جونسيـس دعا إلى مناهضــة ثوريـة تحرّريـة للاستعمار

الديكولونياليـة..أسيرة المصفوفــة الاستعماريــة

كتب: الهادي شابتي

 في سياق تنامي النقاشات حول إرث الاستعمار وتأثيراته المعاصرة، يطرح عالم الاجتماع بيير جوسينس، رؤية نقدية جذرية لما يُعرف بـ«النظرية الديكولونيالية”. يرى جوسينس، وهو أحد مؤلفي كتاب “نقد العقل الديكولونيالي”، أنّ هذه النظرية، رغم أهميتها في تسليط الضوء على استمرارية الاستعمار، تبقى “أسيرة للمصفوفة الاستعمارية” وتُخفق في تقديم حلول تحررية حقيقية ما لم تتجاوز الرأسمالية.

تستند دراسات إنهاء الاستعمار التي نشأت في أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة خلال التسعينيات، إلى فرضية أساسية مفادها أن الاستعمار لم ينتهِ بانتهاء الاحتلال المباشر، بل يستمر في الهياكل الاجتماعية المعاصرة، خاصة في أمريكا اللاتينية. تُفسر هذه النظرية عدم المساواة الاجتماعية والعرقية في المنطقة منذ الغزو الأوروبي عام 1492. وتذهب إلى أن الحداثة الغربية انبثقت من نهب ثروات الأمريكتين، ممّا أرسى نظام هيمنة عالمي محوره الأساسي هو العنصرية.
وتعتبر هذه النظرية “العرق” مفهوماً محورياً لفهم الاضطهاد، حيث تم اختراعه لتبرير استعمار الشعوب، وتنظيم التفاوتات الاجتماعية إلى غاية اليوم، بتقسيم العالم إلى “شمال” و«جنوب”، ثم يقسم البشر، داخل حاضنة منهما، إلى نخب بيضاء وسكان مستعمرين سابقاً. وتمنح النظرية “العرق” الأولوية في فهم “الهيمنة”، لتلقي بقضايا مثل التراتبيات الاجتماعي إلى مستويات ثانوية. وقد أسّس مثقفون وأكاديميون مثل إنريكي دوسيل وأنيبال كيخانو مجموعة “الحداثة /الاستعمار” التي ضمّت أسماء بارزة مثل والتر مينيولو وأرتورو إسكوبار.

نقد “الديكولونيالية”..تجاوز الثّنائيات نحو تحليل أعمق

يقر جوسينس ومؤلفو “نقد العقل الديكولونيالي” باستمرارية إرث الاستعمار، ودوره في تفسير جزء من التفاوتات الاجتماعية والعرقية. ومع ذلك، ينبهون إلى مغالطات محورية في النظرية الديكولونيالية، فبخصوص مفهوم العرق – على سبيل المثال - يرى جوسينس أنه رغم استغلاله لتبرير الهيمنة، لم يظهر كمفهوم بيولوجي معاصر قائم على الداروينية الاجتماعية إلا في القرن التاسع عشر، مما يجعله خطأ تاريخياً،  فاعتبار العرق عاملاً سابقاً على العوامل الأخرى في فهم الهيمنة خطأ ما يزال يترسخ في الأوساط الأكاديمية.
وفي سياق الثورة الجزائرية، لم يكن الاستعمار الفرنسي قائماً على تبرير بيولوجي للعرق بنفس الدرجة في بداياته، بل كان يستند إلى مفاهيم التفوق الحضاري والرسالة التمدينية، قبل أن يتطور إلى سياسات عنصرية ممنهجة لتمييز الجزائريين عن الفرنسيين، مثل قوانين التجنيس التي قصرت المواطنة الكاملة على الأوروبيين، وجعلت الجزائريين “أهالي” من الدرجة الثانية، وهو ما يمكن رؤيته كشكل من أشكال تفعيل المفهوم العنصرية الذي أسس له غوبينو.
وينتقد جوسينس تفسير “الديكولونيالية” للحداثة بأنها مجرد نتيجة لنهب الأمريكتين. ويحذّر من أنها تقع في “المثالية” بتركيزها على الأفكار والفلسفة الأوروبية، وإهمالها لعمليات التراكم التاريخية المرتبطة بالرأسمالية، ممّا يجعلها بديلاً للماركسية بدلاً من أن تكملها. ويرى أنّ “الأورومركزية” التي تركز عليها النظرية تتجلى في هيمنة ثقافية غربية عبر إنتاج المعرفة وفرض النموذج الجامعي.
ويرفض جوسينس الحتمية الجغرافية التي تربط موقع التعبير بالمعرفة (شمال / جنوب). ويؤكّد أن ظروف إنتاج مفهوم “تموضع المعرفة” يجب أن تؤخذ في الاعتبار، بما في ذلك الطبقة الاجتماعية، وكيف يندرج العمل في سوق السلع الثقافية. فمثلاً، مثقفون جزائريون درسوا في فرنسا، مثل مالك بن نبي، أنتجوا فكراً نقدياً للاستعمار والتبعية الثقافية (كمفهوم قابل للمناقشة مقارنة بـ “الديكولونيالية”)، لم يكن محصوراً بكونهم “من الجنوب” بل تجاوز هذا التصنيف الضيق ليتناول قضايا عالمية.
ويؤكّد جوسينس أن النظرية الديكولونيالية تسيء قراءة فرانز فانون، وتقدّمه كرائد لها رغم أن فانون لم يستخدم مصطلحات “استعمار” أو “أورومركزية” بمعانيها الديكولونيالية. ويشدّد جوسينس على أن فانون كان مناهضاً للأصلانية، وسعى لتجاوز الثنائيات العرقية (أبيض /أسود)، ودعا إلى استعادة الإنسانية وبناء الشمول الذي دمره الاستعمار، ذلك أن فانون الذي عاصر الثورة الجزائرية، وشهد عنف الاستعمار وممارساته، لم يدعُ إلى الانغلاق على الهوية العرقية، بل إلى التحرر الكلي. وهذا ما تجلى في كفاح الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي الذي لم يكن صراعاً عرقياً محضاً، بل كان صراعاً من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، جمع مختلف أطياف المجتمع الجزائري.

مناهضة استعمار ثورية وتحرّرية

ينتقد جوسينس “الديكولونيالية” لتهديدها بالوقوع في “اختزال” يعطي الأولوية لـ “صراع الأجناس” على حساب التراتبيات الاجتماعية. ويرى أن الهيمنة يجب أن تُفهم بطريقة غير هرمية، تأخذ في الاعتبار عوامل الهيمنة المتداخلة. يؤكد على أن علاقة الاستغلال الطبقي لا يجب أن تُخفف، وأن غياب مفاهيم مثل التراكم ورأس المال في خطاب “الديكولونيالية” يُعد محواً للمسألة الاجتماعية.
ويتوّج جوسينس رؤيته بالدعوة إلى “مناهضة للاستعمار ثورية وتحررية” تتجاوز طموحات “الديكولونيالية” السياسية، وتعود إلى كلاسيكيات النقد المناهض للاستعمار مثل أعمال فرانز فانون، وكذلك أعمال علماء اجتماع مكسيكيين صاغوا مفاهيم مثل “الاستعمار الداخلي” في الستينيات، مؤكّداً أنّ استقلال البلدان المستعمرة سابقاً ما زال غير مكتمل.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19788

العدد 19788

الإثنين 02 جوان 2025
العدد 19787

العدد 19787

الأحد 01 جوان 2025
العدد 19786

العدد 19786

السبت 31 ماي 2025
العدد 19785

العدد 19785

الخميس 29 ماي 2025