غـرس الثّقافـة الأثريـة لدى الأجيـال الصّاعدة وتعزيـز ارتباطهم بالتّـراث الوطنـي
شهدت المواقع الأثرية بولاية الجلفة خلال سنة 2024 انتعاشا لافتا، مع تسجيل 276 زائر، بينهم أجانب وسفراء وطلبة جامعيون من مختلف جامعات الوطن، بحسب ما كشفته لـ “الشعب” مسؤولة المواقع الأثرية بالديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية، ليلى بن عيسى، حيث أرجعت هذا الإقبال المتزايد إلى القيمة الفنية الكبيرة التي تتمتّع بها هذه المواقع، التي تضم مجموعة متميزة من النقوش الصخرية تجسّد مختلف جوانب حياة الإنسان والحيوان منذ آلاف السنين.
تضم الجلفة أربعة مواقع رئيسية للفن الصخري المصنفة رسميا من قبل الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية وهي موقع “زكار”، موقع “عين الناقة”، موقع “سيدي بوبكر” وموقع “خنق الهلال”، إلى جانب موقعين للمعالم الجنائزية المغاليتية، “كاف الدشرة” و«عين الوكاريف”. وفي إطار تثمين المواقع الأثرية وتسهيل زيارتها، كشفت مسؤولة المواقع الأثرية عن الشروع في إعداد لافتات إرشادية وتعريفية بمختلف المواقع المصنفة، ممّا سيساهم في تحسين تجربة الزوار، وتسهيل فهم خصوصيات كل معلم أثري.
وأوضحت بن عيسى أنّ الديوان الوطني يسعى إلى الترويج للمواقع الأثرية في كل المناسبات، خاصة عبر استقبال تلاميذ المدارس والجامعات ضمن زيارات تنظّم في فضاء الطفل، وذلك بهدف غرس الثقافة الأثرية في نفوس الأجيال الصاعدة، وتعزيز ارتباطهم بالتراث الوطني.
جدارية العاشقان الخجولان
من أهم القطع الفنية التي اكتشفت في الجلفة جدارية “العاشقان الخجولان”، التي تظهر مشهدا عاطفيا يعكس التفاعل بين الرجل والمرأة في تلك الحقبة. وبحسب تصريحات مسؤولة المواقع الأثرية فإنّ هذه الجدارية تبرز ليس فقط ملامح الحياة العاطفية، بل تمثّل أيضا رمزية ثقافية تظهر الاحترام المتبادل بين الجنسين، بالإضافة إلى التفاعل العميق بين الإنسان والبيئة المحيطة به. كما تعكس أسلوبا فنيا مميزا في تصوير اللحظات العاطفية والتفاعلات في تلك الحقبة.
وتشير المتحدثة إلى أنّ هذه الجدارية لا تقتصر فقط على تصوير مشهد عاطفي بين الصياد والمرأة، بل تحمل رمزية ثقافية كبيرة تتعلق بالعلاقات الإنسانية، بالإضافة إلى التفاصيل الدقيقة التي تعكس حياة الأفراد في ذلك العصر.
وتوضّح أنّ في الجدارية يظهر الصياد، ذو اللحية والأنف البارز، وهو يرتدي قبعة منقطة ويجثو على ركبتيه مودعًا حبيبته قبل انطلاقه في رحلة الصيد. يحمل على ظهره كنانة تحتوي على أسهم، ويرافقه كلبه وحصاناه اللذان يسيران متتابعين بجانبه. هذا المشهد قد يكون له دلالات عميقة تتعلق بالمجتمع وتقاليده، حيث يربط بين الصياد الذي يمثل القوة والاستقلالية، وبين المرأة التي تجسد الأنوثة والحنان. أما المرأة في الجدارية، فهي تجلس في موقف أنيق تماما، تظهر شعرها الذي تم تسريحه ومربوط إلى الوراء بإحكام، بينما يديها متشابكتين، في إشارة إلى العلاقة العاطفية بين الطرفين. هذه التفاصيل الدقيقة ـ بحسب سعدية ـ تظهر مدى الاحترام والرعاية التي كانت تعرفها هذه العلاقات، كما تكشف عن النظرة المجتمعية إلى المرأة في تلك الفترة.
وتضيف بن عيسى قائلة: “هذه النقوش ليست فقط ملامح لحياة عاطفية، بل هي رمز للارتباط الروحي والوشائج العميقة التي تربط الأفراد مع بعضهم البعض ومع البيئة المحيطة بهم”. وفي خلفية الجدارية، تظهر مجموعة من الأشخاص الذين يحملون رموزا عقائدية، حيث يوجد شخص برأس فوق الأكتاف في وضعية تعبدية، مع أيد وأرجل مفتوحة. هذا يرمز إلى الجانب العقائدي في حياة الناس في تلك الحقبة، حيث كانت المعتقدات الدينية تشكل جزءا أساسيًا من حياة الإنسان وتفاعلاته مع العالم المحيط.
وتؤكد أن هذا النوع من الفن الصخري لا يمثل مجرد لوحات أو رسومات، بل هو عبارة عن وثيقة تاريخية حيّة تسجّل لنا الكثير من الطقوس والمعتقدات التي كانت سائدة في تلك العصور.
«الفن الصخري في الجلفة، كما يظهر في جدارية العاشقان الخجولان، هو تعبير ثقافي عميق عن التواصل الاجتماعي والروحانية التي سادت المجتمعات القديمة”، تقول المتحدثة.
الجامــوس العتيــق
ذكرت بن عيسى أنّ من بين أبرز الاكتشافات الأثرية في الجلفة هو الجاموس العتيق (Pelorovis Antiquus)، الذي عاش في فترة “البلايستوسين الأعلى”. يشكّل جزءا مهما من تاريخ المنطقة الثقافي والتراثي، ويمثل أحد المواضيع الرئيسية في الفن الصخري للأطلس الصحراوي، حيث تروي النقوش الصخرية للجاموس العتيق، التي تم اكتشافها في 17 موقعا أثريا عبر الجلفة، قصة هذه الحيوانات التي كانت جزءا أساسيا من حياة الإنسان القديم. واحدة من أبرز الاكتشافات هي جمجمة الجاموس جمجمة بقرون كاملة بطول 2 متر، التي تمّ العثور عليها في عام 1985 في منطقة الشارف، وهي معروضة الآن في المتحف البلدي بالجلفة، حيث تمثل رمزًا لعمق التاريخ الطبيعي والتراثي للمنطقة.
وأشارت إلى أنّ هذه الاكتشافات تساهم بشكل كبير في تعزيز الفهم التاريخي للمنطقة، وتحقيق الوعي الثقافي بضرورة الحفاظ على هذه المواقع الأثرية. كما شدّدت على أهمية تكثيف الجهود من أجل حماية المواقع الأثرية والفن الصخري، الذي يعد جزءًا أساسيًا من التراث الثقافي الوطني.
الملجأ الصّخري دير التارقوا
على بعد 800 متر من “العاشقان الخجولان”، يقع ملجأ “دير التارقوا” الذي يحتوي على مجموعة من النقوش الصخرية التي تظهر الجاموس العتيق في وضع جانبي، مما يعكس دقة تصوير الحيوانات في الفن الصخري. النقوش الأخرى تظهر حيوانات مثل الفيل والنعامة، مما يعكس التنوع الحيواني في تلك الفترة المميزة التي تحمل أسلوبا فنيا يعود إلى فترة ما قبل التاريخ.
هذه النقوش التي تم إنجازها بأسلوب “تازينة” وبمقاسات صغيرة، تظهر الجاموس العتيق بمنظور جانبي، حيث يتم تصوير رأسه مواجهة مع قرون طويلة تظهر قوة الحيوان، وهي من أقدم النقوش التي تعبّر عن أهمية الجاموس العتيق في تلك العصور. كما يظهر فيل مع جسم مستطيل وخرطوم وأطراف غير منتهية، ممّا يبرز الحذر والاهتمام في تصوير الكائنات بشكل دقيق.
وفي الملجأ الصخري الآخر الذي يبعد 200 متر عن دير “التارقوا”، نجد مجموعة أخرى من النقوش الصخرية التي تم إنجازها بمقاسات صغيرة، حيث يظهر صياد ذو شعر مجهد يحمل فأسا وأداة منجزة بخطين، بالإضافة إلى قوس يرافقه ثلاثة كلاب، ممّا يبرز الجانب اليومي للحياة القديمة، ويشير إلى دور الصيد في تلك الفترة. وتظهر النقوش أيضا فيلين منجزين بمنظور جانبي، ممّا يربط هذه النقوش بالحياة البرية والتفاعل بين الإنسان والحيوان.
نقوش دينية ورمزية عميقة
ومن بين النّقوش التي تستحق الذكر، هناك ثلاثة أشخاص برؤوس مستديرة وشخص آخر بجسم مقابل وأيد مرفوعة للأعلى، في إشارة قد تكون مرتبطة بالطقوس الدينية أو الاحتفالات التي كانت تمارس في تلك الحقبة. “تلك الرموز ربما تكون تعويذات دينية أو إشارات إلى الاعتقادات الروحية التي كانت سائدة في المجتمعات القديمة”.
الأستاذة بن عيسى وهي مسؤولة المواقع الأثرية بالجلفة، تشير إلى أنّ هذه النّقوش ليست مجرد رسومات عابرة، بل هي شهادات حية من الماضي على تفاعل الإنسان مع البيئة المحيطة به، وتعكس القدرة الإبداعية في تصوير الحيوانات التي كانت تلعب دورا رئيسيا في حياة الناس، إضافة إلى ذلك، يظهر تصوير للحمل كرمز للطوطمية، ممّا يعكس العلاقة العميقة بين الإنسان والطبيعة في تلك الحقبة، وتضيف “هذه الرسومات تتيح لنا الفرصة لفهم كيفية ارتباط الإنسان القديم بالعالم الطبيعي، وكيف كانت تلك الحيوانات جزءا من حياتهم اليومية والمعتقدات الدينية”.
حفـظ التّـراث الثّقافي مسؤوليـة الجميــع
تشير مسؤولة المواقع الأثرية في الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية، ليلى بن عيسى، إلى أن هذه المواقع الأثرية ليست مجرد معالم سياحية، بل هي شواهد حية على تاريخ وثقافة المنطقة. وتؤكّد أن الجهود يجب أن تتضافر لحماية هذه المواقع والحفاظ عليها للأجيال القادمة، وقالت “هذه المواقع تعد كنزا ثقافيا لا بد من الحفاظ عليه ودراسته بشكل دقيق، لضمان أن يظل جزءا من تراثنا الوطني”.