لوبيـات مشبوهــة تسعى لنـشر سمـوم فكريــة ضد الجزائـر
في لقاء خاص بثّه التلفزيون الجزائري، أثار الروائي رشيد بوجدرة جدلاً واسعًا بتطرّقه إلى قضايا حسّاسة، خلال حديثه عن الطبعة المنقحة من كتابه “زناة التاريخ” الصادر عن دار الحكمة. وقد وجّه بوجدرة انتقادات لاذعة لعدد من الكتّاب، واصفًا إيّاهم بـ«عبدة النظام الفرنسي”، كما أشار إلى ما اعتبره “انفصامًا عميقًا” يطبع الفكر والهوية في الجزائر، في طرح يعكس رؤيته النقدية الحادّة لمسارات الثقافة الوطنية.
أوضح بوجدرة أن إصدار الطبعة الجديدة من “زناة التاريخ” جاء في توقيت يراه مناسبا لإعادة فتح ملفات لم تُحسم بعد، لافتا إلى أن النسخة الأولى، التي صدرت قبل سبع سنوات، كانت بمثابة صرخة احتجاج ضد رموز ثقافية جزائرية، قال إنها “كانت في الماضي تعبث بحرية في الداخل، وتُظهر احتقارا واضحا للروح الوطنية”.
وأضاف أن فكرة تنقيح الكتاب جاءت بدافع من رغبته في مواجهة الصمت الذي تواصل لثماني سنوات، سواء من طرف المثقفين أو الصحفيين أو حتى بعض المقربين، مضيفا: “لم تصدر أي ردود فعل، لا من أصدقاء، ولا من فنانين أو صحفيين أعرفهم...شعرت بالخيبة”.
وعن سبب اختياره دار الحكمة لإعادة النشر، أشار بوجدرة إلى أن هذه الدار “تُمثل خطا وطنيا ثابتا منذ سنوات، ونشرت لي أعمالا قبل أكثر من 30 سنة منها “حلزونيات”، وهي الدار الوحيدة التي أرادت إعادة طبع الكتاب بتنقيح يتماشى مع تطورات المشهد السياسي في الجزائر والعالم، على غرار ما أضفته حول حرب إيران والكيان الصهيوني، وهو موضوع لم يكن مطروحا في النسخة الأولى.
عُقـدة تاريخيـة
تطرّق الكاتب، في حديثه، إلى انتقاده الشديد لما سماه “تبييض صورة ألبير كامو وإلباسه رداء غير ردائه”، مؤكدا أن بعض الكُتّاب يحاولون إلصاق صورة لا تشبهه به، متجاهلين حقيقته الاستعمارية والرجعية.
وأوضح أن المسألة تعود إلى نحو عشرين عاما، حين خططت السفارة الفرنسية لتنظيم قافلة ثقافية بمناسبة مئوية ألبير كامو، مؤكدا أن مجموعة من المثقفين، منهم هو نفسه، رفضوا تلك المبادرة إلى أن أُلغيت، مشددا على أن كامو “لم يكن أبدا مع الشعب الجزائري، بل منحازا لفرنسا الاستعمارية، ومدافعا متطرفا عن تفوق جنسه الأوروبي، فيما عبّر في كتاباته عن احتقار واضح للعربي الجزائري”.
وصرّح بوجدرة أن بعض المدافعين عن كامو لا يعرفون حقيقته، قائلا: “بالنسبة لي هو روائي عادي، لم يدهشني أبدا، ولم أقرأ له يومًا بشغف. كتب فقط أربع روايات وبعض التحليلات، ومع ذلك يتم تضخيمه بشكل مصطنع”.
وفي سياق آخر، تحدث بوجدرة عن ما وصفه بـ«عقدة الكراهية” لدى بعض الكُتّاب الجزائريين تجاه وطنهم، معتبرا أنها ما تزال حاضرة في أعمالهم وخطاباتهم، وتتغذى من دوافع أيديولوجية وأحيانا من ارتباطات خارجية مشبوهة.
وقال بوجدرة: “استخدمت تعبير “عقدة الكراهية” وهو ذات المفهوم الذي أشار إليه فرانز فانون، حين وصف حال المستعمَر الذي يرى المستعمِر سيدًا له، وهي نفسها الحالة التي تحدث عنها ابن خلدون حين قال إن العبد يظل منبهرًا بسيده حتى مماته”. وأضاف أن هذه العقدة تحوّلت إلى شكل من الفيروسات الفكرية، ما تزال تهيمن على بعض الأقلام، وتؤثر في مواقفها تجاه كل ما يمس بالوطن والهوية الجزائرية.
وأشار إلى أن هناك كُتابا يتحركون وفق مسارين متوازيين: “أولا بدافع أيديولوجي، وثانيًا بدافع الانتهازية، إذ حصل بعضهم سريعًا على جوائز كبرى، واستُقطبوا للعمل في مؤسسات إعلامية غربية مرموقة، ما يطرح تساؤلات حول نواياهم ومساراتهم”.
غيــاب الــردّ النقــدي
وفي معرض حديثه عن التفاعل مع كتابه، كشف رشيد بوجدرة أن بعض أصدقائه لاموه بلطف على حدّته، رغم اتفاقهم معه في الجوهر، قائلا: “قالوا لي معك حق، لكنك كنت قاسيا، وأنا أقول لم أكن كذلك، والدليل أن الأمور بعد سبع سنوات زادت سوءا، وانكشفت نوايا هؤلاء بشكل أفظع”.
وأكد أنه لا يوجد رد من طرف النخبة، وأن ما كتب حول هذه المسائل قليل جدا، مشيرا إلى أن أستاذا في علم الاجتماع بوهران كتب من قبل دراسة قيمة عن علاقة كمال داود بألبير كامو، كما أشارت أستاذة في علم النفس بباريس من أصل مغاربي كتبت كيف كتب كمال داوود كتابا عن كامو - إعادة قراءة كامو.
وأوضح رشيد بوجدرة أن بعض الخطابات ذهبت إلى أبعد من الانحياز الرمزي إلى العدو الاستعماري، بل مست حتى بالسيادة الترابية الجزائرية، وطرح سيناريوهات تعيسة وبائسة، وهي طروحات لا يمكن أن تُفهم إلا ضمن مشروع معاد للوطن.
وعن تصنيفه لهؤلاء ضمن الطائفة الملعونة؟ قال: “أعتقد أن لا وصف أدقّ من هذا. هناك من صار يهلوس حرفيا، وهو في الحقيقة إنسان مريض فكريا، تائه بين ذاكرة مشوهة وولاء خارجي مشبوه.”
وأضاف، نحن نحاكم الأفكار والمواقف. من يكتب اليوم ضد الجزائر، سواء عن وعي أو خدمة لأجندة، يجب أن يُواجه فكريا بالحجج، لا بالصمت والسكوت.
المواجهــة تحتــاج إلى حــرب بالقلـــم
وفي سياق نقده المستمر لما سمّاه “تشويها للتاريخ الوطني”، عاد الروائي رشيد بوجدرة للربط بين بعض الكتّاب الجزائريين الذين ينتقدهم وبين دوائر فرنسية معروفة بمواقفها الرجعية، مشيرا إلى أن كتاباته “تستهدف كشف هذا التواطؤ المكشوف”.
وأكد رشيد بوجدرة، في هذا السياق، أن بعض هؤلاء الكتّاب، “تصفق لهم تيارات من اليمين الفرنسي الرجعي والمتغطرس، بل إن العلاقة بينهم وبين هذه الدوائر لم تعد تخفى على أحد”، مضيفًا أن الكاتب بوعلام صنصال، على سبيل المثال، “بات أكثر التصاقا باليمين المتطرف منه باليمين التقليدي، رغم أنه درس وشغل في الجزائر مناصب عليا.”
إعادة طــــرح التاريـــخ الجزائــري
وفي معرض حديثه عن إمكانية إعادة ربط الجزائريين بالمعرفة الحقيقية، شدّد الروائي رشيد بوجدرة على أنّ هناك تعطشًا ملموسًا لدى فئات واسعة من الجزائريين لفهم تاريخهم والاطلاع على المعرفة الصادقة غير المفلترة أو المشوّهة. وأوضح أن هذا التوق المعرفي يعكس حالة من الوعي الشعبي المتنامي، لكنه يصطدم بعقبات، في مقدّمتها عجز المنظومة التربوية عن أداء دورها التنويري، قائلاً إن المدرسة الجزائرية لم تقم بدورها كاملاً في هذا الجانب، لا من حيث المحتوى ولا من حيث أدوات التلقين والتحليل.
وأشار بوجدرة إلى أن “البرامج التربوية غيّبت التاريخ الوطني، واختزلته في سرديات مبتورة لا تعبّر عن تعقيد التجربة الجزائرية ولا عن تعدّد روافدها”، مرجّحًا أن يكون هذا التغييب ناتجًا عن ضعف في التأسيس بعد الاستقلال، حين كانت الدولة الجزائرية فتية وتعمل على تثبيت أركانها وسط ظروف إقليمية ودولية مضطربة. لكن، كما قال، “بعد أكثر من ستين سنة من الاستقلال، لم يعد مقبولاً أن يظل التاريخ الجزائري مغيّبًا أو مُشوَّهًا داخل المؤسسات التعليمية، بل يجب طرحه بكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات، من مجد وخيبات، داخل المدارس والجامعات، حتى يتكوّن وعي نقدي لدى الأجيال الصاعدة، يعزز انتماءها الوطني ويمنحها أدوات فهم الحاضر واستشراف المستقبل.”
ظاهـــرة آيلـة للــزوال
وحين سُئل الروائي رشيد بوجدرة عمّا إذا كان يعتبر موجة التشويه والتشكيك التي تطال التاريخ الوطني ـ لا سيما تاريخ الثورة التحريرية ـ مجرد حالة ظرفية عابرة، أجاب بثقة واطمئنان: “أكيد ظرفية آيلة للزوال”. وأوضح أن محاولات طمس الذاكرة الوطنية أو التشكيك في رموزها ومنجزاتها لا يمكن أن تصمد طويلاً أمام عمق التجربة الجزائرية ومرارة المعاناة التي عاشها الشعب الجزائري تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، مشددًا على أن “التاريخ الجزائري، وخاصة تاريخ الثورة، أعمق من أن يُمحى”، وأن آثار الاستعمار ومآسيه ما تزال محفورة في الوجدان الجمعي للشعب، وستظل حاضرة في الذاكرة التاريخية مهما حاول البعض طمسها أو تزييفها.
وأضاف بوجدرة، بأسلوبه الحاد المعروف، أن هذه المحاولات الممنهجة لإعادة كتابة التاريخ وفق رؤى فرنكوفونية أو تبريرية لن تفضي إلا إلى مزيد من الرفض الشعبي، لأن الجزائريين، حسبه، أصبحوا أكثر وعيًا بمصادر التضليل وأساليبه. وتابع قائلاً: “بعد سنوات، ستبتلع فرنسا بأموالها وجوائزها أمثال كمال داوود”، في إشارة إلى ما يصفه بعملية الاحتواء الثقافي التي تمارسها بعض الدوائر الفرنسية لخلق رموز بديلة تروّج لرؤية مُفرغة من الروح الوطنية. واعتبر بوجدرة أن هؤلاء الأشخاص سرعان ما ستتجاوزهم الأحداث، لأن ما يبقى في النهاية هو ما خطّه التاريخ الحقيقي، لا ما كُتب برعاية الجوائز أو تحت ضغط الإيديولوجيا.
عـن اللوبيـات الإعلاميــة…ومناعــة المتلقــي
وشدّد بوجدرة على أن هؤلاء الكتاب الذي سماهم “زناة التاريخ” تُسَوّق من طرف لوبيات إعلامية قوية، تتصدرها شبكات ذات خلفية صهيونية، معتبرا أن هذه اللوبيات تسعى إلى “نشر السموم الفكرية التي تهدم الوعي الوطني وتعيد إنتاج صورة مشوهة عن الهوية والتاريخ”.
وحول كيفية تلقي المتلقي الجزائري لهذه المواد، قال: “لا سبيل إلا المقاومة بالقلم. أثناء الثورة كانت البنادق، واليوم أقلامنا هي سلاحنا. إذا قام المثقفون والمجتمع برد هجومي بالقلم، سنرى نتيجة مختلفة. لكن للأسف هناك صمت، وربما خوف، وهو ما يشجع هؤلاء على التمادي”.
وأكد أنه من خلال الطبعة المنقحة من كتابه “زناة التاريخ”، وجه “رسالة بالدرجة الأولى إلى المواطن الجزائري، حتى يستفيق من الغفلة وهو يشاهد بأمّ عينه تزوير تاريخه على أيدي من وصفهم بـ«الزناة”، الذين يسعون خلف المال والشهرة ورضا المستعمر القديم.”
وصرّح قائلا: “هي الجملة الأساسية التي بنيت عليها الكتاب. هناك مرض معروف اسمه الاستيلاب، وهو ما تحدث عنه فانون أيضا، حيث يستمر المستعمَر في الاشتياق لمن عذّبه وقتله وهجّره. هذا مرض نفسي وفكري موجود لدى بعض الشعوب، وليس في الجزائر فقط”.
قطيعـة معلنـة..
وبنبرة قاطعة قال بوجدرة: “اليوم لا يوجد ما يُقال، سبق وأن وجهت لهم عدة رسائل. كنت ألتقي بصنصال وأتحدث معه وأنصحه وأقول له: أنت درست في الجزائر ووظفت في مؤسساتها، كيف لك أن تتنكر بهذا الشكل؟ لكن لا جواب سوى أنك لاتفهمني..اليوم أنا في قطيعة نهائية مع هؤلاء.”
وحول ما إذا كان يُحضر لعمل جديد في نفس السياق، قال: “ربما، لست أدري. أنا الآن في فترة استراحة، لكن قد تكون هناك رواية لاحقا تتناول هذه المواضيع التي تناولتها بمنظور سوسيولوجي، سياسي ونفسي في آن واحد.