رفض “دوغمائيات” الحداثة وانتقد روّادها

”مفارقة الرّواية”..هايدنز يكسّر قيود الإبداع الأدبي

سليمان - ج

 لا يقدم كليبر هايدنز مجرد نقد عابر للرواية في كتاب “Paradoxe sur le roman”، بل يطرح رؤية شاملة وفلسفة عميقة حول ماهية الأدب الأصيل. إنّه كتاب يمثّل ثورة فكرية ضد ما يعتبره هايدنز “دوغما” تفرضها تيارات أدبية معينة على الإبداع الروائي، مُعيدًا بذلك الاعتبار للحرية الفنية والذاتية في عملية الكتابة والقراءة.

 يُشكّل كتاب “Paradoxe sur le roman” (مفارقة حول الرواية) لكليبر هايدنز، الصادر عن دار “Grasset”، وثيقة نقدية وأدبية بالغة الأهمية، لا لكونه مجرد تحليل لظاهرة أدبية، بل لأنه يُعد صرخة مدوية لكاتب يتألم لواقع الأدب في عصره. إنه ليس نقدًا أكاديميًا باردًا، بل هو شهادة شغوفة على شغف هايدنز العميق بالأدب الحقيقي، وغضبه على ما يراه تدهورًا وابتذالًا للروح الإبداعية. إن الكتاب، في جوهره، دعوة للعودة إلى الفطرة الأدبية، إلى الجوهر غير المُقيد للكتابة، وإلى تحرير الرواية من أغلال النظريات والمدارس الأدبية التي يعتبرها هايدنز مجرد قيود خانقة.

”الواقعية” الوهمية و”الشّخصيات” المبتذلة

 يُسلّط هايدنز الضوء، بأسلوبه اللاّذع المميز، على ما يعتبره مغالطات كبرى في فهم الرواية. ففكرة “الشخصيات النابضة بالحياة” التي تُعد معيارًا للجودة في كثير من الأحيان، تُصبح تحت مجهره “وهمًا مريحًا”..هنا، لا يُنكر هايدنز أهمية الشخصية في الرواية، بل يُشكك في الطريقة التي تُصاغ بها وتُفهم..هل يجب أن تكون الشخصيات نسخًا طبق الأصل من الواقع؟ هل يُفترض بالكاتب أن يُقدم “محاكاة” للحياة بدلاً من “خلق” فني؟!
يُشير هايدنز إلى أنّ التركيز المُفرط على “الواقعية” في خلق الشخصيات يُجردها من بعدها الرمزي أو الفني، ويُقيد خيال الكاتب، ويحوله إلى مجرد ناسخ أو مصور للواقع المادي. ويرى هايدنز أن الشخصية الروائية يجب أن تكون كيانًا فنيًا يُمكن الكاتب من استكشاف أفكار ومشاعر أعمق، لا مجرد دمية واقعية.يُوسّع هايدنز هجومه ليشمل المفهوم الشائع للواقعية نفسه، ويصفه بأنه “تحيز غير واقعي بالمرة”، وأن “المعقولية مجرد تفاهة” (la vraisemblance est une fadaise). هذه العبارات تبدو صادمة، لكنها تحمل في طياتها رفضًا لمفهوم ضيق للواقعية يرى أن الرواية يجب أن تلتزم بمنطق الحياة اليومية.
ويدعو هايدنز إلى واقعية أوسع، واقعية تُدرك أن الفن ليس مجرد مرآة تعكس الوجود، بل هو قوة تُعيد تشكيل الواقع، وتُضيف إليه أبعادًا جديدة، قد تكون خيالية، سريالية، أو حتى غير منطقية بالمعايير اليومية. فالقيمة الفنية للرواية لا تكمن في مدى مطابقتها للواقع، بل في مدى قدرتها على الكشف عن حقائق أعمق، غالبًا ما تكون مخبأة خلف ستار “المعقولية”.

” الشّهادة” و” الكتابة الملتزمة”: رهـــــن الأدب للوظيـــفة

 يستمر هايدنز في هجومه على الأفكار الشائعة، مُعلنًا أن “الشهادة فخ للسذج”. هذا الموقف يُعد تحديًا مباشرًا لفكرة أن الرواية يجب أن تكون “شاهدة على عصرها” أو أداة “ملتزمة” بقضية اجتماعية أو سياسية. ويُجادل هايدنز بأن القيمة الحقيقية للكاتب تكمن في كونه “كاتبًا عظيمًا” وليس “شاهدًا على عصره”.
هذا التمييز جوهري  يُعيد الأدب إلى مساحته الفنية الخاصة، ويحرّره من أن يكون مجرد أداة دعائية أو وثيقة تاريخية.
في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ازدهر مفهوم “الأدب الملتزم” (littérature engagée)، الذي ربط الأدب بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية. غير أن هايدنز الذي يُشير إلى “إرهاب” هذا النوع من الأدب، يرى فيه تقييدًا للإبداع، وإخضاعًا للفن لأغراض خارجة عن نطاقه. فالأدب - في رؤية هايدنز - يجب أن يكون حرًا، يُعبر عن رؤية الكاتب الفريدة للعالم، حتى لو كانت هذه الرؤية غير “ملتزمة” بمعايير معينة أو غير “شاهدة” على أحداث بعينها. القارئ، وفقًا لهايدنز، فإن القراء لا يقبلون على أعمال بلزاك؛ لأنه يُقدم تفاصيل دقيقة عن فرنسا القرن التاسع عشر، بل لعمق شخصياته، جمال أسلوبه، وقدرته على فهم الروح الإنسانية.

”انطلق في المغامرة”..دعوة هايدنز للتّحرّر

انطلاقا من هذا النقد الحاد، يُقدّم هايدنز ما يُمكن اعتباره البيان الفني الخاص: “القاعدة بسيطة. يكفي أن “تنطلق في المغامرة”، و«ألا تسلك طريق الآخرين”. هذه الجملة هي مفتاح فهم فلسفة هايدنز..إنها دعوة جريئة للكاتب بأن يتحرر من النماذج الجاهزة، من المدارس الأدبية المُحددة، ومن توقعات القراء والنقاد. الرواية الحقيقية، في نظره، هي تلك التي تجرؤ على الابتكار، على اكتشاف مسارات جديدة، وعلى خلق عالمها الخاص بقواعدها الخاصة.
هذه “المغامرة” ليست مجرد خروج عن المألوف، بل هي عملية استكشاف للذات وللعالم بأسلوب فريد. إنها دعوة للكاتب لأن يكون أصيلًا، وأن يُعبر عن رؤيته الخاصة دون خوف من مخالفة التقاليد أو التوقعات. “ألا تسلك طريق الآخرين” تعني رفض المحاكاة، والانصياع لاتجاهات سائدة قد تُفرغ الأدب من محتواه. إنها دعوة للشجاعة الأدبية، لكسر القوالب، ولإيجاد صوت شخصي ومُختلف.

”الرّواية الجديدة”..آلة التّدمير الأدبي!!

 يُخصّص هايدنز جزءًا كبيرًا من نقده العنيف لـ “الرواية الجديدة” (Nouveau Roman)، واصفًا إياها بـ “آلة مسطحة وحزينة: مصمّمة لتؤدي إلى التدمير الكامل للأدب”. هذا الوصف القاسي يكشف عن مدى رفضه لهذا التيار الأدبي الذي ظهر في منتصف القرن العشرين. ويرى هايدنز أن “الرواية الجديدة”، بتركيزها المفرط على الشكل، وتفكيكها للسرد التقليدي، وإلغائها للشخصية والحبكة، تُجرد الرواية من جوهرها.بالنسبة لهايدنز، الرواية ليست مجرد تمرين شكلي أو بناء هندسي معقد. إنها وسيلة للتعبير عن الوجود الإنساني، عن المشاعر، عن الأفكار، وعن القصص التي تُشكل حياتنا. عندما تُصبح الرواية “مسطّحة” و«حزينة” ومُجردة من العاطفة والقصة، فإنها تفقد قدرتها على التواصل مع القارئ، وتُصبح، في نظره، “تدميرًا كاملًا للأدب”.
هجوم هايدنز على سارتر (بالرغم من عدم كونه من رواد الرواية الجديدة، إلا أنه يمثل الاتجاه “الملتزم” الذي سبقه)، وروب-غرييه، وناتالي ساروت (من أبرز أعلام الرواية الجديدة)، يُظهر مدى استيائه من هؤلاء الذين يصفهم بـ “الحفارين غير المسؤولين” الذين يُساهمون - في نظره - في تدمير الأدب باسم الحداثة أو التجريب.

دفاعا عن روح الرّواية الحرّة

في الختام “Paradoxe sur le roman” ليس مجرد مقال نقدي، بل هو صرخة دفاع عن روح الرواية الحرة. إنه كتاب يطرح أسئلة جوهرية حول ماهية الأدب، ودور الكاتب، وعلاقة الرواية بالواقع. يُعد هايدنز مُفكرًا مستقلًا، لا يُساوم على مبادئه، يُقدم رؤيته الواضحة للأدب بعيدًا عن أي مؤثرات أو ضغوط.رسالة هايدنز لا تزال ذات صلة حتى اليوم. ففي عالم أدبي يُغرق أحيانًا بالنظرية، وتُصبح فيه الرواية أحيانًا مجرد “منتج” مُعد للاستهلاك، يأتي صوت هايدنز ليُذكرنا بأن الأدب الحقيقي هو فعل إبداعي يتطلب الشجاعة، الأصالة، والتحرر من كل ما يُقيد الخيال ويُطفئ جذوة الروح. إنها دعوة لكل كاتب وقارئ لإعادة اكتشاف “المغامرة” في الأدب، وللتحرر من “القيود” التي تُفرض على الإبداع، حتى يظل الأدب حيًا ونابضًا بالحياة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19779

العدد 19779

الخميس 22 ماي 2025
العدد 19778

العدد 19778

الأربعاء 21 ماي 2025
العدد 19777

العدد 19777

الثلاثاء 20 ماي 2025
العدد 19776

العدد 19776

الإثنين 19 ماي 2025