أصـدر “أصـول الـعـمارة والفـن”

هادف يقـرأ الـتاريخ الــفني والمعماري في البـلاد العربية

فاطمة الوحش

صدر حديثا للباحث المتخصص في تاريخ العمارة والفنون، هادف سالم، كتابا جديدا موسوما بـ«أصول العمارة والفن في حضارات العالم العربي”، يقدم من خلاله قراءة علمية شاملة ومقارنة، تتبّع فيها النشأة والتطور الفني والمعماري في حضارات المنطقة، منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى بدايات العصر الإسلامي. ويأتي هذا العمل في سياق الحاجة الملحة إلى مراجعة عميقة للمفاهيم السائدة حول العمارة والفنون في العالم العربي، خصوصًا في ظل استمرار الاعتماد على تصورات غربية لا تزال رائجة في الجامعات ومراكز البحث، رغم مرور عقود على بروز أصوات فكرية عربية طالبت بإعادة النظر في تلك القراءات المختزلة أو المنقوصة.

يحاول هادف سالم، في هذا المؤلف، أن يربط بين مختلف العصور التاريخية بشكل متسلسل، معتمدا على قرائن أثرية وفنية مدعّمة بمراجع علمية، أغلبها من مصادر غربية، لكنه يعيد توظيفها ضمن منظور نقدي يعارض التسليم التام بما جاءت به تلك المراجع من خلاصات.

في مواجـهة الـسرديـات الغربـيــة.. دعـوة إلى اسـتقــلال مـعرفي

يرى هادف سالم، أن جزءا كبيرا من الدراسات الغربية المتعلقة بتاريخ العمارة والفن في المنطقة، اعتمدت مقاربات جزئية، وأحيانا متحيّزة، لم تنصف الدور الحضاري العميق الذي لعبته هذه الحضارات في تشكيل الذاكرة الفنية والمعمارية للإنسانية جمعاء. ولا يكتفي الكاتب بنقد هذه التصورات، بل يقدّم بديلا علميا، يحاول من خلاله ربط تطور العمارة والفنون بالتحولات السياسية والاجتماعية والدينية، كاشفا عن استمرارية حضارية لم تنقطع، بل تطورت وتجدّدت عبر العصور، وصولا إلى العصر الإسلامي وقد تراكمت فيها عناصر جمالية ومعمارية عريقة، مستمدّة من حضارات سابقة دون أن تنفصل عنها أو ترفضها.
ما يلفت الانتباه في هذا العمل أن المؤلف لا يقدّم سردا تاريخيا تقليديا، بل ينطلق من تساؤلات عميقة تحرّك ذهن القارئ وتدعوه للتفكير النقدي، مثل: هل نجحت التقديرات الغربية في إعطاء رؤية عادلة لحجم وعمر النتاج الفني والمعماري في المنطقة؟ وهل أنصفت الدراسات الأكاديمية الحضارات العربية كمصدر أصيل للإبداع، أم اختزلتها في مجرد وسيط لحضارات الفرس واليونان والرومان؟ لا يخفي الكاتب شكوكه، معتبرا أن المشرق العربي هو مهد الحضارات الكبرى، وهو من أسّس المدن الأولى، وابتكر أسس الكتابة والفنون والعمارة الرمزية الوظيفية.

”تجمـع تراثـنـا” مـبـادرة بحثــيـة بــاســتـعــادة الــذاكـرة الــفـنـيــة والمــعـماريـــة

وإلى جانب هذا الطرح النقدي، يكشف الكتاب عن طموح لبناء مشروع معرفي مستقل في دراسة العمارة والفنون في العالم العربي. ويشير سالم في مقدمته إلى أنه حاول في البداية التعاون مع مراكز أكاديمية عربية لتأسيس خطة جماعية، لكن الواقع الإداري والبحثي لم يساعد، فباشر عملا فرديا شكّل لاحقا نواة مشروع “تجمّع تراثنا”، الذي يسعى إلى أن يتطور إلى شبكة بحثية عربية واسعة تعيد قراءة تاريخ العمارة والفنون بمنهج علمي مستقل عن التبعية الغربية. ويأتي هذا المشروع في وقتٍ تمس فيه الحاجة إلى مناهج جديدة، تنفتح على المقارنات، وتستفيد من أدوات التحليل المعاصرة، دون أن تغفل الخصوصيات الثقافية والجغرافية التي شكّلت هوية الفن والعمارة في العالم العربي.
ويرى هادف سالم، أن قراءة تاريخ الفنون والعمارة لا يجب أن تنحصر في المرحلتين الإسلامية أو الكلاسيكية فقط، بل ينبغي أن تعود إلى الجذور الممتدة في حضارات بلاد الرافدين، ومصر القديمة، وبلاد الشام..حيث تبلورت معايير جمالية ما تزال تؤثر في الثقافة البصرية إلى اليوم. كما يشير إلى أن النهضة الإسلامية لم تكن قطيعة، بل نتيجة تفاعل طويل بين المعارف المحلية والموروثات الحضارية، وقد بدأت ملامحها مع العصر الأموي، ثم ازدهرت في العصر العباسي، وامتدت إلى الأندلس التي شكّلت في قرطبة وغرناطة ومناطق أخرى مركزا حضاريا موازيا لمدن المشرق، ورافدا للنهضة الأوروبية التي استفادت من منجزات العرب والمسلمين في مجالات العمارة والفنون والعلوم.

مـن الـنـص إلى الصـورة.. 170 لوحة تـوثــق حـضـارات الـعـالم الـعـربــي

يعتمد الكتاب في بنائه على الجانب الميداني، ويوظّف أكثر من 170 لوحة وصورة وشاهد أثري، تعزز فرضياته وتمنح القارئ مادة بصرية تساعده على تبيّن الفروقات الجمالية والزمنية بين مختلف الحقب، كما تدعّمه بالحجج العلمية التي تقوّض السرديات السائدة. ويُلاحظ، في هذا السياق، حضور قوي للحضارات المغاربية، التي طالما همّشتها الكتابات العربية والغربية، حيث يحاول الكاتب إبراز مساهمتها في إثراء العمارة الإسلامية، خصوصا في نماذج القيروان وتلمسان..، وما أفرزته من أشكال فنية محلية متفرّدة ومتكاملة مع عمارة المشرق.
وفي حين، يقرّ الكاتب بوجود اعتراف غربي نسبي بأهمية بعض الحضارات العربية القديمة، فإنه ينتقد الاقتصار على هذا الاعتراف في سياق زمني محدد، يعقبه تمجيد مفرط للفرس والرومان والإغريق، وكأنّ الحضارات العربية لم تكن سوى مرحلة تمهيدية لحضارات أخرى - يشير هادف سالم - ويعتبر أن هذه النظرة لا تعبّر عن تقييم علمي نزيه، بل تعكس موقفا ثقافيا محملا بأبعاد استعمارية ومعرفية ينبغي تفكيكها وإعادة قراءتها من داخل المرجعيات الحضارية العربية.
يشكل هذا الإصدار مساهمة فكرية جادة تسعى إلى تحرير دراسة العمارة والفنون في العالم العربي من التصورات النمطية والتبعية المعرفية التي كبّلت البحث لعقود. ومن خلال هذه المقاربة النقدية المتبصّرة، يدعو هادف سالم إلى فتح آفاق جديدة أمام جيل من الباحثين يكون قادرا على النظر إلى تاريخه الحضاري كمصدر قوة وإبداع، لا مجرد مادة للمقارنة أو التقييم الخارجي. ومن هنا، فإن الكتاب لا يخص المتخصصين فقط، بل يخاطب كل من يسعى إلى فهم أعمق لهوية المنطقة، وغناها الحضاري، وتحدياتها المعاصرة في مجال الثقافة البصرية والعمارة.
يُذكر أن هادف سالم باحث في تاريخ العمارة والفنون، يتميز باهتمامه بدراسة حضارات العالم العربي من منظور نقدي مقارن، يسعى من خلاله إلى إعادة قراءة الفنون والعمارة بمعزل عن التصورات الغربية التقليدية. جمع خلال مسيرته بين التجربة الميدانية والعمل البحثي، واشتغل على توثيق المعالم وتحليل الرموز الجمالية والمعمارية من العراق ومصر وبلاد الشام، والأندلس..كما شارك في العديد من المؤتمرات العلمية، وله اهتمام خاص بتطوير مناهج دراسية جديدة لقراءة الفنون والعمارة في المنطقة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19776

العدد 19776

الإثنين 19 ماي 2025
العدد 19775

العدد 19775

الأحد 18 ماي 2025
العدد 19774

العدد 19774

السبت 17 ماي 2025
العدد 19773

العدد 19773

الخميس 15 ماي 2025