قصر مغرار التحتاني أو قلعـة الشيخ بوعمامة

تاريـخ عريـق أعلـى مــن النّسيان..

النعامة: محمد أمين سعيدي

تعتبر “قلعة الشيخ بوعمامة” ببلدية مغرار جنوب ولاية النعامة من بين المعالم التاريخية والأثرية العريقة التي يزخر بها الجنوب الجزائري، حيث تعد تراثا ماديا، فهي مهد مقاومة الشيخ بوعمامة ونقطة انطلاق شرارة مقاومته الباسلة التي تعد أطول مقاومة بالجزائر، أدّت إلى عرقلة توغّل دخول المستعمر الفرنسي إلى الجنوب..


على بعد 150 كلم جنوب ولاية النعامة، يقع قصر مغرار التحتاني أو (قلعة الشيخ بوعمامة حاليا)، وتبعد عن مقر البلدية الأم مغرار الفوقاني بـ10 كلم شرقا وعن الطريق الوطني رقم 06 المؤدّي إلى ولاية بشار بـ05 كلم..
يتربّع هذا القصر على مساحة 2 هكتار، تحيط به الواحة من الجهة الغربية، وسلسلة جبال صخرية من الجهات الأخرى (الشمالية، الشرقية والجنوبية)، تم بناؤه على منحدر موجّه نحو الشمال الغربي، من الطوب المحلّي الذي يعطي صبغة تقليدية تزداد جمالا حينما تمتزج ألوان القصر مع ألوان الجبال والتربة ذات اللون البني الأحمر.
أصل كلمة مغرار تركيب من “أم” و«لغرار”، ولتسهيل النطق، حذف اللام فأصبحت امغرار، ولغرار هي أرض منخفضة بها أشجار البطم الكثيرة أو ما شابهها من أشجار، وأهل القرار هم أهل الحضر المستقرون في منازلهم خلاف أهل البدو، ومهما يكن، فالتسمية عربية، أما “التحتاني” فهي صفة لهذه القرية؛ لأنّ هناك مغرار الفوقاني وتقع غربا على بعد 15 كلم في أعلى الوادي، استقر بها الإنسان منذ ما قبل التاريخ، وهذا ما تثبته الرسومات الصخرية المتواجدة والتي حدد الخبراء تاريخها قبل الميلاد بآلاف السنين، ومن أهمها محطة أم البرايم أو الصياد والتي خلّدت في ورقة 1000 دج، وقد اكتشفت وسجّلت هذه الرسومات من طرف الدكتور “فليكس جاكو” الذي كان يرافق النقيب كوش “Koch” خلال حملة الجنرال على الصحراء الجزائرية في ماي 1847 بعد اكتشافه لرسومات تيوت في 25 أفريل1847، وبعد ذلك رسومات بضواحي قصر مغرار التحتاني في 29 أفريل 1847، واعتبر هذا الاكتشاف الأول في العالم لرسومات ما قبل التاريخ، حيث لم تكن هذه الرسومات تثير أيّ اهتمام في أيّ مكان في العالم، والرسومات الصخرية بقصر مغرار التحتاني تحوي حيوانات برية كالأسد، وحيد القرن، الفيل، الغزال، النعامة والزرافة أيّ كلّ حيوانات منطقة “الصفانا” الموجودة في إفريقيا كما توجد صور الإنسان ورموز غريبة غير مفهومة.

متحــف الشيـــخ بوعمامــة

توجد حول قلعة الشيخ بوعمامة بقايا ورش لما قبل التاريخ، أين كان إنسان ذلك العصر يصنع رؤوس السهام من الحجارة والصوان، وهذه الآثار مازالت موجودة بعين المكان، وبمتحف الشيخ بوعمامة بقصر مغرار التحتاني، ويعتبر هذا المتحف مرجعا للبحث بالمنطقة؛ لأنّه يحتوي على آثار عدّة ومتنوّعة رتبت من ظهور الحيوانات الصغيرة المائية قبل ملايين السنين، وهي عبارة عن أصداف الأمونيت وقنفذ البحر ونباتات وأخشاب متحجّرة، طائر النعامة وصناعات الإنسان الحجرية، من العصر الحجري القديم الأسفل قبل 300 ألف سنة إلى العصر الحجري الحديث المتأخر، والذي ظهر بعده مباشرة عصر المعادن كالبرنز والحديد، كما توجد بالمتحف صور قديمة للقصر تعود إلى سنة 1847 ووثائق متعلّقة بثورة الشيخ بوعمامة والثورة التحريرية والصناعة التقليدية ومقر هذا المتحف هو دار الشيخ بوعمامة التي أعيد تأهيلها وترميمها..
يحاط القصر بمجموعة من الطرق الميكانيكية، وهو مزوّد بمجموعة من الأزقة والمنافذ، أما المكان المرتفع في محيط القصر، فهو جبل البرج الكبير الواقع في الجهة الجنوبية الشرقية الذي يشرف على القصر والواحة، ويمكن الوصول إليه عبر سلالم مبنية من الحجر الصخري، ونجد جنوبا مقبرة بها ضريحا الواليين الصالحين سيدي الشيخ وسيدي عبد القادر بن محمد، وفي الجهة الشرقية مساكن حديثة البناء، شيّدت مع مطلع الثمانينيات من طرف السكان الذين كانوا يقطنون داخل القصر.

 مغرار التحتاني

 يتميّز قصر مغرار التحتاني أو قلعة الشيخ بوعمامة بأربعة مداخل (أبواب) أساسية وبرجين للمراقبة. وهم باب آيت علي (بابات علي) وبجانبه برج مراقبة (ذو شكل دائري) يبلغ ارتفاعه حوالي 18 متر وقطره 3 متر، وأمامه مباشرة توجد عين طبيعية تسمى بعين سيدي بحوص الحاج التي تستعمل لسقي الواحة، كما توجد ساحة تسمى بـ«ماكرورب” تتفرع منها ثلاثة أزقة تؤدّي إلى البيوت الداخلية لقصر المسجد القديم.
أما المدخل الثاني للقصر فهو باب الشرفة (تاشرافت) يوجد بجانبه الأيمن بئر تسمى “حاسي حمادي”، أما الجهة اليسرى، فبها دار الشيخ بوعمامة التي تم إنجاز على أرضيتها مجمعا ثقافيا يضم متحف دار الضياف ومحلات للحرفيين، كما يوجد مكان يسمى بـ«الشرافة”، مغطى ويحتوي على مقاعد للجلوس أو بما يعرف بالدكانة كانت تستعمل للقيلولة خاصة من قبل الأشخاص الكبار، وأيضا كانت مكانا للتشاور وتبادل الآراء وكذا المراقبة، وأيّ شخص غريب يتم توجيهه والإشراف على استقباله.
تحتوي باب الشرافة على ساعة شمسية حائطية.. تتفرّع الحركة إلى داخل القصر عبر أزقة مختلفة: باب آغراو وساحة الداير (السوق القديم)، كما توجد رحبة ذات شكل مثلث كانت عبارة عن سوق محلية تحتوي على محلات تجارية بنيت مع مطلع الخمسينيات من الحجارة والإسمنت، وعند الدخول من باب آغراو يوجد زقاق مفتوح يتم عبره التنقل إلى داخل القصر أين يوجد مدخل “باب آيت علي” (بابات علي) وهي مجموعة من الأزقة المختلفة الأشكال والمقاييس.
أما المدخل الرابع باب أغراو النقب (ممرات ضيقة)، ويعتبر هذا المدخل المخرج الوحيد للجهة الشرقية للقصر والذي يليه الجبل الذي به البرج الكبير، يؤدّي هذا المدخل إلى داخل القصر من الجهة اليمنى، حيث توجد دار “سيد لحبيب” التي كان يقام بها كلّ بداية شهر جوان عادة شعبية تسمى “العبوز” خاص بالأطفال الذين ولدوا مع بداية السنة الجديدة.

قصور من الطوب والحجارة وجذوع النخيل

قصور الجنوب الغربي خاصة قصر مغرار التحتاني، بيوتها مكوّنة من طابقين في الأغلب، مبنية من الطوب والحجارة وجذوع النخيل، يتم الدخول إليها عبر باب مجهز بنظام إغلاق محلي الصنع يسمى بـ«المشطة” أو “الرزامة”، كما تحتوي على حوش وسط أو “السواري”، ويتوفر الطابق الأرضي على مخازن كنيف (مرحاض) وسلالم الصعود، وتختلف القصور من حيث المساحة وذلك حسب عدد أفراد كلّ أسرة أو اختلاف الثروة لديها، ولكنها لا تختلف تصاميمها، فمعظمها يأخذ الشكل المستطيل أو المربع، ويعود ذلك إلى أسلوب الحياة ونمط العيش لدى أهل القصر المرتبطة بالبساطة في التعامل مع الحاجات اليومية لهم، فهم يشكلون عائلة كبيرة موزّعة على أحياء القصر، ويتكوّن كلّ بيت في غالب الأحيان من طابق أو طابقين وساحة مركزية، وأي بناء أعلى منها قد يسيء إلى حرمة البيوت الأخرى، فالطابق الأرضي يضم غرفا مخصّصة لإيداع العتاد الفلاحي التقليدي والحطب وعلف الحيوانات لكونها مصدر عيشهم، كالغنم والماعز والبقر والخيل، ويتوفر علاوة على ذلك على غرفتين أو أكثر مخصّصة لمؤن العائلة المخزن (الخابيات) على مدار السنة، مثل الحبوب الجافة والتمر وهي بذلك تشكل مخازن ضرورية يحتاجها كلّ بيت، وفي بعض الأحيان توجد وحدات الاستقبال الخاصة بالضيوف..
أما الطابق العلوي فيضم غرفا للنوم وغرفة كبيرة للضيوف والتي تعد من أهم الغرف، حيث منحها سكان القصر أهمية كبرى بتوسيعها وتزيين سقفها، وكذا المطبخ، المنسج التقليدي الذي كان مكانه في جهة من الجهات الأربع مقابل فتحة وسط الدار (السواري)، وقد نجد كذلك فرن الطين في أحد أركان وسط الدار(الحوش)، أما المساحة الإجمالية لكلّ منزل لا تفوق 200م² ولا تقل عن 60م²، وتعد الأبواب أو المداخل من المعالم الأساسية المفترض تواجدها ضمن كافة المنشآت السكنية، ويظهر جليا في أبواب منازل القصر عدم مواجهة الأبواب لبعضها البعض حفاظا على حرمة من بداخل المنـزل، وغالبا ما وجدت الأبواب في الشوارع الثانوية، حيث تحمل هذه الشوارع خصوصية أكثر من الشوارع الرئيسية.. كما شاع استخدام المداخل المنكسرة لحجب الداخل عن أنظار الخارج أو ما تعرف بالمداخل الحاجبة، ونجد أنّ بعض البيوت كانت تحتوي على أكثر من مدخل، حيث أنّ هناك مدخل خاص بأهل الدار، والآخر للضيوف، وقد صنعت هذه المداخل من جذوع النخيل المقطعة طوليا تجمع متوازية وتثبت بقطعة خشبية أعلى الباب وأخرى أسفله، مع محور يدور حوله الباب، وقد امتازت بانخفاض ارتفاعها، حيث يتراوح 1.70م وعرضها 0.90 م وهي ذات مصراع واحد صنعت أقفالها من الخشب.

السقائـــف والأروقــــة..

وبعد اجتياز المدخل مباشرة يوجد مكان يسمى بالسقيفة والتي تعدّ بمثابة الفاصل بين الشارع والمنزل، يكمن دورها في حجب الرؤية على من يتواجدون خارج البيت، وغالبا ما يكون التخطيط الهندسي للسقيفة ذو شكل مستطيل لا يتجاوز قياسها 2م×3.80م، وبالسقيفة ينتظر الغريب حتى يأذن له بالدخول، كما تعتبر فاصلا بين الداخل والخارج، ممّا يسمح بترك الباب مفتوحا لتسهيل حركة الهواء، وهي فضاء مظلم يتم المرور من خلاله إلى الفضاء العمومي المضيء، في بعض الأحيان وعندما تكون السقيفة واسعة قد نجد مجالا خاصا بالحيوانات أو مخصّصا للنشاط العائلي، وقد تتوفر على بئر، أما الفناء (وسط الدار) فهو مساحة مكشوفة تتوسّط المنزل يأتي مباشرة بعد السقيفة، ومنها إلى الغرف أو الفضاءات الأخرى، ولها دور أساسي في تزويد الغرف بالنسيم البارد أثناء ليالي الصيف، كما تعمل على تجديد الهواء النقي وكذا الإضاءة.. فبفضل الفناء ينعزل أصحاب المنـزل عن ضوضاء الشوارع وفضول المارة والجيران وتختلف من بيت إلى آخر من حيث المساحة، وقد تميّزت أفنية المنازل بوجود فتحات مستطيلة أو مربعة الشكل لا يفوق قياس ضلعها 2م وبارتفاع 0.50 م وسمك جدارها 0.40 م. يأخذ الفناء على العموم الشكل الهندسي للدار.
أما الأروقـة فهي عبارة عن مساحة مسقفة تحيط بالصحن (الفناء) من جهتين أو الجهات الأربعة وهي تفصل بين الصحن والغرف، وتشكل ممرات نحو الغرف أو نحو الصحن ومنها يمكن الصعود نحو الطابق العلوي في حال وجوده، وتتخذ بمثابة جسر يقوم عليه ممر الطابق العلوي، بالإضافة إلى الغرف والمطبخ الذي يعد أحد المرافق الضرورية للمنزل به مدخنة تشغل حيزا في إحدى الزوايا وتستغل في الطبخ، حيث تمتد داخل الجدار إلى أعلى السطح حتى يسمح بتسرب الدخان إلى الخارج، إلى جانب غرف تستغل كمخازن مبنية بعناية خاصة، بحيث تراعى فيها شروط معينة لما لها من خصوصيات، فهي غرف ضيقة، تحتل موقعا في هذه الدار بعيدا عن الأنظار ويكون أبرد مكان فيها، وأقلّ عرضة لأشعة الشمس، أما دورة المياه أو المرحاض فيسمى بـ«الكنيف” يوجد غالبا في الطابق الأرضي في مكان معزول، ويستعمل السطح للنوم في فصل الصيف، وتقوم النساء بتجفيف الملابس والمواد الغذائية به، كما يعد مكانا للعب الأطفال.

قصــر الشيـــخ بوعمامـــة

اختار الشيخ بوعمامة قصر مغرار التحتاني للإقامة به، بعدما تفطن لوجود مؤهلات حربية لا توجد بغيره من القصور، كالنظام الأمني المتمثل في الأبراج والذي كان ما يزال مستعملا آنذاك، إلى جانب سكانه المؤهلين للدفاع والقتال والذين تمكنوا من الصمود رغم الأطماع والتحرشات، فضلا عن الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء في هذا القصر وبساتينه الغناء والسواقي المتدفقة، ونظرا لكونه أيضا ملتقى للقوافل، ولكون سكانه من سلالة شريفة أيّ من أحفاد سيدي الشيخ الذي كان تقيا ورعا متصوّفا عارفا بشؤون القتال، أحبه الأهالي ووهبوه قطعة أرض كبيرة قرب المسجد، فشيد عليها زاوية وسرعان ما ذاع صيته وصيتها بين القبائل، ونظرا لكون مغرار التحتاني ممرا للقوافل القادمة من الشمال والهضاب العليا (قبائل احميان) إلى قورارة (تيميمون) عبر واد الناموس، أصبحت زاويته تتمتع باهتمام خاص من قبل سكان الجنوب الغربي الجزائري كله، وكثر مريدي طريقته (الطريقة الشيخية)، فكان الشيخ بوعمامة لا يكتفي بتلقين مريديه العلوم الدينية بل يتعداها إلى حثهم على الجهاد في سبيل الله ضدّ المحتل الكافر فلقي تجاوبا كبيرا وصارت زاويته مركزا للتحضير للجهاد، حيث أنشأ مصنعا للبارود المستحضر من الدفلة والفحم والكبريت وملح البارود، وصناعة الأسلحة وجمعها، إضافة إلى صناعة السيوف وتخزين المؤن لمواجهة الجيش الفرنسي. ثم جاء اللقاء الحاسم يوم 19 ماي 1881 بمعركة “تازينة” شرقي الشلالة ولاية البيض حاليا والتي شاركت فيها كلّ قبائل الجنوب، وُهزم الفرنسيون شرّ هزيمة، ومنذ ذلك الحين أصبحوا يحسبون ألف حساب للشيخ بوعمامة، والذي بعد أن لاحظ أنّ الاستعمار استحضر قوات كبيرة جدّا غير مقر قيادته من مغرار التحتاني إلى أقصى الجنوب، وبعد معركة “طاحنة” ضواحي مغرار التحتاني انسحب إثرها إلى “دلدول” بقورارة فقام الاحتلال الفرنسي بتدمير زاويته يوم 21 نوفمبر 1881، حيث تمكّن حارس البرج الذي يشاهد العدو إشعار حارس البرج المجاور بالدخان، فاستعد الجميع للدّفاع عنها، وهكذا تمكّنت الواحة من الصمود والبقاء إلى أن دخلها الاستعمار الفرنسي عام 1847 بعد أن فشل سنة 1846 في اقتحام سورها.

مغــــرار.. بوابـــة الصحـــراء

 تعتبر منطقة قصر مغرار التحتاني بوابة الصحراء على مرّ المراحل التاريخية باتجاه الجنوب إلى غاية تاغيت بالساورة وأولاد عيسى بقورارة، أحاطها أهلها قبل مئات السنين بحزام من أبراج المراقبة والدفاع، وأنّ رصيدها الحضاري ودورها الاقتصادي بين الشمال والجنوب جعل منها ملتقى القوافل ومنطقة انطلاق أطول مقاومة في تاريخ الجزائر ضدّ الاستعمار الفرنسي، فضلا على محيطها الأثري إذ تتربّع على منطقة عرفت تواجد الإنسان القديم.
القصر معلم شاهد على فترات تاريخية عرفتها منطقة مغرار التحتاني، ويجسد النمط الاجتماعي والاقتصادي لساكنيه، إذ يعتبر القصر مفتاح كلّ بحث ودراسة في أيّ مجال، هو اليوم في حاجة إلى التفاتة حقيقية من أجل ترميمه وحمايته من الاندثار.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19464

العدد 19464

الثلاثاء 07 ماي 2024
العدد 19463

العدد 19463

الإثنين 06 ماي 2024
العدد 19462

العدد 19462

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024