حـين تولـد “السّكينـة” من رمـاد المعـارك الكبرى

”الفضلاء”..نقـــد إنساني جـارح للكولونياليـة المقيتـة

سليمان - ج

 تُعد رواية “الفضلاء” للكاتب الجزائري ياسمينة خضرا (محمد مولسهول) إضافةً نوعيةً للمتن الروائي الجزائري، الذي يتناول التجربة الجزائرية في أبعادها التاريخية والنفسية. من خلال شخصية “ياسين شراقا” ومغامرته الوجودية التي تنطلق من دوار معزول في الجزائر عام 1914، تُقدّم الرواية دراسةً متأنيةً لتعقيدات الهوية والصمود في سياق التحولات الكونية الكبرى، مما يستدعي تحليلًا أكاديميًا لأبعادها السردية والفكرية.

 يستهل خضرا روايته بمقتطف ذي طبيعة تأملية وفلسفية، يُقدم من خلاله صوت السارد بضمير المتكلم، وهو تصريح وجودي بحد ذاته يحدد النبرة الكلية للعمل: “لقد عشت ما كان عليّ أن أعيشه وأحببت قدر استطاعتي. إذا لم يحالفني الحظ أو أضعته بفارق ضئيل، إذا أخطأت في مكان ما دون قصد، إذا خسرت كل معاركي، فإن هزائمي تستحق التقدير فهي دليل على أنني قاتلت”. يُعد هذا المدخل بمثابة “مقدمة فلسفية” (philosophical prolegomenon) تُشير إلى أن الرواية لن تقتصر على السرد الحدثي، بل ستغوص في التأويل الوجودي لتجربة الشخصية، مُقدمةً مفهوم “الانتصار في الهزيمة” كنواة سردية.
تُبنى الرواية على مبدأ “ترحيل الشخصية” (character displacement) من بيئتها الأولية المحدودة. فالنص يشير بوضوح إلى أنّ “ياسين شراقا لم يغادر دواره قط”،  هذه الجملة الافتتاحية تُحدد الإطار الجغرافي والزمني، وتُبرز براءة الشخصية وعزلتها.
عام 1914، يُمثّل نقطة انطلاق درامية محورية، فهو لا يشير فقط إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، بل إلى تسارع وتيرة التجنيد الإجباري للجزائريين في صفوف الجيش الفرنسي. هذا التحول الجغرافي والمصيري ليس مجرد انتقال مكاني، بل هو تحول أنطولوجي (ontological shift) يُجبر الشخصية على مواجهة تحديات وجودية تُعيد تعريف ذاتها وعلاقتها بالعالم. يمكن تحليل هذه البنية السردية في إطار نظريات “رواية التكوين”، حيث يُختبر البطل في مواقف غير مألوفة ليُعيد بناء فهمه للذات والمجتمع، وإن كانت رواية خضرا غالبًا ما تُقدم نسخة قاسية وواقعية لهذه الرحلة التكوينية.
يُتوقّع أن تُبرز الحلقات السردية اللاحقة كيف تتغير نظرة ياسين إلى العالم، العدالة، الحظ، وحتى للذات، مع كل تجربة يخوضها في هذا العالم الجديد الذي فُرض عليه. إن تتابع الأحداث سيُشكّل مسارًا تصاعديًا، حيث تتشابك التحديات الخارجية مع الصراعات الداخلية، مما يُضفي على السرد عمقًا نفسيًا يُمكن تتبعه عبر تحليل التطورات السيكولوجية لياسين في مواجهة العنف، الخسارة، والغربة.

ديالكتيك القسوة الإمبريالية والصّمود الوجودي

ياسمينة خضرا يُقدّم في “الفضلاء” رؤية نقدية متعددة الأبعاد للواقع، تتجلى في تفاعله مع التاريخ، المجتمع، والنفس البشرية، مدعومةً بلغته التي تجمع بين الواقعية الصارمة واللمسة الشعرية:
الواقع التاريخي والسياسي: نقد الإمبريالية وتداعياتها، تُعالج الرواية بشكل ضمني، وربما صريح، آثار الاحتلال الفرنسي وتجنيد الجزائريين في حروب لا تعنيهم. هذا البعد يُقدّم نقدًا لاذعًا للسياسات الإمبريالية التي تُجرد الأفراد من إنسانيتهم، وتُحولهم إلى مجرد وقود لصراعات القوى العظمى. يُمكن قراءة هذا في إطار الدراسات ما بعد الكولونيالية (Postcolonial Studies)، حيث تُعالج الرواية أصوات المهمشين والمتأثرين بالهيمنة الاستعمارية. يُبرز خضرا هنا كيف أن “الفضلاء” في هذا السياق ليسوا بالضرورة المنتصرين في المعارك العسكرية، بل هم الصامدون في وجه محاولات التشيؤ والإلغاء، الذين يحاولون الحفاظ على كرامتهم الإنسانية رغم الظروف القاسية التي يُفرضها عليهم النظام الاستعماري.
الواقع الاجتماعي والثّقافي: هشاشة الهوية الريفية في مواجهة العولمة المبكرة: يُقدم “الدوّار” كفضاء يُمثّل الأصالة والتقاليد، لكنه في الوقت ذاته، يُصبح نقطة ضعف أمام زحف التغيرات الخارجية. تُظهر الرواية كيف أن هذه المجتمعات المحلية، بتركيبتها التقليدية، تُصبح عرضة للتمزق والتحول القسري نتيجة للضغوط السياسية والعسكرية. فمثلاً، تجنيد ياسين سيُمثّل اختراقًا لبنية مجتمعه المغلق، مما يُثير تساؤلات حول كيفية بقاء الهوية الثقافية في ظل عملية “العولمة المبكرة” التي فرضتها الحرب العالمية الأولى، وكيف تتأثر العلاقات الاجتماعية والأسرية بهذا النغيير القسري.
الواقع النّفسي والوجودي: “الهزيمة الفاضلة” وتجلياتها: تُعد الفلسفة الكامنة وراء المقتطف الافتتاحي هي المحور الأساسي للرؤية النقدية للواقع. إن مقولة السارد بأن “هزائمي تستحق التقدير فهي دليل على أنني كافحت”، تُشير إلى مفهوم “الهزيمة الفاضلة” (virtuous defeat)؛ فالبطولة لا تُقاس بالانتصار الخارجي دائمًا، بل بالصمود الداخلي، بالقدرة على المقاومة، حتى لو كان مصيرها الفشل الظاهر. هذه النظرة تُقدم تحليلاً عميقًا للمرونة النفسية (psychological resilience) والبحث عن الكرامة الذاتية في سياقات القمع والمعاناة. الرواية هنا تتحول إلى دراسة حالة لكيفية بناء الإنسان لمعناه الخاص في عالم خالٍ من المعنى المفروض عليه، حيث تكون القيمة الحقيقية في بذل الجهد والمحاولة، لا في النتائج المضمونة.
الخلاص الوجودي: من التسامح إلى السكينة الداخلية: تختتم المقتطفات المتاحة بتأملات عميقة حول بلوغ السكينة: “أعتقد أنني بلغت العتبة التي تُقربني أكثر من خلاص روحي. هل هي الدرجة السابعة من قوس قزح التي يتحدث عنها مخطوط القدماء؟ – المغفرة؟ لا شك. منذ أن اخترت أن أغفر، لا أرتجف إلا للأشياء التي تُهدئ القلب والعقل. نعم، لقد غفرت كل شيء. وهذا أفضل بكثير. أنا بخير، خفيف كالرضيع الذي نام”.
هذا التحول من معاناة الصراع إلى سكينة التسامح يُمثل “نقطة ارتقاء روحية” (spiritual transcendence). يُشير الكاتب هنا إلى أن الخلاص الحقيقي ليس ماديًا أو اجتماعيًا بالضرورة، بل هو وجودي، يتحقق عبر التصالح مع الماضي، قبول الذات والآخر، والبحث عن المعنى في الروابط الإنسانية البسيطة. المقولة التي تُتبع هذه التأملات: “لا شيء أصح من الشعور بالانسجام مع العناصر، ولا شيء أثمن من السعادة الصغيرة العادية التي نتقاسمها مع المقربين والأصدقاء”. تُقدم فلسفة حياة تُعطي قيمة كبرى للحظات الهدوء والترابط الإنساني كملجأ أخير من قسوة العالم.

 فـي الختــــام..

في “الفضلاء”، يُقدم ياسمينة خضرا عملًا روائيًا يتجاوز مجرد السرد التاريخي ليُصبح دراسةً معمقةً للحالة الإنسانية في سياق من القسوة والتحولات. من خلال بناء سردي محكم يُركز على ترحيل الشخصية وتطورها النفسي، ورؤية نقدية للواقع تُفكك أبعاد الإمبريالية، التغير الاجتماعي، والصراع الوجودي، تُعطي الرواية للقارئ مادةً للتأمل في معنى الفضيلة، الصمود، والبحث عن السكينة حتى في أشد الظروف قتامة. إنها، بلا شك، إضافة قيّمة للمكتبة الأدبية التي تتناول تداخلات التاريخ والذات الإنسانية، وتُقدّم نموذجًا للواقعية النقدية التي لا تكتفي بتصوير الواقع بل تُحلّله وتُؤول دلالاته العميقة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19788

العدد 19788

الإثنين 02 جوان 2025
العدد 19787

العدد 19787

الأحد 01 جوان 2025
العدد 19786

العدد 19786

السبت 31 ماي 2025
العدد 19785

العدد 19785

الخميس 29 ماي 2025