتح الفضاءات الثقافية والنوادي التي ستكون وسيلة لنشر أعمال الشعراء والأدباء، وتحفيزهم للنهوض باللغة العربية التي تعتبر المرضعة البيولوجية لولدها الموسوم بالأدب العربي.
- ظاهرة النقد الثقافي هناك من يراها تتهاوى، وهناك من لم يجد لها رؤية واضحة، فكيف تعقبين عليها؟
النقد الثقافي هو تلك الظاهرة التي تهتم بكل ما يتعلق بالنشاط الإنساني، وهو الأقدم ظهورا، وبما أنه هو الركيزة الأساسية التي تسهم في تحليل النصوص والخطابات الأدبية والفنية والجمالية في ضوء معايير ثقافية وسياسية واجتماعية وأخلاقية، بعيدا عن المعايير الجمالية والفنية والبويطيقية، كما أنّه يهتم بالمؤلف والقارئ والناقد، ومن ثمة فالنقد الثقافي نقد إيديولوجي وفكري عقائدي، وبالتالي أصبح المثقفون ينطلقون من مسلّمات ثقافية وسياسية، وهذا ما يخرج النقد الثقافي عن وظيفته النبيلة لأنه منهج يقصي من حسابه (الفن والجمال والوظيفة الشعرية)، وبالتالي لا يعترف بالبنيات الشعرية واللسانية والسيميائية لأنه يتعامل مع النّص، ممّا جعل ظاهرة النقد الثقافي بين المطرقة والسندان في رؤية ضبابية .
- كيف تقيّمون الثّقافة العربية بما فيها الأدب والكتابة بكل فنونها؟
الثّقافة العربية تقبع تحت طائلة ما يُعرف بالحداثة وتقليد الغرب في أبسط الأمور، كما أن دخول هذه التكنولوجيات أدّى إلى محاولة الإنسان العربي تقليد واتباع الغرب، ممّا خلق ما يعرف بالتبعية الثقافية وطمس الهُويّة الثقافية العربية، وعلى إثر هذا التداخل العميق بين الثقافتين أدّى إلى طغيان ثقافة الغرب، واضمحلال الثقافة العربية ممّا انعكس سلبا على المنتوج الأدبي والكتابة.