صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب ابن الهيثم: انبثاق الحداثة الكلاسيكي
،ضمن سلسلة “ترجمان”، وهو من تأليف رشدي راشد، وترجمة يوسف بن عثمان.
ويشتمل هذا الكتاب على 464 صفحة، متضمّنًا مقدمة للمترجم، وتوطئة، ومقدّمة، وأربعة عشر فصلًا موزّعة على أربعة أقسام، إضافة إلى ثَبْتِ مصطلحاتٍ ومراجع وفهرس عامّ. ويُعدّ حصيلةً لأكثر من أربعين عامًا من البحث والترجمة والتحقيق، قدّم فيها المؤلف تحليلًا نقديًّا للنصوص العلمية في مجالات الرياضيات، وعلم المناظر، والفلك، وفلسفة الرياضيات.
ويُبرز، عبر هذه المقاربات، حداثة الفكر العلمي لدى الحسن بن الهيثم، معتبرًا أنه ليس امتدادًا للتراث القديم فحسب، بل إنه أيضًا رائدٌ للتحديث العلمي ومصحّحٌ لسردياتٍ تاريخية قلّما أنصفت العلوم العربية ومكانتها أيضًا.
إنّ ثقل الأثر الذي تركه الحسن بن الهيثم، والذي استحقّ به لقب “بطليموس الثاني”، جعله محاطًا بـ«هالة أسطورية” في كتب التراجم، حيث تختلط الرواية التاريخية بالأسطورة. وُلد هذا المفكّر في البصرة، ولكنْ تظلّ حياته، من ميلاده إلى بلوغه سنّ الشيخوخة، غامضة. وقد وفد إلى مصر في زمن ازدهار الخلافة الفاطمية علميًّا، خصوصًا في عهد الحاكم بأمر الله، الذي جعل من القاهرة مركزًا علميًّا، وجامعة الأزهر منبرًا للدعوة والمعرفة.
روايات السيرة بين التاريخ والأسطورة
اعتمد المؤرخون على خمسة مصادر ترجمية تتفاوت في دقّتها واستقلالها، أبرزها روايتَا أحمد بن الحسين البيهقي وجمال الدين علي بن يوسف القفطي؛ إذ يروي البيهقي مجيء ابن الهيثم إلى القاهرة، ولقاءه بالحاكم، ثم فشل مشروعه في تنظيم منسوب النيل، وفراره إلى الشام. لكنّ هذه الرواية، بما فيها من تفاصيل درامية (ركوب الحاكم حمارًا، وأمرُه بهدم دكانٍ ... إلخ)، يُشتبه في صحّتها، ولا يُعتد بها إلا فيما يمكن التحقق منه؛ على غرار مجيئه بـ “مشروع هندسي” إلى مصر.
أمّا القفطي، فقد نقل سيرةً أكثر تفصيلًا، تتحدث عن دعوة الخليفة لابن الهيثم، ولقائهما في قرية الخندق، ورحلة المهندس إلى أقصى جنوب مصر لمعاينة نهر النيل، وانهيار مشروعه بعد أن أيقن صعوبة التنفيذ، ثم تظاهره بالجنون اتقاءً لبطش الحاكم. ومع أن القفطي أكثر دراية بمصر، فإنّ وفرة التفاصيل تثير الريبة؛ فهو لا يستند إلى سيرة ذاتية، بل ربما تخيّل مشاهد استنادًا إلى “صدًى بعيد”.
مشروع هندسة المياه
تتفق الروايتان على أن ابن الهيثم أتى من العراق إلى مصر في نهاية القرن العاشر الميلادي، وأنه التقى الحاكم بأمر الله وعرض عليه مشروعًا في هندسة المياه (ربما لتقنين فيضان النيل)، وأن هذا الأمر قد رُفض، فتراجع ابن الهيثم عن المشروع. أمّا ما يُروى عن تظاهره بالجنون، فليس ثمّة دليل حاسم عليه. ويُحتمل أنه أقام في مكان قريب من جامع الأزهر، حيث كانت القاهرة مركزًا علميًّا، لكنه بقي غير معروف حتى وفاته سنة 1040م (بعد وفاة الحاكم بأمر الله).
مساهمات ابن الهيثم العلمية
رغم قلّة ما نُقل عن حياة ابن الهيثم، فإن آثاره العلمية محفوظة؛ إذ ألّف نحو 96 كتابًا، نصفها في الرياضيات، و14 كتابًا في علم المناظر، و23 في الفلك، وله كُتب أخرى في الفلسفة والميكانيكا والتنجيم. وقد ركّز في الرياضيات على الهندسة بدلًا من الجبر، مواصلًا تقاليد بني موسى وثابت بن قرة، مع إضافات جديدة في الرياضيات اللامتناهية، والقطوع المخروطية، والتحويلات الهندسية. وإضافةً إلى ذلك، كتب في الطوبولوجيا ومناهج البرهان.
أحدث ابن الهيثم ثورة علمية في علم المناظر؛ فهو لم يكتفِ بشرح الإبصار، بل درس الضوء وانتشاره وآثاره، وكتب في انعكاسه، وانعطافه، والهالات، وقوس قزح. أمّا في الفلك، فقد كتب 23 مؤلفًا، معظمها لم يُدرس على نحو عميق، لكنه أثّر في مدرسة “مراغة”، وألهم نصير الدين محمد الطوسي ومؤيد الدين العرضي، وتُرجمت أعماله إلى اللاتينية، فكان لها تأثير واسع في أوروبا (كبلر، وسنِيل، وفيرما، فضلًا عن آخرين). وهكذا، فإنه كان بمنزلة “نقطة اكتمال” لتقليد علمي سابق، وبداية لمرحلة جديدة مؤسِّسة لنهضة في العلوم البصرية والرياضية؛ ما جعله أحد أبرز أعلام العقل العلمي الإسلامي، وأكثرهم إشراقًا وتأثيرًا.