شكّل موضوع “تحوّلات الكتابة الجزائرية المعاصرة بين انفتاح الأشكال وتعدّد القراءات وإشكالات الهوية” محور ملتقى وطني بجامعة محمد خيضر ببسكرة، شارك فيه أساتذة من كافة أنحاء الوطن بمداخلاتهم.
حاولت الدكتورة عائشة لعبادلية من جامعة خنشلة خلال مداخلتها، رصد تحوّلات الرواية الجزائرية المعاصرة وتجلّياتها على مستوى الإبداع الروائي الجزائري الراهن، مشيرة إلى أنّ الرواية الجزائرية المعاصرة شهدت في العقود الأخيرة تجارب روائية جديدة، من خلال تبنّيها لأشكال سردية مختلفة عن السرد التقليدي في محاولة لتجريب تقنيات جديدة تعكس وعي الكتاب بواقعهم وبالطرائق الإبداعية الجديدة.
وتقول المتحدّثة إنّ الرواية الجزائرية المعاصرة “هي انعكاس مرآوي لعديد التحوّلات السياسية والاجتماعية والثقافية، فالتحوّلات التي تمسّ المتن الروائي والبنية السردية تنشأ من تحوّلات الواقع وتغيّر الإيديولوجيات، لذلك عكف الروائيون على مواكبة التطوّرات الحاصلة بهدف كتابة نصّ روائي يستوعب التحوّلات الراهنة برؤى مغايرة مناهضة للنموذج التقليدي.”
وأوضحت أنّ: “التحوّلات المركزية التي ميّزت الرواية الجزائرية المعاصرة، هي تلك التغيّرات التي شهدتها الجزائر في فترة التسعينيات على المضمون، أما على مستوى الشكل فتجلّى ذلك من خلال تبنيها طرائق وتقنيات الكتابة الجديدة التي ميّزت الحداثة ما بعد الحداثة، حيث دفع بالرواية الجزائرية إلى تجاوز القالب الثوري الذي ميّز الرواية منذ الاستقلال وسار بها إلى التجريب والانفتاح على الطرائق ما بعد الحداثية.”
وفي سياق آخر، ذكرت عائشة لعبادلية، أنّ الرواية الجزائرية المعاصرة عرفت تقنيات جديدة كالتداخل الأجناسي مع الشعر والسيرة والرسائل والوصية والملحمة والمقامة والمسرحية والأسطورة والحكايات الشعبية، كما تعالقت مع الفنون الأخرى كالرسم والموسيقى والرقص وغيرها، انطلاقا من توسّع مفهوم الأدب وتفاعله مع جميع مجالات الثقافة بما فيها الثقافة الشعبية والأنواع الهامشية، قائلة إنّ ذلك “كان في سياق ما بعد الحداثة التي حطّمت الجدار العازل بين الثقافة الشعبية والثقافة الرفيعة واحتفت بالهامش وتبنّت التعدّد والاختلاف”.
كما لفتت ذات الدكتورة إلى أنّ الرواية الجزائرية المعاصرة طوّرت الأساليب القديمة وطوّعتها برؤية جديدة تتماهي مع الراهن وقضاياه كأسلوب السخرية، حيث طغى التمثيل السردي الساخر على النصّ الروائي الجزائري المعاصر، بهدف الكشف عن الواقع وما فيه، فضلا عن الاهتمام بكتابة الهامش للكشف عن المقموعين في المجتمع والتمثيل السردي للتاريخ انطلاقا من مزج الواقعي بالتخييلي.
من جهة أخرى، تطرّق الدكتور رابح ذياب (جامعة محمد لمين دباغين سطيف 2) إلى موضوع “الخطاب الروائي الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية ودوره في ترسيخ الهوية الوطنية”، قائلا بأنّه “وجد لظروف وأسباب تاريخية في مرحلة معينة، فالفرنسيون حاربوا اللغة العربية وفرضوا اللغة الفرنسية، وهذا ما أنشأ وضعا شاذّا، انقلب فيه السحر على الساحر، جعل من الفرنسية أداة تلعب نفس الدور الذي كان على العربية أن تقوم به، فلم تقطع هذه اللغة الجزائري عن ماضيه وتبعده عن واقع أمّته وهويته، بل عبّرت الكتابة بها عن مضمون جزائري وواقع وطني.”
وأشار ذياب، إلى أنّ الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية شكّل ظاهرة ثقافية ولغوية متميّزة، أثارت جدلاً ونقاشا كبيرين بين النقاد والدارسين حول هويته، هذا الأدب الذي بدأ يتأسّس في عشرينيات القرن الماضي بخصوصيات محلية وبلغة المستعمر الذي كان يستعدّ للاحتفالات بمئوية غزوه للجزائر، فقد تفطّن المثقف الجزائري إلى أنّ اللغة الفرنسية ليست ملك الفرنسيين وحدهم، بل على الرغم من كونها لغة المستعمر إلاّ أنه يمكن تحويلها إلى سلاح ثقافي يستعمل في مواجهة الغازي، والتفكير في سلاح اللغة من أقوى اللحظات التاريخية في الوعي الوطني، أن تخاطب العدوّ بلغته وتحاربه بها فتلك هي المعركة الكبرى”.
وخلال تقديمها لمداخلة “قصيدة الّنثر في المنجز الشّعري الجزائري بين الرّفض والتّأييد” ذكر كلا من الدكتور محمد الأمين بركات، والدكتورة سهيلة جريد أنّ السّاحة الشّعرية الجزائرية المعاصرة عرفت أشكالا فنّية جديدة منذ ظهور الشِّعر الحرّ إلى يومنا هذا، وأوضحا أنّ الشّاعر الجزائري المعاصر كان حريصا على المشاركة في الفتوحات الفنية التي عرفها النصّ الشّعري، مستلهما من الثّقافتين العربية والغربية، محاولا التحرّر من رتابة الوزن وسلطة القواعد العروضية، طامسا معالم العروض الخليلي، رافضا الانصياع لنسق شكلي جاهز، ثائرا على كلّ ما يتصل بالقديم من تقاليد شعرية وفكرية، فكانت قصيدة النثر-هذا الجنس الأدبي الدخيل- نتاجا لصدمة الحداثة والتي خاض غمارها فسمحت له بالانفتاح على آفاق نصية جديدة كرؤيا تحولية تدميرية غايتها كسر القوالب وهدم تقاليد الكتابة، وبين مؤيّد لهذا الوافد الجديد عادّا إياه أحد الفتوحات الفنية وبين معارض له متّهما أصحابه بشتّى التّهم، نسوق ورقتنا البحثية هاته للوقوف على مدى حضور قصيدة النثر في المنجز الشّعري الجزائري المعاصر، وموقف النقاد الجزائريين منها، وهل استجابت لتطلّعات الشاعر والقارئ على حدّ سواء بإنتاج نصوص جديدة تتماشى وتحوّلات الواقع الإنساني وتغيّرات العصر؟”.
بدوره، أشار طبوش بوعلام من جامعة البويرة، في مداخلته “بين الكتابة في تطوّر الرواية الجزائرية الناطقة بالأمازيغية: تطوّر الكتابة، تنوّع الأشكال ورهانات الهوية” إلى أنّ الكتابة الجزائرية المعاصرة تشهد مرحلة من التحوّلات العميقة، تتميّز بالانفتاح على أشكال جديدة من التعبير وتنوّع المقاربات النقدية. لافتا إلى أنّ هذه التحوّلات لا يمكن فصلها عن السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تتجلى فيها، حيث تحتل الإشكاليات الهوياتية مكانة مركزية.
وقال بأنّ تحليل هذه التحوّلات يمكّننا من فهم أفضل لكيفية تفاوض الكتابة الجزائرية المعاصرة بين التوترات القائمة بين التقليد والحداثة، وبين المحلي والعالمي.
ولفت ذات الباحث إلى أنّ الكتابة الأمازيغية، قد شهدت خلال العقود القليلة الماضية نهضة حقيقية. وأنّ هذا التطوّر لم يقتصر على تنوّع الأشكال السردية، بل صاحبته أيضًا إعادة تقييم عميقة للقضايا الهوياتية داخل المجتمع الجزائري.
وبعد نقاشات مثمرة خلص الأساتذة المشاركين في ختام أشغال الملتقى إلى مجموعة من التوصيات أهمها: ترقية الملتقى إلى الصفة الدولية، تشجيع الدراسات النقدية المعاصرة حول الأدب الجزائري المعاصر، مع التركيز على التحوّلات السيوسو ثقافية والهواياتية. وكذا إصدار منشورات تضمّ أهم المداخلات والنقاشات التي تمّ تناولها خلال الملتقى لتكون مرجعاً أكاديميا، فتح الشراكة مع مختلف المخابر العلمية في مختلف الجامعات الوطنية، الاهتمام بموضوع تحوّلات الكتابة الجزائرية بمختلف اللغات (عربية، إنجليزية وفرنسية).
كما أوصى المشاركون أيضا بتعزيز النقاش حول كيفية تعبير الأدب الجزائري على الهوية الوطنية والتعدّد الثقافي، مع دراسة تأثير الأمازيغية والعربية والفرنسية والانجليزية في تشكيل الخطاب الأدبي، ومناقشة دور التعدّد اللغوي في إثراء الكتابة الجزائرية، إضافة إلى ضرورة إنشاء منصّات الكترونية وأدوات رقمية للتعريف بالأدب الجزائري على المستويين المحلي والدولي، وفتح مشاريع بحثية في الأدب الجزائري في مختلف أشكاله، مع الانفتاح على المحيط الخارجي لتأسيس مشاريع مؤسّسة ناشئة.